الاثنين، 27 يونيو 2016

صور من حياة أمير دار صباح الأمير عثمان دقنة

في تاريخ السودان المعاصر، تقف معارك الثورة المهدية  مثالاً حياً علي وحدة قطاعات الشعب السوداني ضد عدو واحد وهو الاستعمار التركي او بالاحري مملكة محمد علي باشا واسرته . اتسم تاريخ المهدية في الفترة التي سبقتها وفترة حكمها وانهيارها بالحراك الشديد رغم قصر الفترة بكل ما يمثله  ذلك الحراك من خلافات وتضحيات في الانفس والثمرات . عدد الضحايا كان كبيرا و يفوق كل التصورات التي يعكسها تاريخ السودان المعاصر في هذه الفترة التاريخية القصيرة التي امتدت من اعلان المهدية في ابا في العام 1881 ومعركة شيكان و انبثاق الحركات الداعمة للثورة في الشمال ( محمد خير الغبشاوي)  والشرق  ( دقنة وانصاره ) والوسط و انتهاء بمعركة ام دبيكرات في 1898 .  
دور المقاتلين من قبائل البجا في نصرة المهدية كان محوريا وكبيرا، حيث نجحوا في صد حملتي بيكر وجراهام المنطلقتين من البحر الاحمر الي داخل السودان . كانت تجهيزات الحملتين كبيرة ومتنوعة سواء من حيث عدد الجنود او العتاد لم تقل عن جاهزية من جيش كتشنر الذي قاد حملة استعادة السودان والقضاء على الدولة المهدية. من المؤكد ان حملة كتشنر استفادت من اخطاء الحملات الاولي .  كما شارك جنود دقنة في معارك النهاية للدولة المهدية مثل النخيلة وكرري وآخرها معركة ام دبيكرات التي شهدت انتهاء الدولة المهدية.
تاريخ المهدية لا سيما شرق السودان يرتبط بشخصية الامير عثمان ابوبكر دقنة وهو من اشهر قادة المهدية العسكريين والسياسيين. ولعب دورا هاما في تاريخ السودان بشكل عام. ولد دقنة لاسرة سواكنية ترجع جذورها من ناحية الجد الي مدينة ديار بكر في كردستان التركية الحالية واختلطت بقبائل البجا لعقود. وهو حال معظم الاسر السواكنية التي تمثل خليطا بين المكون المحلي والمكون الوافد عبر البحار من الاجناس الاخري. ميلاد عثمان كان في العام 1843 كما تورد اغلب المصادر .


صورة الامير دقنة في كبره ( صورة تاريخية)
امتهن دقنة التجارة بين سواكن وجدة وبربر . ونتيجة لذلك العمل ، تعرض لحرب من السلطات التركية التي صادرت ممتلكاته ونفته من سواكن بتهمة الاتجار بالرقيق ، كان ذلك من اهم الاسباب التي قادته لكراهية السلطة التركية، لكن هذه النقطة بالذات تحتاج الي قدر اكبر من التحليل ولا اعتقد انها وجدت التحليل المطلوب . ماذا دهي رجل ترجع جذوره الاسرية الي تركيا الي الخروج علي السلطة التركية؟ . حسب اعتقادي ان الامر يرجع الي بعض العوامل منها  التنافس التجاري والمؤامرات بين التجار في سواكن . كما ان جذوة الثورة كانت متوفرة لدي دقنة التي اتهم بموالاة الثورة العرابية  في سواكن حيث تقول بعض الروايات ان دقنة تأثر با حمد عرابي وثورته وحاول ان يحشد اتباع للثورة العرابية في سواكن بحكم اتصالاها بمصر في ذلك الوقت ولكنه لم يوفق وجعله في مواجهة مع السلطة التي صادرت امواله ومنعته من دخول المدينة . عندما اعلن المهدي ثورته، كان دقنة مهيأ لذلك وبالتالي ذهب اليه في الابيض وبايعه.
الذي نحاول التطرق له هنا هو اسلوب دقنة في المعارك والحكم . المعروف في التاريخ العسكري لدقنة انه كان لا يدخل المعارك دون تحسب لنتائجها مع استعداد تلقائي  للانسحاب والفرار في حال سارت مالات المعارك نحو الهزيمة ، وهو الاسلوب الذي مكنه من مواجهة جيوش نظامية قوية مثل الجيوش المصرية والانجليزية و الايطالية. تجلي ذلك في انسحابة من معركة النخيلة بعد مقاربتها الانتهاء وواصل مسيرة نحو امدرمان ، وفي شمبات نصب كميناً ناجحاً ضد الجيش الغازي وهي المعركة التي وثقها ونستون تشرشل في كتابة حرب النهر مشيراً الي انه كاد ان يفقد حياته في تلك الواقعة. كما تجلي ذلك في معارك الساحل الشرسة في ترنكتات والتيب وتاماي وطوكر حيث ظل مرابطاً  في جبال ونربا متابعاً مآلات المعركة، هذه المعارك رغم انه انتصر فيها الا انها كلفته الكثير. ومن الشائع في الروايات الشعبية  ان الامير دقنة عندما شعر بان مآلات المعركة قد وضحت في غير صالح المقاتلين الوطنيين في ام دبيكرات، وقف منادياً لجنوده بالبدواييت طالباً منهم الإنسحاب باعتبار أن  هذه المعركة قد انتهت وعبر النيل الابيض سباحة في طريقة الي الشرق . وثق احد شعراء البجا المناوئين لدقنة في تلك الفترة سخريته من هروب دقنة من معركة محلية ضد بعض مناوئيه قائلا له ( لماذا تهرب الي الجبل كما يفعل حيوان العيو ( التيتل الجبلي) ، الا كان من الاجدري لك ان تتزوج من حور الجنة= اوعيوييت بادابيي اوربا ناي شببتيت ، توجناتيت حوريتيب اسهموك بتاهاييك ) . بيت الشعر فيه سخرية من سلوك دقنة الانسحابي كما فيه تعريض بلغة التعبئة التي كان يستخدمها دقنة في حشد اتباعه واعداً لهم بدخول الجنة والزواج من الحور العين. من التكتيكات التي اتخذها دقنة في حروبه المباغتة والمناوشة واستدراج العدو والهجوم من المؤخرة وهي كلها تكتيكات قتالية معروفة.
ذكر المؤرخ محمد ادروب اوهاج ان دقنة لم يمثل في الواقع الانسان السواكني التاجر بل سبق له امتهان الحرابة اي الهمبتة بالمصطلح الشائع في السودان مشيرا الي مصدر اكتسابه المعرفة العسكرية التي وضحت في معاركه الشهيرة خصوصاً معارك الساحل. قد يكون ما ذهب اليه المرحوم محمد ادروب اوهاج صائباً لكنني أعتقد ان اسلوب دقنة يرجع في الاول الي ثقافة الانسان البجاوي وسلوكه القتالي كما يرجع الي الأشخاص الماهرين التي اعتمد عليهم في هذه المعارك امثال مصطفي على هدل وعبد الله حامد ومن هؤلاء الرجال مقاتلين وهمباته سابقين. هؤلاء الرجال هم من قادوا اشرس المعارك نيابة عن دقنة الذي كان يتحاشي المواجهة المباشرة .
وصف المؤرخ الانجليزي اندرو بول في كتابه عن قبائل البجة الامير دقنة ببعض الصفات  . الملاحظ ان العبارات التي استخدمتها احتوت بعضا من التحامل وبعض العبارات الصحيحة. قال فيما قال ان دقنة كان يفتقد الصفات القيادية التي تتطلع لها قبائل البجا وكان يشك في ولائهم له وكان نكد المزاج سكوتا وقاسيا وغير كريما . كما تطرق الي بعض الصفات الشكلية التي اعتقد انه لم يكن مصيبا فيها خاصة في النقطة التي وصفه بها انه كان قصير القامة . في الواقع ان قصر القامة لم يكن من صفات دقنة حيث تعكس صورة القبض عليه طوله الفارع بين الجنود المحيطين به وثانياً امر القامة لا يعني شيئا كثير في مجتمع جبلي مشهور بالقامة المتوسطة كاغلب سكان جبال البحر الاحمر.  ربما تكون بعض الصفات التي ذكرها صحيحة خصوصا تلك المتعلقة بالسكوت والقسوة ولا اعتقد ان مقاتلا ثائرا في تلك الفترة مطلوب منه ان يكون متسامحا وطيبا والا سوف لن يتمكن من قيادة التحول الذي عمل له. صفة السكوت قد تكون صحيحة ، لكن اعتقد انه كان يمتاز بقدر من البيان حيث عرف عنه انه كان يقرض الشعر باللغة المحلية بالاضافة الي اجادته للغة العربية بحكم عمله بالتجارة بين سواكن والحجاز واحتكاكه المبكر بالمجتمع العربي. لكن فيما يخص اللغة والمخاطبة ، فانه كان يعتمد بشكل رئيسي علي القيادات الدينية وزعماء القبائل والشعراء الذي ناصروه مثل موسي نفل وغيره .
اندرو بول نفسه وصف حالة الحزن والوجوم التي خيمت علي مجتمع سواكن عند  اعلان وفاة دقنة  التي حدثت في سجنه في حلفا القديمة بحالة موت القيصر. هذا رغم العداء التقليدي الذي ناصبته سواكن للثورة المهدية حيث فشل دقنة من دخولها رغم محاصرته لها وظلت قلعة مفتوحة للبحر ومحوراً للدعاية الدينية المعادية للمهدية من قبل مشائخ الطريقة الختمية  وكذلك مركزاً لانطلاق الحملات العسكرية المسنودة من السفن الحربية البحرية القادمة من مصر وبريطانيا.
الفترة الاخيرة هي كانت الاصعب لدقنة حيث واجه الطليان الذي زحفوا الي كسلا  واحتلوها بالاضافة الي نجاح البريطانيين في فك حصاره لسواكن ، كما واجه عصيان بعض القبائل المحلية وخروجها عليه نظرا لاسباب كثيرة يصعب حصرها ومنها الدعاية المعادية له التي قادها مشائح الطريقة الختمية. في هذه السنوات اضطر الي الانسحاب من جبال البحر الاحمر واستقر به المقام في منطقة ادارأما علي الضفة الشرقية لنهر عطبرة التي تحرك منها الي معركة النخيلة وكرري وام دبيكرات.
عملية القبض علي دقنة لا تخلو ايضا من الدسائس حيث وصلت الوشاية الي سلطات سواكن عن وجود دقنة في منطقة جبل ونربا حيث تحركت قوة القت القبض عليه ورحل الي سواكن مقيدا بالحديد في العام 1900 ومنها رحل الي سجن رشيد بمصر ومن ثم سجن حلفا الذي قضي فيه بقية حياته حيث توفي في العام 1927 . في العام 1964 رحل جثمانه مرة اخري الي اركويت بعد بناء السد العالي الذي غمرت بحيرته مدينة حلفا.  

صورة دقنة عند لحظة القبض عليه ويظهر في الصورة متوسطا الجنود
ومامور مركز سواكن السيد محمد احمد الذي يقف بمحازاته ( صورة تاريخية)
بغض النظر عن صحة موافقه او خطئها ، يظل دقنة من اهم الشخصيات التي لعبت دورا تاريخيا كبيرا في بث جذوة الوطنية والتضحية ومواجهة السلطة الاستعمارية والخروج علي سيطرتها في شرق السودان. وكان مؤمنا بالذي يقوم به وبهدفه ، كما كان مدركا لعناصر ضعفه وقوته  . كما ترك للمكتبة الوطنية السودانية تراثا مكتوبا تمثل في رسائله للمهدي التي طبعت في كتاب عكست مجهوداته والمشكلات التي كان يواجهها ، كما عكست ايمانه بالمهدية ومبادئها. هذا الي الكتابات التي وثقت تاريخه لا سيما التي كتبها خصومه البريطانيين . اعتقد ان هذه الفترة الخطيرة والمهمة من تاريخ السودان تحتاج مزيد من الكتابة والتوثيق والتحليل النقدي بدلا من الاكتفاء بعكس الصورة الجميلة والزاهية فهي تجربة بشرية تضمنت نقاط مشرقة واخري غير ذلك  ، كما انها فترة ليست موغلة في القدم حيث لا زالت حية في الوجدان والذاكرة الشعبية التي تختزن الكثير من المواقف والاشعار والقصص.  اعتقد ان شخصية دقنة العسكرية كانت تغلب علي شخصيته السياسية بالتالي لم يكن موفقاً في التعاطي مع بعض المواقف الحساسة خصوصا المتعلقة بسمعة جيشه وفي تعامله مع القبائل ورموزها والشخصيات الدينية التي اتخذت مواقف واراء غير متطابقة مع افكاره . من الصعب محاكمة التاريخ بظروف الحاضر وتقاليده فكل فترة طبيعتها وثقافتها والعنف لم يمكن شيئاً غريباً علي الانسان في تلك الفترة.
استخدمت عبارة امير دار صباح وهي التسمية المشهورة له في الثورة المهدية التي كانت تغلب فيها عبارات قبائل غرب السودان وهي التي تطلق دار صباح الي مطلق الشرق.

تمثال عثمان دقنة في مدينة بورتسودان  وكان احد معالم المدينة قبل ازالته بعد ان تم الاعتداء عليه من بعض الجهات المجهولة التي يعتقد انها اعتدت عليه لاسباب دينية فقهية تحرم بناء التماثيل وفق اجتهاداتها الفقهية 

ضريح الامير دقنة بقرية اركويت بجيال البحر الاحمر بعد ان نقل جثمانه من قبره الاول في حلفا القديمة باقصي شمال السودان ( صورة من الانترنت)



ليست هناك تعليقات: