فجع شرق السودان في بداية الشهر الجاري برحيل
الاستاذ حسين ولي اركاب ، وهو رجل ادي رسالته وواجبه في الحياة تجاه مجتمعه وبلده
وفارق الحياة وهو في اوج العطاء في وقت يتوقع منه الكل مواصلة المساهمة في حل
مشكلاتهم بالحجة والفكر . حسين خريج الجامعة السورية بدمشق التي منحته إجازة في
الادب صقلها بالقراءة والاطلاع. لقد مكنه تكامل دراسته الاكاديمية مع مهاراته
الطبيعية في التعبير باللغة العربية للوصول
لدرجة عالية من الايضاح والبيان . كنا نستمتع ونحن نستمع لمداخلاته في المجلس
التشريعي لولاية البحر الاحمر ، حيث كان يتحفنا بحديث شيق يجمع بين المعرفة
العميقة وحسن الصياغة والاسترسال السلس وهو يربط بين الموضوعات والابعاد لتشمل
الاجتماع والاقتصاد والبيئة. هو من النوع الذي يركز علي بث رسالته بلغة رصينة بعيدة
عن التحدي والمبارزة وبصوت هاديء يخلو تماما من العنف والتشنج . عندما كان يتحدث اتخيل ان قديساً من طراز
المهاتما غاندي بعث في سواحل البحر الاحمر ليلقن الناس دروساً في الاخلاق والصبر
والحكمة والتضحية من اجل الحق ويعلمهم ان الحياة هي مسرحية محدودة الوقت، وان
الارادة الالهية هي التي خلقتنا ومنحتنا الروح التي ستذهب لبارئها عند ميقات
معلوم، وبالتالي ينبغي ان نعرف كنه هذه
الحياة ولا نظلم بعضنا البعض وان نتحرر من سطوة الغرائز العدوانية والبهيمية على
تصرفاتنا واتجاهاتنا . هذه الغرائز التي تشمل الطمع والجشع والعنصرية والكراهية
والنرجسية ووهم التفوق، وكلها امراض تسببت في تعكير صفو الحياة السياسية
والاجتماعية في كثير بلدان الافارقة والعرب . حسين ينتمي الي نوع نادر من الساسة وهو النوع الذي يمارس السياسة اضطرارا
وكوسيلة لحل مشكلات الناس وليست سبيلاً للاشباع النفسي والغرور والتسلط والتكسب . نجح
حسين في مساعدة الكثير من ابناء الشرق في الحصول على مقاعد للدراسة الجامعية في
الجامعات السورية مستغلا علاقاته مع الجامعات هناك التي درس فيها، وهي صدقة جارية
تحسب له لان الكثير منهم نهل من العلم وعاد لبلاده وساهم في دعم اسرته ومجتمعه.
اذكر انه تحدث لي عن عمق حزنه لسبب قطع بعض الطلاب دراستهم هناك ورجوعهم دون
اكمالها.
اذكر انني عاتبت الاخ حسين قائلاً انني
قاريء نهم لكتاباتك الدورية في صحيفة برؤوت المحلية فقط اسمح لي ان اقول انني اجد
وضوح لروح التشاؤم في كتاباتك وطلبت منه ان يبرز التفاؤل لان الانسان ليتطور ويعمل
يحتاج لطاقة ايجابية تدفعه للانتاج والانفتاح على الحياة ؟ ولم يعترض حينها كثيراً
ووافقني على ارائي ، وهو رجل مؤدب ولكنه
رد لتعليقي كتابة في مقالة الاسبوعي موضحاً ان التشاؤم الذي يبدو في كتاباتي هو حقيقة نعيشها
في حياتنا وان دواعيه هي الاكثر، ولم ينكر اتهامي بل وصفني بالرجل المهذب في اشارة
الي عمق تأثره بتعليقي .
كنت اتساءل ما هي الاسباب التي قادت رجل في
طبيعة حسين المسالمة والمثقفة للمشاركة في تأسيس حركة للتمرد؟ وهو الاتجاه الذي لم
يستمر فيه لاسباب ليس لدي علم بتفاصيلها وعاد مبكرا للبلاد ليمارس عمله الاجتماعي
والثقافي من الداخل. هذا رغم قناعتي ان حركة تمرد البجا التي شارك في تأسيسها في
مرحلتها الاولي اتسمت بغلبة الاتجاه السلمي وعدم الجنوع لممارسة العمليات العنيفة طيله
فترة وجودها في منطقة الحدود بين السودان وارتريا حتي توقيع اتفاق سلام الشرق في
2006 الذي لم يكن هو بعيدا عن مفاوضاته وتوقيعه حيث تم اختياره ضمن كتلة نواب جبهة
الشرق ومؤتمر البجا في المجلس التشريعي لولاية البحر الاحمر.
اذكر انني زرته في بيته في زيارة خاطفة لم
تستغرق الكثير من الوقت ، واشعر الان بعميق الاسف لان لقاءنا كان مختصراً وكانت في
ذهني العديد من الاسئلة التي كنت اود ان اناقشها معه منها اسباب محاولة اتخاذه
السلاح لتحقيق الاهداف السياسية في مرحلة من حياته والاسباب التي دفعته للتراجع
مبكراً عن هذا الاتجاه ،وكذلك التهمة التي يثيرها البعض عن انتماءه لحزب البعث
العربي رغم نشاطه الظاهر في حركة البجا وتنظيمات الشرق وهل ثمة تناقض بين الاتجاه
العروبي الذي يقوم عليه فكر البعث العربي و بين الانتماء لتنظيم يدعو الي بعث
قومية افريقية. اعتقد انني كنت ساسمع محاضرة وافية عن ذلك وكنت ساتفق مع كثير من
رؤاه.
شخصياً لا اري ضرورة لابراز هذا التناقض
المحتمل بين الثقافة العربية والثقافات الافريقية في السودان لان الثقافة
السودانية خلافا لثقافات كثير من البلدان العربية هي خليط واضح بين المكونات
الثقافية العربية والافريقية حالها كحال السوادنييين انفسهم ، ولم تبرز اي قناعة
بالتناقض طوال تاريخ السودان منذ عهد عمارة دنقس وعبد الله جماع وسلاطين الفور
وملوك النوبة والبجا وغيرهم حيث تواضع السودانيون طوعا على اختيار اللغة العربية
كاداة للتخاطب فيما بينهم والاخذ من الثقافة العربية دون احساس بانها خصماً علي
موروثاتهم . اما الشرق وهو الاقليم الاكثر قربا لمهد الثقافة العربية في جزيرة
العرب لم تثر فيه قضية الهوية وتناقض الانتماء ابدا ، حتي بيان تأسيس اول حركة
مطلبية اقليمية في العام 1958 خلا من اي اشارة لموضوع الثقافة والهوية وتم فيه
التركيز علي التنمية وتحسين سبل المعيشة والحقوق السياسية الاخرى. اعتقد ان تسييس
موضوع الهوية وابراز تناقض بين الثقافة العربية والثقافات الافريقية برز وبشكل
اوضح في السياسة السودانية نتيجة خطاب الحركة الشعبية التي تبنت هذا الاتجاه غير
المطلوب ونجحت في تعبئة كثير من ابناء القوميات السودانية غير الناطقة بالعربية
لكنهم اكتشفوا عملياً انها لم تكن سوي مشروع انفصالي كان يعمل عرابوه على تقسيم
البلاد منذ اصرار قرنق علي موضوع تقرير المصير في مؤتمر اسمرا للمعارضة السودانية
في العام 1995 انتهاء بما عكسته نتيجة الاستفتاء الذي تم في ظل سيطرة الحركة من
اختيار لمسار الانفصال بنسبة تفوق ال90%
.
ارقد بسلام اخي حسين ، لقد اديت واجبك ، ندعو الله ان يتقبلك قبولاً
حسناً ويدخلك الجنة مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق