الخميس، 30 يوليو 2020

ملاحظات حول بعض سلوكيات الإحتفاء وتمجيد الرموز المجتمعية في البحر الاحمر ( إعادة تسمية المؤسسات العامة )

عند زياراتي المتقطعة لبورتسودان، أحاول تركيز انتباهي  على التغيرات والملامح الجديدة في المدينة في محاولة لتلمس التغييرات الإيجابية والسلبية على حد سواء، فالمنطق وطبيعة الاشياء تقتضي تسليط الاضواء على الجميل وغير الجميل سواء بالاحتفاء والتعبير عن الفرح او الانتقاد و التعبير عن الأسى. وكعاشق لهذه المدينة المتفردة، وكإبن من ابناءها الذين اقتضت ظروف عملهم  الابتعاد عنها ، وهو ابتعاد حسي ووقتي وعارض، أجد نفسي متابعا لصيقا لاحداثها وتطورها من علي البعد.

الملاحظة التي أثارت ذهني هذه المرة وكانت تثير اهتمامي ايضاً في المرات السابقات، التراجع في مستوي الصيانة والمتابعة لمشروعات البنية التحتية بالمدينة لاسيما الطرق الداخلية . قد يرجع ذلك للظروف المالية ومنعطف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وهي حقيقة لا تخفي علي أحد وتلقي بظلالها علي مجمل فصول الحياة، وقد يرجع ايضاً لضخامة المطلوب المقابل للصيانة والإدارة،  فالبنية التحتية للمدينة شهدت توسعاً دراماتيكياً متسارعاً خلال عشرية حكم ايلا  لولاية البحر الاحمر ( 2005-2015 ) بشكل لم يشهدها تاريخها منذ تأسيسها علي عهد القنصل كرومر والحاكم العام ونجت باشا في بدايات القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب أعباء ادارية ومالية قد لا تتوافر للسلطات المحلية بالشكل المطلوب. 

الأمر الآخر الذي يثير إنتباهي منذ فترة هو التوسع في ظاهرة إستغلال المؤسسات الخدمية في تمجيد الرموز المجتمعية. لا غرو في قيام الدول والمجتمعات بتكريم الأشخاص الذين قدموا مساهمات كبيرة وتضحيات إستثنائية لصالح البلاد وسكانها فذلك عرف إنساني تجده في كل الدول. في أمريكا تجد إسم الرئيس جون كيندي يزين إسم المطار الأشهر بالبلاد ، كما يزين إسم جورج واشنطن إحدي أهم قطع الأسطول الامريكي. في باريس يستقبلك إسم الرئيس شارل ديغول ممثلاً في إسم المطار الأكبر بالبلاد . وفي كل الدول لا سيما الاوروبية منها تطالعك تماثيل الشخصيات العامة ومنهم كبار الساسة الذين قادوا التحولات الناجحة او الأدباء الذين ساهموا في زيادة الإنتاج الفني وإثراء الوجدان تزين الساحات والشوارع. في القاهرة تقف جملة من التماثيل منها تمثال أبو الاقتصاد المصري طلعت حرب في الميدان الذي يحمل إسمه بوسط القاهرة، وهكذا نجد في وسط الاسكندرية تمثالي الزعيمين الكبيرين محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة في مصر وسعد زغلول زعيم حزب الوفد التاريخي في مركز المدينة. لكن بشكل عام تخضع هذه العملية لقدر كبير من التمحيص والدقة، بمعني أن التكريم بتخصيص مكان عام او موقع في مكان عام يجب أن لا يقدم لاي شخص قدم مساهمات، فالمساهمات التي تستحق التكريم العام يجب ان تكون غير عادية واستثنائية سواء كانت في شكل انتاج او اختراع علمي او القيام بموقف تاريخي او التضحية بالروح او الحياة او العمر او المساهمة الفعلية في حل قضية معقدة او قيادة تحول تاريخي ناجح وهكذا .

 وانا أمر بطريق الثورات إستوقفني مسمى صيدلية عامة تقع بالقرب من مستشفي الموانيء أعيد تسميتها لتحمل إسم المرحوم الدكتور سيد خليل بيومي، وهو أحد رموز الثغر المهمين، فالرجل كان مساهماً في كل شيء في البحر الاحمر، بدء من التعليم مروراً بالرياضة والفن والثقافة والصحافة والتنمية وإنتهاء بالطب والصيدلة وكان يحمل مؤهلين في كليهما، وكان الرجل قائدا ومعلما في سلوكه وفي مبادراته . لقد التقيت به طالباً في المعهد الفرنسي وكنت أشد المعجبين برجل في عمره يجلس على كرسي الطلب ضمن شباب صغار لتعلم لغة جديدة ليضيفها لقائمة اللغات التي يجيدها ومنها الانجليزية والألمانية، تأثرت برحيله كما تأثر كل ابناء البحر الاحمر. لكن التساؤل الذي دار بذهني هل تكريم رجل بهذه القامة والعطاء يكون بإعادة تسمية مبني حكومي كان اصلاً قائماً. أعتقد ان الخطوة غير موفقة. كان يمكن أن يكون الإحتفاء بتسمية ميدان او شارع او معلم محسوس بإسمه او بناء صرح جديد بإسمه ولا غرو أن يكون في المجال الصحي. كما لاحظت في ذات الشارع إعادة تسمية مدرسة محمد عبدر ربة للبنات بإضافة إسم الموانيء لإسم مؤسس المدرسة رجل البر والإحسان المرحوم محمد عبد ربه لتكون مدرسة عبدربه الموانيء الثانوية للبنات. فكرت في الأمر ، لماذا هذه الجوطة في التسميات. هل هذه الإضافة الجديدة في الإسم تعبر عن متغير جديد بمعني تقديم هيئة الموانيء الثرية دعماً مالياً لهذه المؤسسة إقتصى إضافة اسمها من قبل القائمين على أمر التعليم. هل سيستمر هذا المنوال من السلوك المجاملاتي في تسمية المؤسسات التربوية بإضافة أسماء المتبرعين الجدد على إسم المؤسسات القائمة اصلاً.

هذا الاتجاه ظل للاسف يجد التوسع غير المبرر وهو إعادة تسمية المؤسسات الخدمية الحكومية بأسماء شخصيات مجتمعية مثل المدارس والصيدليات وخلافه. ولا ادري راي أهل التربية في ذلك فيما يخص المدارس ، لا سيما لو نظرنا الي الأمر من جانب إن الأطفال الذين يدرسون في مدرسة تحمل إسم شخص محدد يتسرب لخيالهم بأن الشخص المذكور هو الذي بني هذه المدرسة فيما الأمر ليس كذلك. فمعظم هذه المؤسسات إما بنيت من الخزينة العامة وأموال دافع الضرايب السوداني او بنيت بعض أجزائها بمساهمات مجتمعية ومنها مبادرات العون الذاتي على عهد الفترة المايوية حين بنيت كثير من هذه المؤسسات عبر الحشد الشعبي وتنازل المواطنين في الأحياء الشعبية عن بعض حصص التموين لهذا الغرض او ذاك.

لا تخفي مساهمات القطاع الخاص المحلي في بناء المؤسسات الإجتماعية بالمدينة. ففي الفترة التي سبقت قيام الإنقاذ في العام 1989 لم يكن بالمدينة سوى ثلاث مدارس ثانوية للبنين ومثلها للبنات وهي مدراس بنيت على نفقة بعض القادة المجتمعيين حيث نجد أسماء مثل سعيد باورارث وسعدابي ومحمد عبد ربه والعشي والشيخ مصطفى الأمين اما مدرسة البحر الاحمر الثانوية فهي الأخرى فقد بنيت بمساهمات المجتمع المحلي وان لم تكن تحمل شخص بعينه، حسب علمي أن المساهمة الرئيسية كانت من الشيخ مسعود باني مسجد مسعود الواقع قبالة المدرسة وقد سمعت أن الأرض نفسها كانت مملوكة له ( سمعت ان ذات الشخص بني هذه المدرسة لتكون معهد للتعليم الديني الاهلي وحول غرضها فيما بعد لتكون مدرسة ثانونية وأخرى متوسطة). لعل الإستثناء هو مدرسة بورتسودان الحكومية والتي تحولت حالياً لجامعة البحر الاحمر وهي كانت في الأصل ثكنات للجيش المصري فآلت ملكيتها لقوة دفاع السودان ( نواة الجيش السوداني) التي تكرمت بتخصيصها لتكون مدرسة ثانوية لأبناء الريف حسب قناعة الفريق أحمد باشا محمد حمد أول قائد للجيش السوداني  وهو أحد ابناء البحر الاحمر وفق إفادة الراحل المقيم ابونا محمد بدري ابوهدية. كما لاحظنا في مدينة بورتسودان إعادة تسمية المدرسة الأهلية المتوسطة بإسم مدرسة البربري وسرت في المدينة تلك الأيام أن أسرة البربري طالبت بإسم المدرسة التي بنيت على نفقة الراحل رجل البر والإحسان محمد السيد البربري  لصالح التعليم الاهلي فى فترة الاستعمار البريطاني، وقبلت الاسرة مسمي المدرسة الأهلية ولكنها لن تقبل تحويل إسم ذات المبني كمقر لمدرسة أخرى وأعتقد ان لهم الحق في ذلك،  فللواقف حق في إشتراط ما يراه ( الجدير بالذكر ان عدد من المؤسسات بنيت على نفقة السيد محمد السيد البربري في مدينة بورتسودان ومنها الجامع الكبير). تجدر الإشارة إلى أن التعليم الأهلي نشأ في السودان بمبادرات مجتمعية خلال فترة العهد الإستعماري البريطاني ليعمل بموازاة مع التعليم النظامي المحدود وهكذا نشأت العديد من المدارس الاهلية في مدن السودان المختلفة ومنها بورتسودان. كما نجد في بورتسودان وبعض المدن مسمي المدارس الأميرية وان إختفت التسمية مؤخراً بتحويل أسماء هذه المدارس. وأول المدراس الأميرية هي مدرسة سواكن الأميرية التي بنيت في العهد التركي وتعتبر من اعرق المدارس في السودان، في بورتسودان حملت مدرستين هذا المسمي احداهما للبنين وتقع قبالة مدرسة البربري الثانوية والتي تستخدم حالياً كمقر اداري لوزارة التربية والتعليم، والثانية للبنات وتمت إضافتها لمباني كلية التربية لجامعة البحر الاحمر. ترتبط التسمية بالحكومة المصرية وفيها إشارة  للأسرة العلوية التي حكمت مصر واعتقد ان المقصود بالمدارس الاميرية هي المدارس الأكاديمية التي تتبني التعليم الحديث وقد ظهرت هذه المدارس في مصر في فترة محمد على الكبير وحكام اسرته.

كانت توجد بعض المدراس التي تحمل شخصيات عظيمة وكبيرة في قيمتها ومساهماتها التاريخية، فكنا نجد مدرسة عثمان دقنة المتوسطة ولا خلاف علي دور أمير دار صباح في تاريخ السودان والبحر الاحمر، او شخصيات وطنية في مقام السيد مبارك زروق أول وزير للخارجية للسودان، وهو شخصية وطنية من الطراز الأول، او مدرسة أساس بسنكات سميت باسم الشريفة مريم الميرغنية وهي ايضاً شخصية ساطعة في تاريخ الشرق والسودان ولا خلاف أنها تستحق التكريم والإحتفاء وهي بالفعل تجد التكريم من أهل الشرق الذين يتوافدون سنوياً لمدينة سنكات للإحتفاء بذكراها، وينطوى لقبها البجاوي (باقدبسيت) على قدر كبير من التقدير والإشارة لحسن الخلق وكريم الأخلاق والبذل والعطاء والترفع عن الصغائر والبشاشة في التعامل، فمعني الكلمة في السياق البجاوي يعني الإنسان الذي يجبر الخواطر ولا يتسبب في خلق موقف سلبي ضده من الآخرين المتعاملين معه. بنيت هذه المدرسة وفق إفادة الراحل محمد ابوهدية على نفقة الحكومة المصرية وبإشراف مباشر من الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو المصرية ومسؤول ملف السودان في الحكومة المصرية آنذاك حيث كان يري في الأمر تكريماً للسيدة المجتمعية ووفاءه الشخصي للمدينة التي شهدت ميلاده حيث كان والده  يعمل موظفاً ادارياً بمركز سنكات. كما توجد مدرسة بسواكن سميت بإسم النائب البرلماني محمد كرار كجر وهو من أوائل البرلمانيين من شرق السودان الذين شاركوا في برلمان الحكم الذاتي والبرلمانات اللاحقة، ولعب ادوراً كبيرة في نشر التعليم والوعي وهو صاحب فكرة مؤتمر البجا المطلبي التي إقترحها في نهاية اربعينيات القرن الماضي وفق إفادة صديقه الراحل ابو محمد منيناي. ومن التسميات التي تحتفظ بدلالات مستحقة، تسمية أحد المدارس بإسم السيد عبد الله العبيد وهو برلماني محلي ومن الرموز البارزة لمجتمع أبناء الشمال بالبحر الاحمر وليس هناك من ينكر أدوار أفراد هذه المجموعة في نشر التعليم في ربوع البحر الاحمر ومنهم معلمون ومعلمات حملوا على أكتافهم مهمة إستمرار مدارس كثيرة في أرياف البحر الاحمر وقد يكون من الواجب إطلاق مسمي مدرسة على واحد من رموزهم. الجدير بالذكر ان المدارس التي تحمل إسم مجمع السيد العبيد كانت تسمي مدارس حي الشريف الإبتدائية وأعيدت تسميتها لتحمل إسم السيد العبيد ).

هناك مدرسة ريفية عريقة تلقي عدد كبير من طلاب الريف التعليم فيها، وهي مدرسة بنيت على نفقة الدولة ولكنها في لحظة ما تغير إسمها الي إسم أحد رجال الأعمال. من المؤكد وجود مساهمات مقدرة من ذلك الرجل المشهور بالعطاء الإجتماعي  ولكن لا يبرر ذلك  نسف الإسم التاريخي للمدرسة العريقة لصالح إسم شخص مهما كان عطاؤه. هذه المدرسة هي مدرسة اربعات الشرقية الأساسية الواقعة بقرية ايشنك بدلتا اربعات.

ومن النماذج الملفتة للإنتباه والمثيرة للتساؤل إطلاق إسم الإداري السوداني الفذ الراحل حامد على شاش على صالة مناسبات داخل كورنيش ايتانينا. وهو نوع من التكريم الذي إختير في غير محله حيث كان يمكن من الأفضل إختيار اسم إحد الفنانيين والموسيقيين لتكريمه بتسمية الصالة عليه وليس بالطبع السيد شاش  بكل تاريخه وخبرته التي إمتدت من الإدارة البريطانية الي ثمانينات القرن الماضي حيث تبوأ منصب حاكم الإقليم الشرقي في الثمانينيات وقبلها حاكم جوبا ( المديرية الاستوائية) في ستينيات القرن الماضي.

هناك أسئلة تفرض نفسها وهي ما هو الأفضل من الناحية التربوية مثلاً فيما يخص المدارس. هل الأسلم في أن تحمل هذه المؤسسات العامة لا سيما مدارس الأساس أسماء الأحياء والمناطق كما كان الحال في فترة قبل الانقاذ،  ام  أسماء الشخصيات المجتمعية او التاريخية او الدينية مثل الصحابة رضوان الله عليهم وهي سنة سعودية  شهدت إستخداماً واسعاً تزامن مع إعلان الشريعة الاسلامية كأساس للنظام القانوني في ظل سني الإنقاذ الاولى ؟ في مدارس القري والأحياء أعتقد وقد اكون مخطئاً ان استخدام إسم القرية او الحي هو الأصوب بدلاً من وضع أسماء لا تستخدم إلا في الأوراق الرسمية فيما يتحاشي الناس إستخدامها.

هل يمكن تطوير سياسة او لائحة في هذا الصدد بحيث يتم تحديد معايير صارمة ودقيقة في إطلاق التسميات؟ والنظر في أن لا يتوقف التكريم على إعادة تسمية المؤسسات التربوية والإستعاضة عن ذلك بان تذهب تسميات التكريم الى الشوارع والميادين التي لا تحمل أغلبها أسماء او إطلاق التسميات على مؤسسات جديدة تبني لغرض تكريم شخص محدد او في حالة قيام هذا الشخص ببناء المؤسسة من حر ماله وهي حالة يستحق فيها أن يكتب إسمه عليها ولو بماء الذهب ولا غرو في ذلك فالصدقة في الإسلام ليست كلها سرية ومنها الصدقة العلنية ولها نصيبها من الأجر والثواب، ولكن أن تتم إعادة تسمية مؤسسة قائمة وتحمل اسماً وتاريخاً وسمعةً بإسم جديد فقط بغرض تكريم شخص محدد فهذا أمر لا يقبله المنطق وبل تتضمن تعدياً على الحقوق العامة للمواطنين.  

الثلاثاء، 30 يونيو 2020

إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بين نقاء المضامين وتحديات التنفيذ


علي الرغم من الإهتمام السياسي والقانوني والمجهود الأكاديمي والبحثي الذي تناول موضوع الفساد وآثاره  المدمرة علي الاقتصاد والاستثمار والتجارة والإخلاق والمجتمع والادارة العامة، الا ان ذلك لم يؤد الي تطوير صك دولي لمكافحة الفساد الا مؤخراً وهو هذه الاتفاقية التي تعتبر الصك الأممي الوحيد في مجال مكافحة الفساد، وبذلك تعتبر حدثاً فريداً في نوعها. إعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 31 اكتوبر 2003 وفتح باب التوقيع عليها في 14 ديسمبر 2003 ودخلت حيز النفاذ في 14 ديسمبر 2005 . وتحظى حالياً بعضوية أغلب دول العالم فيما تبقت بعض الدول القليلة جداً التي لم تنضم اليها. الجدير بالذكر أن ثمة اتفاقيات اقليمية معنية بمسائل الفساد قد تم إقرارها قبل الإتفاقية الأممية ومنها الإتفاقية الأوروبية وإتفاقية الإتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته، والإتفاقية العربية لمكافحة الفساد والإتفاقية الأمريكية.
تقدم الإتفاقية إطاراً مرجعياً لمكافحة الفساد، كما توفر مرشداً ودليلاً للحكومات لتبني مايلزم من سياسات وترتيبات لتحقيق ذلك.  وتعالج الإتفاقية في موادها أشكال الفساد المختلفة مثل الرشوة، والإختلاس، وغسل الاموال وخلافه، كما تعالج المسائل والإجراءات المتعلقة بالوقاية من الفساد ومكافحته بما في ذلك الكشف، والتعاون الدولي وإسترداد الموجودات والأصول. وتضم الإتفاقية 71 مادة موزعة الى 8 فصول هي الأحكام العامة، والتدابير الوقائية، والتجريم وإنفاذ القانون، والتعاون الدولي،  وإسترداد الموجودات، والمساعدة التقنية وتبادل المعلومات. وتتضمن الاتفاقية مواد إلزامية وأخرى إختيارية حيث تستخدم عبارات ملائمة لاي نوع من هذه المواد. ففي المواد الإختيارية يتم إستخدام عبارات خفيفة حيث تبدأ بكلمات مثل: يجوز، ويدعو، وتنظر كل دولة في إتخاذ ....، فيما يتم إستخدام كلمات قطعية في المواد الإلزامية من شاكلة  تتخذ وتقوم..... الخ.
هناك جملة تحديات تواجه تطبيق بنود هذه الإتفاقية وإنزال مضامينها على أرض الواقع. ومن أهم هذه التحديات توفر القدر المطلوب من الإرادة السياسية لدي السلطات والحكومات سواء كانت في دول العالم المتقدم او العالم الثالث في تنفيذ بنود الاتفاقية لا سيما المسائل المتعلقة بالتعاون الدولي وإسترداد الأموال المسروقة، ومكافحة غسل الأموال والمتاجرة بالنفوذ، وتمويل الأحزاب السياسية. ومن أكبر التحديات ايضاً مسألة تعريف الفساد نفسه او تعريف بعض ممارساته، فقد خلت الإتفاقية من تقديم تعريف للفساد، وذهبت لتسمية بعض ممارسات الفساد مثل الرشوة وغسل الأموال. فيما يتعلق بغياب توصيف واضح لبعض ممارسات الفساد وتسميتها كجرائم في كثير من قوانين الدول نجد ممارسات المحاباة، والمحسوبية، وإستغلال العلاقات الشخصية في تمرير المصالح المالية وغير المالية، و قضية التصالح مع الممارسات الفاسدة والسكوت عنها والتستر عليها وإخفائها من قبل المسؤولين وموظفي الدولة وصناع القرار. كما تظهر هنا إشكالية تجميد القوانين من حيث التطبيق اي غياب تفعيلها لأسباب منها صعوبة الحصول علي الأدلة او تعقيدات تتعلق بتقديمها او التحقيق بشأنها مثل جرائم تبييض الأموال المتأتية من الفساد. ومن التحديات التي تواجه المقاربة العقابية صعوبة القضاء علي الفساد الصغير لتعذر الكشف عنه وإثبات وقوعه في كثير من الحالات، فمعظم التحقيقات القضائية ذهبت لإتجاه مكافحة الفساد الكبير لسهولة جمع الأدلة والتدقيق فيها. ومن التحديات التي تواجه التطبيق ايضاً قضية حماية الموظف العام من التشهير والأذى النفسى في مرحلة قبل إثبات الإتهام عليه، فبدء التحقيق يقود إلى تشويه سمعة الموظف المتهم ولا شك أن ذلك يؤثر عليه كما أنه يؤثر على بقية الموظفين ويحد من حماسهم وولائهم للعمل والمهنة بما يقود لضعف إنتاجهم.
أفردت الاتفاقية فصلاً كاملاً للتعاون بين الدول في المسائل الجنائية التي تشمل عدد من المجالات منها تسليم المجرمين، ونقل الأشخاص المحكوم عليهم، والتحقيقات الجنائية والمدنية، ونقل الإجراءات الجنائية، وإنفاذ القانون وتضييق فرص الإفلات من العقوبات، وإسترداد الاموال والأصول المكتسبة بطرق غير شرعية الي بلدانها الأصلية. وتنبع أهمية هذا الفصل من واقع تطور الجريمة في عصرنا الحالي لا سيما جرائم الفساد نسبة لنجاح كثير من ممارسي الاجرام في التحايل علي القوانين والنفاذ عبر الثغرات في نصوص القوانين وآليات تنفيذها من بلد لآخر. فكثير من الدول تضع العراقيل أمام إستعادة البلدان الفقيرة لأموال المسؤولين الفاسدين الذين نجحوا في حفظ أموالهم في بنوك خارج بلدانهم. ومن التحديات التي تواجه قضية مكافحة الفساد، غياب الشفافية المتعلقة بإيداع الأموال وحركتها نتيجة التمسك الشديد بمباديء السرية المصرفية في بعض الدول مما سمح  بتوفير ملاذات آمنة للأموال المشبوهة. كما تظل قضية إختلاف النظم السياسية والقانونية والمالية إحدى التحديات التي تواجه تطبيق الإتفاقية فلا زالت كثير من العصابات النشطة في قضايا الفساد وغسل الأموال تستثمر في إختلاف النظم الإدارية والقانونية. كما تدخل الإعتبارات السياسية في التعامل بين الدول حيث تشترط بعض الدول الإلتزام الحرفي بمباديء المعاملة بالمثل وضرورة وجود إتفاق ثنائي او إقليمي وعدم الإستناد على الإتفاقية كاساس للتعاون الدولي في المجالات الجنائية مثل تبادل المعلومات الإستخباراتية وإجراء التحقيقات المشتركة وتنفيذ الاجراءات القانونية.
تشكل مسالة إسترداد الموجودات ( الأموال المسروقة) أهم مميزات هذه الإتفاقية حيث افردت باباً كاملاً عن هذا الجانب يتناول موضوعات منع وكشف العائدات المتأتية من الجريمة، تدابير الإسترداد المباشر للممتلكات، وآليات إسترداد الممتلكات من خلال التعاون الدولي، والتعاون الدولي لأغراض المصادرة، والتعاون الخاص وإرجاع الموجودات والتصرف فيها ووحدة المعلومات الإستخبارية المالية، والإتفاقات والترتيبات الثنائية والمتعددة الأطراف.  تدعو المواد الدول لاتخاذ جملة من التدابير والإجراءات لتسهيل إستراداد الموجودات وكشف العائدات المتاتية من الأنشطة الإجرامية وآليات حجزها ومصادرتها وإجراءات التعاون الدولي المتصل بها وتأمين النزاهة والدقة في النظام المالي. يقدم الفصل توجيهات وتوصيات بشأن تعزيز النظام الاداري والمالي للمؤسسات ذات الصلة بالمسائل المالية والعدلية والقضائية.
تجدر الإشارة إلى أن الإتفاقية منحت الدول متلقية طلبات المساعدة القانونية وتنفيذ إجراءات إسترداد الموجودات عدداً من الحقوق التي تتسق مع حقوق السيادة ولكن قد تشكل عائقا في تنفيد بنود الإتفاقية. ومن هذه الحقوق التمسك بالإجراءات المنصوص عليها في القوانين الوطنية والحق السيادي في التعامل مع الطلبات الواردة إليها المتعلقة بالمصادرة والحجز او رفضها في حال عدم توفر أساس كاف وأدلة مقنعة او في حال أن الممتلكات محل الإتهام ذات قيمة ضعيفة. كما يجوز لها إشتراط وجود إتفاقية ثنائية للتعاون وإجبار الدولة طابلة المساعدة في الدخول في عملية تفاوضية للتوصل إلى إتفاق جديد وغالباً تتمكن من إدخال شروط متعلقة بالإجراءات القضائية والقانونية وترتيبات التصرف النهائي في الممتلكات المصادرة. وهذه النقطة تمنح مدخلاً للدول المتلقية لطلب المساعدة والتعاون لتحديد أوجه صرف المبالغ المصادرة الأمر الذي تعتبره الدول منبع هذه الأموال إتجاه للتدخل في شؤونها وأموالها. كما يجوز وفق الإتفاقية للدولة متلقية الطلب إقتطاع جزء من الأموال المصادرة نظير نفقات عمليات التحقيق والملاحقة والإجراءات القضائية. وتحتفظ الدول بحقها الطوعي غير الملزم بنقل بيانات ومعلومات عن تحقيقاتها الجنائية لاي دولة اخرى بغرض مساعدتها في التعرف علي الأموال المشبوهة والعائدات الجرمية ذات الصلة بها وهنا تدخل إعتبارات مستوى العلاقات بين الدولتين وحجم الروابط والمصالح التي تجمعهما.
بصفة عامة يمكن القول، أن الإتفاقية أحدثت زخماً كبيراً في الإلتفات لمخاطر الفساد وأدواته وأساليبه، ووجهت الأنظار إلى  الآثار المدمرة للفساد على التنمية والنمو والحكم الراشد، وتعزيز الإدراك للطبيعة العابرة للحدود لجريمة الفساد. كما ساهمت في دفع التعاون الدولي في قضايا إسترداد الموجودات ومكافحة غسل الأموال. إلا انه الطريق لا زال طويلاً أمام تنفيذ بنودها ومضامينها ولازالت هناك حاجة متزايدة لتعزيز التعاون الدولي في محاربة الفساد في ظل التحديات التي تفرضها العولمة وتزايد عمليات إنتقال الأفراد والأموال والأفكار عبر الحدود.  

الأحد، 7 يونيو 2020

إلى الجنان بمشيئة الله.. حكيم أربعات عمنا وأخونا حسين أوليت

نسأل الله ان يتقبل عمنا وأخونا حسين محمد موسي أوليت ( الظاهر في شمال الصورة اعلاه) في أعلى جنانه، وأن يجعل البركة في ذريته. لقد كان صوتاً للحكمة والإتزان والرأي السديد. ترجع معرفتي بالراحل المقيم لفترة عملي بمنظمة الساحل البريطانية ونشاطي في جمعية تنمية أربعات. وقد تطورت هذه العلاقة المهنية بين موظف وقائد مجتمعي الى صداقة ومودة. كنت أجد فيه حكمة شيخ العرب (البجاوي) في الصبر، وضبط الكلام، وتحاشي المواقف الحادة ، كما كنت أجد فيه ذكاء ولد المدينة، ونباهة رجال السوق. عندما تجمعنا إجتماعات لجان المجتمع بأربعات، كنت أنتظر بإهتمام تعليقاته ووجهات نظره لا سيما عندما يحتد النقاش في بعض المسائل. رغم أنني لم أعرف له نشاطاً سياسياً إلا إنه كان مدركاً لقضايا البلاد وتعقيدات السياسة. أذكر ذات مرة في يوم من أيام العام 2005 بعد توقيع إتفاق السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية، و كنا مجموعة في جلسة ونسة عادية، وقد دخلت السياسة لنقاشنا كحال أغلب ونسات السودانيين وتطرقنا لقضية مستقبل السودان بعد الإتفاق والتحديات والمخاطر التي تواجهه، لا سيما وان مديننتا نفسها كانت تمور بأحداث أعقبت إتفاق نيفاشا وراح ضحيتها نفر من الأبرياء. بعد إستماع طويل، وجه لنا سؤالاً مباشراً، هل تعرفون ما هو الشيء الذي سيتسبب في ضياع  السودان ؟ وتبارينا في تعداد المخاطر المحتملة ومنها إنهيار الشراكة بين الحكومة والحركة الشعبية ودخول الطرفين في صراع دموي، وتدخل القوي العظمي و  توسع دائرة تمرد دارفور، فقال لنا إن كل ذلك سوف لن يحدث، سوف لن تنهار الشراكة، ولن تتسع دائرة نشاط المتمردين، ولن تتدخل القوي العظمى، فسألناه إذن ماهي تلك المصيبة المحتملة التي ستضيع بسببها بلادنا، فقال الكذب وكررها قائلاً: (الكل يكذب على الكل، المسؤول يكذب على المواطن،  والمواطن يكذب على المسؤول، السوق مليء بكذابين ). كان تعليقه غريباً و مفاجئا لنا. شخصياً لفت ذلك التعليق نظري لقضية مهمة جداً وهي دور الخطايا المعنوية في إنهيار النظم السياسية، فالناس دائما يهتمون بالجوانب المادية في تحليل الأزمات، ويتناسون الجوانب المعنوية التي تتسبب في تكوين الأزمات وتكون وقوداً لها في مسار تطورها. أخذت تعليقه بكل جدية ومن حينها أصبحت أهتم بالأثر السالب لعادة الكذب علي الحياة العامة و البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة لا سيما وان هذه الخطيئة التي تقف على رأس كل خطيئة كما يقولون ،أخذت في وقتنا هذا منحىً مؤسسياً نشاهده في القنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي والإشاعات. تكمن خطورة الكذب في حقيقة ولادته عن مشاعر سيئة كما تتولد منه هو الآخر سلوكيات وأخلاق ذميمة اخرى حيث يرتبط به  الخوف، و الأنانية، والفساد وغيرها من الصفات والممارسات السيئة.
أقدم تعازيي لكل أهل الوادي المبارك ( أربعات) في فقدهم الكبير وبالأخص في أربعات المياه وأهلنا السعيداب وعموم الحامداب والقويلي، مع التذكير لنفسي ولهم بضرورة الحرص على القيم والأخلاق التي تحلي بها الأخ حسين أوليت وأولها الصدق والإخلاص وإصلاح ذات البين.  لقد ظلت أربعات ترفد المدينة الثانية للبلاد بمياه الشرب لفترة تجاوزت القرن وهي فترة عمر هذه المدينة، في مشهد من مشاهد معجزات الخالق في أرضه حيث تخرج المياه الصالحة للشرب من بين الصخور في منطقة صحراوية ضمن إقليم البحر الاحمر الأوسط المتسم بالحرارة والجفاف. إذا كانت أربعات ظلت تقدم إكسير الحياه لمدينة بورتسودان فمن باب أولي أن تقدم لها ايضاً الرجال الحكماء من شاكلة الأخ حسين أوليت. نسال الله له الرحمة والقبول والجنة. 

عمر شريف
الخرطوم 5 يونيو 2020

الأربعاء، 27 مايو 2020

لكل قوم مميزاتهم: دعوة لوحدة البشرية وسيادة القيم الإنسانية


هناك مقولة بجاوية تقول لكل قبيلة مميزها ( قبيلتاكا ناتو تبريي) ، بمعني ان اي نوع من البشر لهم مزاياهم الحسنة. وليس هنا المقصود الميزة الشكلية التي تميز ملامحهم عن الآخرين لكن المهارات والصفات الإيجابية مثل الصبر، والفصاحة، والشجاعة، او المهارات الصناعية اليدوية او القدرات الذهنية . أتذكر دوماً مدلولات هذه المقولة عند الإحتكاك مع الآخرين، وقد سنحت لي الحياة التفاعل مع شعوب وقوميات أخرى من مناطق مختلفة من العالم ورؤية ثقافات أخرى. أركز في مشاهداتي دوماً على الجوانب الإيجابية في ثقافة اي مجموعة بشرية او شعب وأجدها دوما كثيرة و جميلة وتتسع دائرة هذه المميزات في نظري كلما بذلت مجهوداً اكثر في التعرف على هذه الجوانب. بالطبع قد تكون هناك صفات سيئة او على الأقل غير مستساغة من جانبنا وهكذا طبيعة البشر الذين خلقهم الله ليكونوا دون درجة الكمال. قد نكتشف الصفات الجميلة من الوهلة الاولى او قد ندركها من خلال المعاملة، وقد تظهر هذه المزايا من خلال الإهتمامات التي يظهرونها، او القيم التي يتمسكون بها. هذه النقاط الإيجابية هي الأسس التي قامت عليها نجاحات هذه الشعوب سواء في الحرب والسلام، او الفن والثقافة، او الصناعة والتجارة، فكل قصة نجاح لدولة محدد يبررها كم هائل من الصفات الراسخة في سلوك شعب ذلك البلد ولا يمكن تحليل التنمية دون إدراك عميق لهذه الإعتبارات الثقافية والإجتماعية.  بعض الشعوب ناجحة جداً في خلق المعجزات الإقتصادية إلا انها أضعف عندما يتعلق الأمر بالنجاح السياسي او الثقافي والفني والعكس ايضاً صحيح. بعض الشعوب تتمتع بحس فني وذوق رفيع يؤهلها للتطور في مجالات مهمة مثل السياحة والتطور المعماري. الزائر لايطاليا يلاحظ حجم التراث الهندسي المعماري الأمر الذي يؤكد أن شعب هذا البلد لديه قدرة غير عادية في أعمال البناء والإعمار. سمعت الكثير الذي يمجد الصناعات اليدوية في آسيا الوسطى وايران مثل صناعة السجاد الفارسي المشهور، فصناعة بهذا الشكل تحتاج قدراً كبيراً من الحس الفني والصبر والإبداع، وهي تتوفر في شعوب هذه الدول. هناك شعوب مشهورة بمهارة القتال وهي ايضاً ميزة رغم قساوتها فالشجعان هم الذين يصنعون التاريخ ويحافظون على بلدانهم. بعض الشعوب تتمتع بمقدرات غير عادية في التصنيع والإنتاج وبعضها معروفة بالإنضباط والصدق والتفاني في العمل وهي صفات مطلوبة في كل فصول الحياة لا سيما في الإقتصاد والصناعة ونموذج لشعب تمكن عبر هذه الصفات في تحقيق معجزة إقتصادية جبارة هو الشعب الألماني. كما تمكن شعب اليابان من  خلق معجرة صناعية ونجاح علمي وإقتصادي باهر في بلد ضيق المساحة لا يكاد يستوعب ساكنيه وهو بلد شبه معدم من الموارد الطبيعية لكن نجح في تحقيق نجاحات ثابتة تؤهله للعب دور إقليمي ودولي . لتفسير هذه النجاح، يجب الرجوع الي صفات هذا الشعب وطريقة تفكيره. عند اللقاء باي شخص من اليابان تلاحظ رسوخ التواضع في التعامل ، فالياباني انسان يظهر تقدير كبير للاخر، ويتمتع بدرجة غير عادية من الإنضباط المهني وهو أحد أسباب النجاح المؤسسي والاقتصادي في البلاد. بنيت الثقافة السياسية لشعب اليابان على إحترام وتوقير الطبقة الحاكمة ( الأسرة الإمبراطورية) لدرجة يصل فيها هذا التوقير لدرجة أشبه بالعبادة، وهو بالطبع وضع غير طبيعي لكن من إيجابيات هذا الوضع إشاعة الرضا تجاه الحكومة، وتقبل قراراتها بغض النظر عن آثارها. فالشعوب التي تربت على هذا النوع من الثقافة السياسية رغم أنها تظهر في ثياب الشعوب غير المهيئة لممارسة الديمقراطية لكن في الواقع أثبتت انها الأكثر قدرة على معايشة الديمقراطية وتطويرها في إطار من إحترام القانون وفصل الخيوط الرفيعة التي تفرق بين ممارسة حق التعبير والتعدي على الآخرين وممارسة التظاهر السلمي والفوضى، وينطبق ذات التوصيف على الشعوب ذات الثقافة العسكرية. هناك بعض الشعوب لديها قدرة كبيرة على الانفتاح على الآخر والتسامح مع الثقافات الأخرى ويسمح لها ذلك بالطبع تحقيق النجاحات عبر الإستفادة من قدرات وإمكانات الآخرين وهي درجة عالية من الرقي ويمكن تفسير النجاح الأمريكي عبر هذا الجانب. ففي امريكا وجدت كل الأجناس الفرصة في العيش المشترك والعمل والإنتاج وتحققت حضارة عالمية ثقافياً وعرقياً وإقتصادياً حملت ملامح الإخلاص المهني للالمان واليابانيين والحكمة البريطانية والذكاء الإجتماعي والثقافي والتجاري للهولنديين والطليان والأسبان والفرنسيس والمهارات اليدوية الافريقية.
 هناك سؤال يفرض نفسه على كل من يرغب في تحليل صفات الشعوب ودورها في تحقيق الإنجازات السياسية والإقتصادية . وهو السؤال المتعلق  بسر نجاح البريطانيين في تكوين إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وكيف تمكنوا من إدارة شعوب مختلفة عنهم في كل أصقاع الأرض. بالطبع ذلك يحتاج الى قدر من التحليل الموسع والمعمق. فلا يمكن تصور تحقيق ذلك الإنجار دون توفر قدر من الإصرار والشجاعة المرتبط بالحكمة والصبر. في صغري تعرضت لسماع مواقف متناقضة تجاه الإستعمار البريطاني لبلادي بين المدرسة والمجتمع. ففي المدرسة كنت أسمع لأساتذة التاريخ الذين يصفون الإستعمار البريطاني بكل صفات الشناعة في الوقت الذي أسمع من كبار المجتمع الذين عاصروا فترة الاستعمار
رأياً مغايراً لذلك حيث كانوا لا يذكرون الإنجليز إلا مع صفات كلها جمال مثل التواضع، والصدق، والعدل والشجاعة.  فيما بعد، تعرفت كنه الفرق بين الموقفين ودوافعه، فالمواطن البسيط تجذبه في المقام الاول المعاملة الحسنة والسلوك القويم
والإحترام. كانت القلة القليلة جداً من البريطانيين الذين حكموا البلاد تحرص على بعض السلوكيات المهمة منها إحترام الثقافات المحلية، وتقليل الإحتكاك مع المجتمعات حيث تركوا مهام الإدارة المباشرة للمصريين والسودانيين وزعماء القبائل. كما نجحوا في بناء أسس لدولة عصرية في فترة كانت البلاد في أوج الحاجة لذلك بعد خروجها من فترة فوضى ومجاعة كارثية. ومن الطبيعي أن يجد ذلك الإحترام والتقدير من قبل هذه المجتمعات التي تلمست بعض الرفاهية والنظام والدولة المدنية. عند التعامل مع الإنسان البريطاني تلاحظ الهدوء والتفكير المرتب والدقة في التعبير.
 لقد قضيت سنوات قليلة في النمسا، ولا اخفي انبهاري برسوخ بعض القيم في الشخصية النمساوية. من هذه القيم التهذيب والإنضباط والنزاهة، فالإنسان النمساوي غاية في التهذيب لدرجة لا تجد شخصاً يأخذه الفضول على التطفل على الآخرين او يسيء التصرف او يعتدي على الآخرين سواء في الشارع او العمل او السكن. قد يتهم البعض المجتمع النمساوي بالإنغلاق او البرود الاجتماعي إلا ان ذلك وصف غير دقيق نابع عن قراءة سطحية لسلوكيات هذا المجتمع الراقي.  في شوارع المدن النمساوية لا تجد ما يعكر صفوك صوتاً او فعلاً كما تلاحظ إنخفاض معدلات الجريمة بشكل كبير. توجد طريقة طريفة لبيع الصحف اليومية عبر توزيعها في حقائب بلاستيكية على أعمدة الإنارة في الأحياء حيث يأخذ المشتري الصحيفة ويضع المبلغ داخل الكيس وياتي موزع الجريدة لياخذ حصيلة اليوم ويضع صحف اليوم التالي في ذات المكان. السؤال ليس هناك من تحدثه نفسه أصلاً في التعدي على هذه الأموال المتاحة في قارعة الطريق. هذا الإنضباط من المؤكد ان لاتجد له مثيل في مناطق اخرى من العالم.   
في نهاية المقال يمكن القول ليس هناك إنسان غير مفيد، فلكل ميزته التي تميزه عن الآخرين، وتظل هذه الميزة ضرورية مهمة وبإمكانها خلق نجاح وأن الحكمة تقتضي أن يحترم البشر بعضهم البعض ويبنوا حياتهم على التشارك والتعاون لانهم يكملون نواقص بعضهم.