الثلاثاء، 20 يونيو 2017

أحزان سودانيي النمسا: رب تقبل ابراهيم ونجيب عندك في هذا الشهر الفضيل



فقد المجتمع السوداني في النمسا مؤخراً اثنين من اعلامه وركائزه وهما الدكتور ابراهيم عوض يوسف الذي لبى نداء ربه قبل الشهر الفضيل بايام والدكتور محمد نجيب عيسي الذي إنتقل للرفيق الاعلى في الأسبوع الاول من رمضان.
 تعرفت علي الدكتور ابراهيم في أيام مقدمي الأول لمدينة فيينا  في منتصف العام 2014، و توثقت صلتي به عبر العديد من اللقاءات التي جمعتنا فضلاً عن الإتصالات الهاتفية بيننا التي لم تنقطع طيلة فترة تعارفنا . كان من الشخصيات التي أحب الجلوس اليها والنقاش معها. يتحفك دوما بكلماته المهذبة وذكرياته  وآرائه المتعددة في قضايا السياسة والمجتمع . جاء الي النمسا طالباً للدراسات العليا الطبية في جامعة فيينا في ثمانينيات القرن الماضي وطاب به المقام بها . رغم بقائه في النمسا طوال عقود الا ان الرجل كان محافظاً علي السمت السوداني في كل شيء. في حديثه وإهتماماته وهمومه وتقاليده  . العمة والجلابية كانت ثوبه المميز ولا يشعر بأدنى إحساس انها زي غريب في شوارع فيينا وهو يجوبها بعمته الكبيرة وجلابيته الفضفاضة . كل ابراهيم رجلاً إجتماعياً من الطراز الاول حيث ظل يشكل حضوراً فى كل مناسبات الإفراح والاتراح التي تجمع مجتمعنا الصغير في فيينا سواء في بيت السودان او مقر اقامة السيد السفير او الأنشطة التي درج على تنظيمها صندوق المراة السودانية بفيينا.  وكان يحظي بالتقدير من الكل الذين يعاملونه بإحترام وتقدير وأبوية يستحقها. كثيرين ممن نلتقيهم نشعر بين كلماتهم نفحات مرارات وبعض أحقاد او قسوة  حتي لو حاولوا اخفائها الا انها كعادة المشاعر فهي لا تخفي فمهما حاول صاحبها إخفائها فهي تظهر معبرة عن نفسها بشكل او بآخر ، ويتفاوت الناس في ملاحظة هذه المشاعر السلبية . يمكنني القول أن ابراهيم كان مبرءاً من ذلك وأحسبه كان صافي السريرة ، حسن الاخلاق وكان نباتاً صالحاً من بيت كريم . فلا تجد ابداً في كلماته اي أثر لهذه المشاعر السلبية.  كان ابراهيم يحرص على مد الصلات مع الآخرين والتعرف عليهم . أذكر انني عرفته بصديق لي زارنا في فيينا وما كان منه الا أن إتخذ الفرصة لدعوتنا بمنزله بروح شيخ العرب الكريم الذي لا يكترث لتكلفة الدعوة والإستضافة،  فقضينا معه وقتا جميلاً . الحرص على دعوة الاخرين لمنزله عادة معروفة عنه ، فكم مرة دعاني الي منزله لتناول الشاي او الإفطار في شهر رمضان ، وكان له وعد لي بزيارتي في منزلي ولكن أخذته المنية قبل ان يفي بوعده. لم تبعده همومه الخاصة او بعده الجسدي عن السودان من الاهتمام بهموم البلد ، فقد كان يحتفظ بمودة خاصة لجيل الاستقلال والآباء المؤسسين للدولة السودانية المستقلة لا سيما الزعيم اسماعيل الازهرى ، كما لم يتردد في الإستجابة لاي دعوات تخص العمل الوطني العام، وقد شارك قبل وفاته بأشهر في مؤتمر عقده جهاز السودانيين العاملين بالخارج في الخرطوم للخبراء السودانيين المغتربين في الخارج بغرض نقل الخبرات والمعرفة والاستفادة من آرائهم وتجاربهم ، وقد عقد بعد عودته من الخرطوم جلسة نقاشية في بيت السودان بفيينا تحدث فيها عن تجربته في المؤتمر والخبراء السودانيين الذين التقى بهم وإنطباعاته الايجابية عن الحدث والمبادرة.
الدكتور ابراهيم عوض يوسف ( يمين) يقدم هدية للاعلامي القدير الاستاذ حسن عبد الوهاب ( وسط) بعد جلسة دردشة ببيت السودان بفيينا، ويظهر في يسار الصورة الاستاذ عبد الله شريف رئيس جمعية صحفيي الامم المتحدة بفيينا

قصة سمعتها منه جعلتني أفكر أكثر من مرة ، ما هذا الرجل الملاك؟ ، وهي قبل وفاته بأسبوع او اسبوعين حيث إجتمعنا في بيت السودان بفيينا في مناسبة عزاء تخص أحد الاخوان، وبعد أداء صلاة المغرب التي تولي فيها إمامتنا ، دعا للمغفور له بالرحمة والثواب وذكرنا ان الميت يحتاج لدعاء الحي وقال أن ذلك لا يتطلب وجود صلة رحم او قرابة وقال انه شخصياً لسنوات عديدة يدعو يومياً لسيدة مصرية كان يعرفها في مدينة الزقازيق في مصر التي درس الطب في جامعتها، وقال ان علاقة طيبة ربطته بتلك السيدة الكبيرة في السن التي إستأجر منها شقة ضمن طلاب سودانيين وقد إنتقلت فيما بعد الي ربها،  الا انه حافظ علي مودته لها بالدعاء لها يومياً بالرحمة والمغفرة. توقفت كثيراً عند هذه القصة وهي بالتأكيد قصة مؤثرة ، تعكس في الأول أصالة معدن هذا الرجل ، فقليل من البشر يحافظون على مودة الموتي، حيث تلعب المصالح الدور الأكبر في تحديد نشوء علاقات البشر وإستمرارها . فبما انه لا مصلحة ترجي من ميت فأن الموتي هم الأكثر عرضة للنسيان والتجاهل،  ربما تستمر الذكري والدعوات  لفترات بسيطة لكن في الغالب تتراجع تلك الذكرى او تموت وتنقطع المودة والدعوات للموتى. فحتي الآباء والأقربين تتحول الدعوات لهم بعد مرور السنوات الاولى الي المواسم، من الجمعة الي الجمعة ومن ثم من العيد الي العيد وهكذا الا من رحم ربي .

الراحل الدكتور محمد نجيب عيسى

اما الرجل الآخر وهو المهندس الدكتور محمد نجيب عيسي ، فهو واحد من رموز السودان وابنائه البررة الذين حملو إسمه في الأوساط العلمية الدولية. كان من قلائل السودانيين الذي تبوؤا مناصب قيادية في الأمم المتحدة حيث ترأس المكتب الاقليمي لمنظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية في إقليم الجنوب الافريقي في بريتوريا، كما شغل مواقع قيادية في رئاسة المنظمة في فيينا كان اخرها منصب مساعد المدير العام . كان علماً في تخصصه ، حيث كان يحمل شهادات عليا في الهندسة الكيميائية وإدارة البيئة وتصفية البترول في جامعات بريطانيا وفرنسا، كما منحته جامعة ستراتكلايد الاسكتدلنية درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم تقديرا لمساهماته في نشر ثقافة الإنتاج الصناعي المحافظ على البيئة في الدول النامية كما كان استاذاً زائراً في جامعات غربية متقدمة   .
لم التق الدكتور نجيب الا في منتصف العام 2016 ، حيث كان خلال فترتي الأولى في النمسا مقيماً في جنوب افريقيا الا أنني سمعت عنه الكثير الطيب الذي تحققت منه عند لقاءه . جمعتني به الفرصة  في مناسبة تعريفية عن السودان نظمها إتحاد السلام العالمي ووكالة القرن الافريقي تحت عنوان السودان حيث يلتقي النيلين الابيض والازرق وهي حلقة ضمن سلسلة تعريفية عن دول القرن الافريقي في فيينا يتم فيها التركيز على حقائق الجغرافية والسكان والثقافة والصلات الإقليمية ، و قدم فيها مداخلة تعريفية عن السودان وسكانه ومميزاته  . كانت مداخلته علمية ومهنية ومحايدة .  تجد فيه تواضع العلماء وحكمة الكبير . لقاءاتي به علي قلتها كانت مفيدة وكم كنت أتمنى ان أجد الوقت الكاف للجلوس اليه . ثم التقينا مرة اخرى ضمن حلقة تعريفية عن جنوب السودان ( الجزء الآخر من السودان الكبير) . كان الرجل مهموماً بقضايا بلده رغم مسؤوليات المنصب الدولي الذي يشغله ، فقد تحدث معي عن رغبته لزيارة البلاد واللقاء مع بعض المسؤولين للنقاش معهم في مسائل تخص البيئة والتنمية، غير ان ظروف المرض لم تمكنه من إنجاز تلك الزيارة، كما سمعت منه إهتمامه وتشجيعه لمبادرات بعض الشباب من جيل ابناء المغتربين بالخارج في نقل تجارب متعلقة بادارة النفايات وتدويرها الي السودان  .
يظل الكبير كبيراً في أهلك المواقف ، حتى في آلامه ، فالسيد نجيب رغم مرارة المرض الصعب الذي ألم به الا انه كان متماسكاً محافظاً على اتزانه وابتسامته وهدوءه لدرجة ان الكثيرين لم يكونوا يعرفون حقيقة مرضه وخضوعه للعلاج . ذهبنا لتعزيته في مناسبة وفاة شقيقته التي سبقته قبل اشهر ، فبالرغم ان الرجل كان نفسه يخضع للعلاج الا انه كان متماسكاً تبدو عليه علامات الرضا والسكينة والاطمئنان . 

اللهم تقبل ابراهيم ونجيب عندك وادخلهما الجنة  انك عفو كريم

الأحد، 28 مايو 2017

مرة أخرى في كورمند المجرية في إحتفال أيام السودان



تشرفت  مرة أخري بالمشاركة في الحدث السوداني في كورمند المجرية، وذلك يوم السبت الموافق 13 مايو 2017. المرة الاولي كانت في صيف العام 2015  وكتبت حينها عن ذلك في هذه المدونة. يمكن إعتبار المناسبة الحدث السوداني الراتب في اوروبا الذي يعقد بشكل دوري كل عامين. ويعد إستمراره لفترة 18 عاما متتالية بمثابة نجاح كبير يحسب للقائمين عليه. فلا يمكن تحقيق هكذا عمل دون جهد رجال ونساء يقفون وارئه ويسهرون لنجاحه. وأود ان أسجل هنا تقديري لكل الأخوة المتعاونين في إنجاح الحفل سواء في المجر او النمسا بالأخص أعضاء اللجنة المنظمة لا سيما الدكتور عبد الحميد عابدين المستضيف الرئيس للحدث في بيته ومقر إقامته بكورمند حيث يحظي بتقدير كبير من المجتمع وإدارته هناك ، وكذلك الأخ عبد الله شريف رئيس جمعية الصحفيين بمقر الأمم المتحدة بفيينا الذي أخضع كل معارفه وقدراته وإمكاناته لإنجاح الحدث و كان لافتاً لإنتباه الأخوة المجريين حديثه في الحفل بلغتهم التي توصف بالصعوبة التي لا تشجع الآخرين لتعلمها، والأخ عبد الله يجيد التحدث بهذه اللغة التي درس بها بالاضافة الي لغات اخرى، وبقية الأخوة في اللجنة المنظمة وهم حسن التيجاني، وإسماعيل عبد العال، وبشير ابو، وعزالدين بابكر بالإضافة الي الرجل الخلوق سعادة سفير السودان ببودابست السفير عادل بشير وطاقم سفارته الذين ساهموا في إنجاح الحدث وهم يشاركون للمرة الأولي بعد إفتتاح السفارة السودانية في بودابست في نهايات العام 2015 . 

كلمة عمدة مدينة كورمند


جانب من الحضور في حفل الافتتاح


كلمة السيد سفير السودان ببودابست


أهم إشراقات هذه المرة تمثلت في تنويع العروض الفنية عبر مشاركة فرق إفريقية تمثل ثقافات اخرى متصلة بالسودان ، حيث شاركت فرقة من بوركينا فاسو وأخرى إستعراضية من اثيوبيا وهي فرق مقرها في مدينة فيينا وتشارك كالعادة في المناسبات الإفريقية بالإضافة الي فرقة النيل السودانية الناشطة في غرب اوروبا ( هولندا وبريطانيا) . هذه المشاركة أكدت الطبيعة المحورية للسودان في إفريقيا كمحط لإلتقاء ثقافات غرب افريقيا بشرقها وشمالها وجنوبها. فيجد الافارقة اينما كانوا بعضاً من ملامحهم الثقافية في تراث السودان وثقافته وهكذا يجد السودانيون أنفسهم مقبولين اينما ذهبوا في افريقيا ويتلمسون نقاط التشابه والإلتقاء بين ثقافاتهم وثقافات الشعوب الافريقية الأخرى. كما أبدع المطرب ياسر وردي القادم من هولندا مع فرقة النيل السودانية في أداء اغنيات الراحل المقيم محمد عثمان وردي بصوت بتطابق الي حد كبير مع صوت وردي مع أداء مسرحي رائع حرك أشجان الحضور الذين تجاوبوا معه بكل إنفعال متسابقين الي المسرح معبرين عن فرحهم وإندماجهم مع ادائه . الأطفال شكلوا ايضاً حضوراً معبرا عن الفرحة بمشاركاتهم في الرقص والإستعراض واندماجهم مع الفنانين لا سيما الفرقة الاثيوبية التي ابدعت ايضاً في الرقص الاستعراضي الاثيوبي على أنغام أغنيات الامهرا الشيقة بكل موسيقاها الحية التي تحرك الحجر والخشب ان جاز التعبير . 

الفنان ياسر وردي واداء فني ومسرحي متميز


تفاعل الجمهور مع اداء الفنان وردي


جانب من الحضور في الحفل الموسيقي


كانت المناسبة فرصة للقاء بعدد كبير من الأخوة السودانيين الذيت توافدوا من مناطق مختلفة من المجر، والنمسا، والتشيك، والمانيا، وهولندا، وبريطانيا بالإضافة الي المواطنين المجريين الذين شكلوا حضوراً لافتاً وكبيراً في حفل الإفتتاح وفي الحفل الموسيقي . السيد بيبيس استيفان عمدة مدينة كورمند كان هناك بقامته المديدة وكلماته الرصينة حيث ذكر في كلمته ان المناسبة أضحت إحدى الأحداث المرتبطة بمدينته، وأن الكثيرين يحرصون على حضورها والإستمتاع بمشاهدة الفلكلور السوداني الإفريقي والمعرض المصاحب للمناسبة وما يتضمنه من معلومات عن السودان . وعبر عن تشجيعه للمناسبة ودعمها. كما اشاد السيد السفير السوداني بالمجر بالمناسبة وقال انها تمثل محور للدبلوماسية الشعبية وعلاقات الشعوب ببعضها البعض واستعرض ملامح العلاقات بين البلدين التي وصفها بالمتطورة . كما حضر المناسبة مسؤول السفارة الارترية ببرلين ومسؤول ملفات المنظمات المقيمة في فيينا الاستاذ عبد القادر حمدان الذي يحرص على المشاركة في المناسبات السودانية في إشارة جديرة بالتقدير والإحترام تعكس مدى إدراك الرجل  لعمق العلاقات بين بلده والسودان التي لا تحدها حدود ولا تتوقف عند مستوي معين، فهي علاقات روح ودم قبل أن تكون علاقات مصالح ومصير مشترك .
رفع العلمين السوداني والمجري في الساحة الرئيسية للمدينة ايذاناً ببداية الاحتفال، بادرة تبعث الراحة في نفس اي مواطن له صلة بالسودان كما تعكس ايضاً ثقافة الترحيب وتقبل الآخر لدي المجريين.  ويظل المعرض متاحا للجمهور المجري لفترة تقارب الشهر في مقر رئيس في المدينة وهو قصر تاريخي يخضع لإشراف السلطة المحلية، وقد علمت انه يجد إهتماماً من كل قطاعات المجتمع الذين يحرصون عبره على التعرف علي هذه المنطقة البعيدة عن منطقتهم بكل ثقافاتها وسماتها وأنماط الحياة فيها  . ويتضمن المعرض صور عن الحياة والمجتمع في السودان، ونماذج عن الفلكلور الشعبي المتمثلة في الازياء وادوات الزينة وغيرها.  
 القيمة الكبيرة للمناسبة ونجاحها هو تركيزها على الجوانب الثقافية والاجتماعية بحيث يتشارك المجتمع السوداني في إنجاح الحدث بغض النظر عن إنتماءات الأفراد العرقية والثقافية او الإتجاهات السياسية .  وتظل المناسبة حدثاً اجتماعياً وثقافيا يتشارك في إنجاحه المجتمع السوداني الاوروبي  بحضوره وتكبده مشاق السفر الي كورمند في الحدود المجرية النمساوية للإحتفاء والتعارف والإستماع الي الموسيقي السودانية واتاحة الفرصة للأسر والأطفال للمرح واللهو البريء بالخروج من رتابة حياة المدن الي سعة الريف المجري الرحيب .نأمل ان تكون الدورة القادمة للإحتفال اكثر نجاحاً من سابقاتها من حيث مستوي المشاركة والحضور، ومحتوي المعرض والبرامج، وأكرر تحياتي للقائمين على أمر الاحتفال وللمجتمع السوداني في النمسا والمجر وبقية دول وسط اوروبا .

الفرقة الاستعراضية الاثيوبية


مشاركة الفرقة الافريقية من بوركينا فاسو


  

السبت، 22 أبريل 2017

ابتسامة الرضا على وجوه المكفوفين: حقيقة محيرة

من الأشياء التي تحيرني ، الإبتسامة الدائمة التي اراها مرسومة على وجوه المكفوفين. هذا النوع من البشر المحرومين من نعمة هي من أهم النعم.  نعمة البصر التي تتفوق على كثير من المزايا الطبيعية التي يتميز بها الإنسان والحيوان . فبدون هذه النعمة يفقد الانسان القدرة على رؤية مظاهر الحياة حوله والتفاعل مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه والتمتع بمناظر الطبيعة ، والاستقلال الذاتي حيث يقل مستوي اعتماده علي نفسه، لا سيما في السفر والدراسة والعمل حيث يحتاج دوما الي مساعدة الآخرين.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل البصر ورؤية البشر يسببان الكدر والتوتر ويقللان مستوي الرضا الداخلي الذي يصنع السعادة التي تتمظهر بدروها في الابتسامة ؟ أعتقد ان الكثيرين سيرفضون هذا الاستنتاج ، فالادراك البصري هو من أهم مصادر المتعة والسعادة. لكن لماذا يبتسم هؤلاء المكفوفين بشكل مستمر ؟ بالطبع ليس كل المكفوفين سعداء ومبتسمين ومنهم بعض النوع المتجهم او المكفهر الوجه لكن تبدو الراحة والرضا والسعادة على وجوه الاغلبية منهم . 

السبت، 25 فبراير 2017

عودة الي الماضي: مع معالم كوش ومروي في متحف السودان القومي

المتاحف تظل هي المكان المناسب الذي يمكنك من التعرف بصورة سريعة، وغير ذات عناء علي معالم الحضارة والتاريخ . هذا عكس المكتبات والكتب التي تحتاج الي قضاء وقت كثير في الإطلاع . المعلومات التي تعرضها المعارض، تكون كالعادة معدة بشكل مختصر وموجه بعناية لنقل المعلومة للمتلقي. كالعادة، احرص عندي زياراتي لاى مدينة بزيارة المتاحف . بحمد الله تشرفت بزيارة بعض المتاحف ذات الصيت العالمي مثل المتحف المصري ومتاحف فيينا والارميتاج بسان بطرسبورج واللوفر بباريس .
مدخل المتحف نحو قاعات العرض 
 متحف السودان القومي هو اب المتاحف السودانية ، ويعكس جوانب مضيئة من حضارة السودان التي يمكن القول أنها تدهش البشرية كل يوم لانه لازالت في طور الإكتشاف ، فلا يمر شهر او عام الا ويتم الإعلان عن كشف أثري جديد حيث تنشط عدد من البعثات الاثرية بالتعاون مع هيئة الأثار السودانية في هذا العمل الضخم. وتضم  هذه البعثات خبراء من سويسرا والمانيا والنمسا والتشيك وغيرها كما نجح من قبل خبراء من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا وبولندا في إكتشاف بعض الآثار السودانية وفك طلاسم بعضها . كما بدء في السودان مشروع كبير بدعم من دولة قطر لحماية الآثار واكتشافها، وهو يشكل بمثابة خطوة جيدة في طريق طويل يتمكن عبره السودان في إكتشاف آثاره وحمايتها ومن ثم إستغلالها معرفياً وسياحياً.
تكونت النواة الاولي لمتحف السودان في فترة الإستعمار البريطاني وقد توسع فيما بعد بدعم من اليونسكو حيث تم نقل عدد كبير من الآثار التي تم إنقاذها من بحيرة النوبة الصناعية بعد بناء سد اسوان العالي في مصر . حالياً يضم المتحف مقتنيات وآثار من كل عهود الحضارة السودانية بدءاً من مروي مروراً بكوش ونبتة انتهاءً بالعهدين المسيحي والاسلامي ، بالاضافة الي معابد تم تفكيكيها وتركيبها مرة أخرى وهما معبدي بوهين وسيمنا اللذين تم إنقاذهما بعد بناء سد اسوان . ويقع المتحف في منطقة متميزة في وسط الخرطوم في منحي غير بعيد عن ملتقي النيلين الابيض والازرق، وهي المنطقة المركزية والسياحية الأولى في الخرطوم. عند مدخل المتحف تستقبلك الأسود الكوشية التي تم وضع تماثيلها على جانبي الممر المؤدي لقاعات العرض في مشهد فني رائع يعكس الحضارة السودانية في أحد أهم رموزها وهو الأسد. وفي بهو المتحف، يقف تمثالان ضخمان لملكين نوبيين ينتصبان في شكل مهيب بخطو واثقة نحو الامام ، تم وضعهما في شكل متوزاي لكن للاسف الشديد لم يتم التمكن من معرفة اي معلومات عنهما ، غير معلومة إنهما من فترة الملك المروي نتكماني. تم نقل التمثالين من منطقة تبو بنواحي كرمة في شمال السودان.
التمثالان الضخمان في بهو المتحف
الاسود الكوشية وهي تستقبل الزائرين في مدخل المتحف

تتفرد الحضارة السودانية ،التي ترجع الي 7000 عام، بمزايا غذتها جغرافية السودان وموقعه في قلب افريقيا المرتبط بشمال افريقيا وعبرها بنفحات الشمال المتوسطي والاوروبي واتصالها بالبحر الاحمر وعبره باسيا والهند فضلا عن كون وجودها في مركز افريقيا الذي مكنها من الاتصال مع كل اركانها واطرافها الجغرافية. توصف مروي القديمة بان كانت بيرمنجهام افريقيا نظراً لازدهار صناعة الحديد فيها التي شهدت تطوراً كبيراً عكسته معالم الآثار التي خلفتها. نمت مروي بفضل إرتباطها بروابط تجارية محلية ودولية ، في فترة إمتدت مابين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد. وتعكس الآثار السودانية الترابط والاتصال بين السودان والعالم الخارجي، ففي آثار مروي في منطقة النقعة تجد معبداً رومانياً مكتملاً تم بناءه جنب علي جنب معبد إله الحرب المروي أبادماك، كما تجد في آثار نبتة في كريمة والبركل وكرمة ما يتصل بالحضارة الفرعونية المصرية في شكل تماثيل للآله آمون . كما تعكس الآثار النوبية إتصالاً بالمسيحية في شكل كنائس مزخرفة تم بناءها في دنقلا العجوز وفرس وجزيرة صاي.
لفت نظري في صالات المتحف تماثيل الملوك الكوشيين ومنهم تمثال الملك تهراقا العظيم الذي ينتصب شامخاً بقامته المديدة وبملامحة السودانية الأصلية ، وهو أحد ملوك الاسرة 25 الكوشية التي حكمت وادي النيل وامتد حكمها الي الشام ودخلت في معارك مع الآشوريين . وكذلك تماثيل الملكة اماني مليل ،والملك اثلانبرسا، والملك اثلاماني الذين تم وضعهم في شكل صف طولي .  كما توجد في المعرض مسلة الملك بعانخي والد تهراقا وتتضمن نقوش وكتابات عن فترته .
تمثال الملك تهراقا العظيم بن بعانخي 

تماثيل الملوك الكوشيين 

مسلة الملك الكوشي بعانخي الذي حكم السودان ومصر والشام 

أتمني أن تجد الآثار السودانية حظها من الإهتمام والإكتشاف، والعرض، وتثقيف المجتمعات بقيمتها، والعمل علي إسترداد ما تم نقله او تهريبه للخارج . فهي تمثل قيمة معنوية تعكس عمق الحضارة السودانية وتفردها . كما أتمني ان تتواصل المجهودات الرامية لفك طلاسمها لا سيما اللغة المروية التي كتبت بها نقوش الآثار الكوشية القديمة التي لا زالت مجهولة . كما يجب أن يتم تشجيع تعريف العالم بقيمة هذه الآثار وبحمد لله فقد تم تسجيل بعض مواقع هذه الآثار في سجل التراث الثقافي الكوني لمنظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو) ، وهي آثار مروي القديمة في النقعة والمصورات بالإضافة إلي موقع آثار نبتة في البركل وكريمة ومروي 

الأحد، 11 ديسمبر 2016

في وداع الاخ حسين ولي اركاب..... الي عليين ايها المهاتما اركاب

فجع شرق السودان في بداية الشهر الجاري برحيل الاستاذ حسين ولي اركاب ، وهو رجل ادي رسالته وواجبه في الحياة تجاه مجتمعه وبلده وفارق الحياة وهو في اوج العطاء في وقت يتوقع منه الكل مواصلة المساهمة في حل مشكلاتهم بالحجة والفكر . حسين خريج الجامعة السورية بدمشق التي منحته إجازة في الادب صقلها بالقراءة والاطلاع. لقد مكنه تكامل دراسته الاكاديمية   مع مهاراته  الطبيعية في التعبير باللغة العربية للوصول لدرجة عالية من الايضاح والبيان . كنا نستمتع ونحن نستمع لمداخلاته في المجلس التشريعي لولاية البحر الاحمر ، حيث كان يتحفنا بحديث شيق يجمع بين المعرفة العميقة وحسن الصياغة والاسترسال السلس وهو يربط بين الموضوعات والابعاد لتشمل الاجتماع والاقتصاد والبيئة. هو من النوع الذي يركز علي بث رسالته بلغة رصينة بعيدة عن التحدي والمبارزة وبصوت هاديء يخلو تماما من العنف والتشنج  . عندما كان يتحدث اتخيل ان قديساً من طراز المهاتما غاندي بعث في سواحل البحر الاحمر ليلقن الناس دروساً في الاخلاق والصبر والحكمة والتضحية من اجل الحق ويعلمهم ان الحياة هي مسرحية محدودة الوقت، وان الارادة الالهية هي التي خلقتنا ومنحتنا الروح التي ستذهب لبارئها عند ميقات معلوم،  وبالتالي ينبغي ان نعرف كنه هذه الحياة ولا نظلم بعضنا البعض وان نتحرر من سطوة الغرائز العدوانية والبهيمية على تصرفاتنا واتجاهاتنا . هذه الغرائز التي تشمل الطمع والجشع والعنصرية والكراهية والنرجسية ووهم التفوق، وكلها امراض تسببت في تعكير صفو الحياة السياسية والاجتماعية في كثير بلدان الافارقة والعرب . حسين ينتمي الي نوع نادر من  الساسة وهو النوع الذي يمارس السياسة اضطرارا وكوسيلة لحل مشكلات الناس وليست سبيلاً للاشباع النفسي والغرور والتسلط والتكسب . نجح حسين في مساعدة الكثير من ابناء الشرق في الحصول على مقاعد للدراسة الجامعية في الجامعات السورية مستغلا علاقاته مع الجامعات هناك التي درس فيها، وهي صدقة جارية تحسب له لان الكثير منهم نهل من العلم وعاد لبلاده وساهم في دعم اسرته ومجتمعه. اذكر انه تحدث لي عن عمق حزنه لسبب قطع بعض الطلاب دراستهم هناك ورجوعهم دون اكمالها.
اذكر انني عاتبت الاخ حسين قائلاً انني قاريء نهم لكتاباتك الدورية في صحيفة برؤوت المحلية فقط اسمح لي ان اقول انني اجد وضوح لروح التشاؤم في كتاباتك وطلبت منه ان يبرز التفاؤل لان الانسان ليتطور ويعمل يحتاج لطاقة ايجابية تدفعه للانتاج والانفتاح على الحياة ؟ ولم يعترض حينها كثيراً ووافقني على ارائي  ، وهو رجل مؤدب ولكنه رد لتعليقي كتابة في مقالة الاسبوعي موضحاً  ان التشاؤم الذي يبدو في كتاباتي هو حقيقة نعيشها في حياتنا وان دواعيه هي الاكثر، ولم ينكر اتهامي بل وصفني بالرجل المهذب في اشارة الي عمق تأثره بتعليقي  .
كنت اتساءل ما هي الاسباب التي قادت رجل في طبيعة حسين المسالمة والمثقفة للمشاركة في تأسيس حركة للتمرد؟ وهو الاتجاه الذي لم يستمر فيه لاسباب ليس لدي علم بتفاصيلها وعاد مبكرا للبلاد ليمارس عمله الاجتماعي والثقافي من الداخل. هذا رغم قناعتي ان حركة تمرد البجا التي شارك في تأسيسها في مرحلتها الاولي اتسمت بغلبة الاتجاه السلمي وعدم الجنوع لممارسة العمليات العنيفة طيله فترة وجودها في منطقة الحدود بين السودان وارتريا حتي توقيع اتفاق سلام الشرق في 2006 الذي لم يكن هو بعيدا عن مفاوضاته وتوقيعه حيث تم اختياره ضمن كتلة نواب جبهة الشرق ومؤتمر البجا في المجلس التشريعي لولاية البحر الاحمر.
اذكر انني زرته في بيته في زيارة خاطفة لم تستغرق الكثير من الوقت ، واشعر الان بعميق الاسف لان لقاءنا كان مختصراً وكانت في ذهني العديد من الاسئلة التي كنت اود ان اناقشها معه منها اسباب محاولة اتخاذه السلاح لتحقيق الاهداف السياسية في مرحلة من حياته والاسباب التي دفعته للتراجع مبكراً عن هذا الاتجاه ،وكذلك التهمة التي يثيرها البعض عن انتماءه لحزب البعث العربي رغم نشاطه الظاهر في حركة البجا وتنظيمات الشرق وهل ثمة تناقض بين الاتجاه العروبي الذي يقوم عليه فكر البعث العربي و بين الانتماء لتنظيم يدعو الي بعث قومية افريقية. اعتقد انني كنت ساسمع محاضرة وافية عن ذلك وكنت ساتفق مع كثير من رؤاه.
شخصياً لا اري ضرورة لابراز هذا التناقض المحتمل بين الثقافة العربية والثقافات الافريقية في السودان لان الثقافة السودانية خلافا لثقافات كثير من البلدان العربية هي خليط واضح بين المكونات الثقافية العربية والافريقية حالها كحال السوادنييين انفسهم ، ولم تبرز اي قناعة بالتناقض طوال تاريخ السودان منذ عهد عمارة دنقس وعبد الله جماع وسلاطين الفور وملوك النوبة والبجا وغيرهم حيث تواضع السودانيون طوعا على اختيار اللغة العربية كاداة للتخاطب فيما بينهم والاخذ من الثقافة العربية دون احساس بانها خصماً علي موروثاتهم . اما الشرق وهو الاقليم الاكثر قربا لمهد الثقافة العربية في جزيرة العرب لم تثر فيه قضية الهوية وتناقض الانتماء ابدا ، حتي بيان تأسيس اول حركة مطلبية اقليمية في العام 1958 خلا من اي اشارة لموضوع الثقافة والهوية وتم فيه التركيز علي التنمية وتحسين سبل المعيشة والحقوق السياسية الاخرى. اعتقد ان تسييس موضوع الهوية وابراز تناقض بين الثقافة العربية والثقافات الافريقية برز وبشكل اوضح في السياسة السودانية نتيجة خطاب الحركة الشعبية التي تبنت هذا الاتجاه غير المطلوب ونجحت في تعبئة كثير من ابناء القوميات السودانية غير الناطقة بالعربية لكنهم اكتشفوا عملياً انها لم تكن سوي مشروع انفصالي كان يعمل عرابوه على تقسيم البلاد منذ اصرار قرنق علي موضوع تقرير المصير في مؤتمر اسمرا للمعارضة السودانية في العام 1995 انتهاء بما عكسته نتيجة الاستفتاء الذي تم في ظل سيطرة الحركة من اختيار لمسار الانفصال  بنسبة تفوق ال90% . 

ارقد بسلام اخي حسين  ، لقد اديت واجبك ، ندعو الله ان يتقبلك قبولاً حسناً ويدخلك الجنة مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقاً.

الأحد، 13 نوفمبر 2016

تاكسي القاهرة: مذاق خاص

لتاكسي القاهرة نكهة خاصة قد لا تجدها عند التاكسي في الانحاء الاخري من العالم. ليست النكهة المقصودة هنا جودة الخدمة او نوعية السيارات لكن ترجع الي سائقي سيارات التاكسي من الاشقاء المصريين الذين يتسمون بقدر كبير من الفكاهة والدعابة والقدرات العالية في الحكي وسرد القصص و التعليقات العابرة التي لا تخلو في كثير من الاحيان من السخرية اللطيفة. هذه المزايا لا تجدها عند سائقى التاكسي في الدول الاخري خصوصاً في اوروبا،  حيث تغلب عليهم صفات الصرامة والميل الي السكوت. لو كنت محظوظا وانت في القاهرة، ستجد نفسك في معية سائق تاكسي من فئة الكبار في السن وبالطبع سيشغل وقتك معه وسيمتع اذنيك باستماع عدد من قصص حياته وتعليقاته الساخرة واحاديثة التي تتناول موضوعات عدة تبدأ بالحكاوي والتجارب مروراً بتعليقات عن المشاهير والافلام انتهاء بالسياسة التي يتكلمون عنها بشكل يخلط بين الحذر والسخرية الحريصة اي غير المسترسلة حيث يحاولون عدم الخوض فيها بتفاصيلها . ربما يقصد سائقي التاكسي القاهريين كسر رتابة المشاوير في مدينتهم المزدحمة ، او يعملون ذلك بهدف كسب الزبون علي أمل إستمرار صلة المصالح.
في كل مرة ازور فيها القاهرة ، اخرج بكم هائل من القصص التي اسمعها منهم واحيانا من طريقة تعاملهم مع الاخرين . تجربتي الاولي كانت في العام 2006 وهي المرة الاولي التي ازور فيها المحروسة، واذكر انني استغليت تاكسياً في الجيزة الي حيث الاهرامات . عندما علم السائق جنسيتي السودانية، سالني مبادرا هل تعرف احسن رئيس مر علي السودان قلت له من هو قال لي الرئيس جعفر النميري فقلت له انني اختلف معك تماما فليس هو احسن رؤساء السودان وعددت له بعض الاخطاء التي اراها من جانبي ، ووجدت الرجل غير مكترث بتفاصيل حديثي فعندما لاحظت الحيرة عليه واستغرابة لردي الجاد على تعليقه قلت يا اخي انا معجب بسياسة الرئيس مبارك وهدوئه واتزانه وقدرته علي موازنة الامور في بلاده ودورها الخارجي واهتمامه بمعاش الناس وامنهم وتقبل النقد والمعارضة . وعندما لاحظت عدم استحسانه لحديثي وبعد فترة صمت لبرهة،  قلت له مداعباً لو قدمتم لنا كاشقاء لكم خدمة سنشكركم عليها قال لي ما هي هذه الخدمة قلت له ان تقوموا بتسليفنا الرئيس مبارك لمدة سنتين، فما كان منه الا وقال رافعاً يديه ( ياعم مش سنتين ، خدوه معاكم على طول) فانفجرت ضاحكاً لرده الانفعالي اللطيف.
في زياتي الاخيرة للقاهرة في الشهر الماضي ، ربطتي صلة مع احد سائقي التاكسي الذي اتفقت معه بصورة غير رسمية علي كل مشاويري طيلة الايام التي ساقضيها في المدينة وكان على قدر المسؤولية ولم ار منه الا الجدية والصبر والاستعداد التام على الخدمة . اسمه جميل وبالفعل كان جميل الخصال هدوءا وصبرا وكنت اناديه بعم جميل، كما توحي ملامحه فهو في الستينيات من عمره يضع نظارة طبية على عينيه ، فذكر لي انه موظف سابق احيل الي المعاش واتخذ من مهنة التاكسي طريقا لكسب معيشته . تختزن ذاكرته قدر كبير من القصص والحكاوي التي يزيدها لطفا بتعليقاته الطريفة وقدرته على الحكي والسرد . من اساليبه في السرد البدء بسؤال استفساري لشد انتباهك فمثلاً يقول تعرف ايه عن اثار مصر الاسلامية او هرم خوفو ؟ وعادة ارد عليه بعدم المعرفة الدقيقة ويبدأ في الاستعدال قائلا : طب كويس انا حاكلمك ويبدأ في القصة. أخذني في مشاوير انا واسرتي الي مواقع كثيرة في القاهرة شملت الاهرامات ووسط البلد وجامعة القاهرة وبانوراما اكتوبر والزمالك وخان الخليلي والحسين والسيدة زينب والفسطاط.  من الاشياء الرائعة انه كان يحتفظ بحل لكل مشكلة فضلا عن استعداده الدائم للمساهمة في حلها. يحتفظ في هاتفه بقائمة مطولة من الارقام التي تربطه بالفنادق والمواقع السياحية واصحاب الخدمة  . هناك مواقف كثيرة اتذكرها لها في طريقة ردوده وكلامه مع الاخرين. كنت بصحبته ومررنا بتقاطع ساحة عبد المنعم رياض بوسط البلد وهي منطقة مزدحمة تمر بها عدد من الطرق استوقفنا رجل شرطة طالبا منه ابراز رخصة القيادة وقام بابرازها له قائلا (مين يحاسبني على الزمن الوقفتني ليه ) فاعاد له الشرطي الرخصة مع ابتسامة ، ربما احترم ظرافته او جديته او شجاعته او عمره . اذكر ايضا كنا في الجيزة وسالته ان كان يعرف احد المطاعم القريبة من المكان الذي كنا نقف فيه ، فاذا بشاب يتابع حوارنا يتدخل مشيرا الي وجود مطعم قريب فرد عليه العم جميل قائلاً : يابني امسك عليك ودانك ) الطريف ان الشاب انفجر ضاحكاً من الرد ولم يشعر باي احراج، وضحكنا كلنا سوياً فسالته ان كانت بينهم سابق معرفة فنفي ذلك قائلاً : اشوفو اول مرة . هناك عدد من المواقف التي اتذكرها له والتي كنت ادونها في ذاكرتي،  لكن الملاحظ ان الذين يقوم بالتعامل معهم العم جميل بطريقته يتقبلون تعليقاته بصدر رحب دون اي انفعال او غضب . ربما يرجع ذلك لطريقته المحببة في التعبير الساخر غير المدعم بلغة جسد عنيفة او لصفات جميلة عند اشقائنا المصريين تتمثل في احترام الشباب للرجال الكبار في العمر بالاضافة لاستعدادهم النفسي للتعامل مع التعليقات الساخرة وتقبلها والتعاطي معها بسخرية مضادة  .
شخصية سائق التاكسي واحدة من الشخصيات التي تمثل حضورا كبيرا لا سيما في الافلام والروايات المصرية والعالمية لعده اسباب منها ان طبيعة مهنة التاكسي التي تجعلها في كثير من الاحيان في موقع الاحداث وهي مهنة مهمة وخطيرة في ذات الوقت. فبامكان سائق التاكسي الاطلاع علي معلومات واخبار قد لا يجد الاخرين لها سبيلا كما تمنحه مهنتة فرصة التعرف علي جغرافية المدن بصورة دقيقة بما فيها معرفة المنازل والاسر. استحضر هنا قصة حدثت لي شخصياً حيث كانت ذاهب الي منزل أحد الاصدقاء في احدي المدن السودانية واخذت تاكسياً للوصول الي المنزل فوجدت ان سائق التاكسي تعرف المنزل الذي قادني اليه مباشرة وقال لي بعدها ضاحكاً انه يعرف كل أركان المدينة ومنازلها وهي خبرة قيادة التاكسي لعشرون عاماً. في الجانب الاخر فانها مهنة خطيرة علي صاحبها ليس فقط كون انه يتحصل علي معلومات تشكل خطراً عليه لكن فبامكانه الذهاب الي مناطق غير آمنة والعمل في اوقات صعبة متأخرة في الليل او في الصباح الباكر وقد يعرضه ذلك الي مواقف منها السرقة او الاعتراض او غيره مثل الإكراه علي التستر علي جريمة ام المشاركة في تسهيل الجريمة تحت وطاة التخويف . ذكر لي سائق تاكسي انه يعاني اشد المعاناة عند الاضطرار للقيادة لشخص مخمور او تحت وطاة تناول المدمنات التي تذهب العقل.    

في الختام اود تسجيل تحياتي للعم جميل مع تمنياتي له بدوام الصحة والعافية والعمر المديد.

الأحد، 11 سبتمبر 2016

يس وخنساء - نسانا حبيبنا - غنوة في الخاطر

عسل سوداني : احب صوت واداء هذه الفتاة وشقيقها . اداء يتميز بالحضور والتطريب الهاديء.