السبت، 20 مارس 2021

المعركة الأبدية بين القطط والفئران: هواجس الخوف والأطماع وصراع البقاء

      تشغل قصص صراعات الحيوان حيزاً مقدراً في تراثنا العربي والإفريقي. وتظهر هنا قصص الثنائيات المتشاكسة والمتصارعة مثل الثعلب والدجاج، والقط والفأر. هذه القصص تشكل مادة شيقة للأنس او إستخلاص الحكم وأخذ الدروس او التربية والتنشئة والتثقيف و قصص وحكاوي الأطفال. تعتبر قصص الثنائي القط والفأر من أروع القصص وأكثرها تردداً. وتنحو هذه القصص دوماً إلى تسليط الأضواء على السلوكيات التي تحكم العلاقات بين القطط والفئران ومحاولة مقارنتها بتصرفات البشر. تشير بعض هذه القصص الي أساليب القطط في الإيقاع بالفئران و إستعمال الفئران لذكائها في تفادي مكر القطط وقسوتها، كما تشير الي نواحي أخرى مثل الميل الغريزي للقطط في ممارسة الإعتداء على الفئران التي لاحول لها ولا قوة، ولا تملك من المخالب والأدوات ما يمكنها من الدفاع عن نفسها. يدخل القط معركته ضد الفار دون خوف من الخسائر علي جسده وإمكاناته نظراً لضعف الخصم وهوانه. فإن أمسك بالفار فقد تحققت له مصلحة وقتية بسد رمقه، وإن فشلت مطاردة واحدة فبإمكانه التخطيط لمطاردة أخري. قد يفشل في الإمسك بالفأر لكن بالطبع سوف لن تتمكن جماهير الفئران في التصدي لجبروت القط وعنفه وقسوته وإن اجتمعت على قلب رجل واحد. في هذه الحالة لا يوجد خيار أمام الفئران غير إستغلال الذكاء في المناورة، والإختفاء، والغش، والجرى للمحافظة على حياتها وحريتها في مواجهة هذا الخصم صاحب الأسنان والمخالب والنظرات الحادة. من النماذج المعتادة هنا قصة القط توم والفار جيري ومطارداتهما اللانهائية و ما تمثله من مشاهد ممتعة ظلت تجتذب أطفال العالم جيلاً بعد جيل، وتحافظ على تسمرهم أمام شاشات التلفزيونات وهم يتابعون الأفلام الكرتونية التي تعرض عدوانية توم وذكاء جيري ومرواغات الأخير وخططه. في السياسة والصراع، توصف المعارك غير الجادة بين الخصمين بلعبة القط والفأر في إشارة الي سلوك القط في التلاعب بالفأر دون القضاء عليه، اي إطلاق سراحه ثم ملاحقته للقبض عليه مرة أخرى، لتأكيد تفوقه وسيطرته وقدرته، وكذلك إستعمال الخصم الأضعف لأساليب إستفزاز الخصم الأقوى دون إلحاق الأذي الكبير والمؤلم به بغرض إخطاره بقدرته على الفعل والتأثير. 

  سأحاول هنا تقديم بعض نماذج القصص والتي تدور حول علاقات القط والفار والمقولات المرتبطة بها:

 لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط: الحلول غير الواقعية:

تطرح المقولة الشائعة ( لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط) في مواجهة مقترحات الحلول غير الواقعية في التصدي لعدو قوي يمتلك القدرة على إلحاق الأذي الجسيم. ترجع قصة العبارة إلي التراث الإغريقي وفحواها  أن مجموعة من القطط عقدت إجتماعاً لمناقشة مشكلتهم مع قط قاسي أحال حياتهم الي جحيم وتسبب في حرمانهم من الخروج والبحث عن أرزاقهم بعد أن قضي على حياة عدداً منهم. طرحت خلال الإجتماع عدد من المقترحات والحلول منها أهمية التعرف على الوقت الذي يخرج فيه للإصطياد لإتخاذ الإحتياطات اللازمة. إقترح أحد الشباب تعليق جرس في رقبة القط للمساعدة في التعرف على مجيئه وحركته لإتخاذ الإحتياط الواجب في الإختفاء. وجد المقترح التأييد من الحضور لكن إعترض عليه أحد شيوخ الفئران المشتهرين بالحكمة والتجربة الذي توجه بحديثه للحضور متسائلاً: لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط، فبهتوا جميعاً ولم يتجرأ أحد منهم للتطوع بالمخاطرة بحياته في مواجهة القط. 


 حج القط وتوبته: صعوبة تخلي المجرم عن سلوكه الإجرامي 

تروي القصة في إطار التأكيد على صعوبة تغيير السلوك الإجرامي لمعتاد الجريمة. القصة من التراث البجاوي وهي مترجمة من لغة البداوييت. تقول القصة:  قرر القط في لحظة من لحظات حياته التوبة عن الحرام، ووقف التعدي على الآخرين، فذهب حاجاً لبيت الله الحرام. بعد العودة السالمة من الرحلة الميمونة، توافدت الحيوانات الأخرى زرافاتاً ووحداناً إلي دار القط مقدمين له التهاني بزيارة الأراضي المقدسة مع الدعوات بقبول الحج وغفران الذنوب. إستدركت جموع الحيوانات غياب شخص مهم عن إحتفالات التهنئة وهو الفأر لا سيما وأنهم كانوا يتوقعون وجوده في مقدمة المحتفلين بتوبة القط نظراً لتضرره البالغ من أفعال القط. هنا تدخل (الأجاويد) وبعد جولات من المساعي الحميدة نجحوا في إقناع الفأر بالذهاب الي دار القط لتقديم التهاني. ذهب صاحبنا متردداً وعلى إستحياء وبعد وصوله للدار جلس بعيداً عند المدخل، وقدم تهنئته من على البعد ثم غفل راجعاً لمقره على وجه السرعة. عاد (الأجاويد) مرة أخري للسيد الفأر مستفسرين عن إنطباعاته عن الحاج التائب. بعد تفكير طويل، قال إن صاحبكم (القط) بالفعل ذهب الى بيت الله الحرام، وأعلن توبته أمام الله لكنني شخصياً لم أطمئن لنظراته، فهي ذاتها التي كنت أعرفها من قبل، لم تتغير ولم تتبدل ولم أرى أثراً للإيمان والرحمة في عينيه.

القط متهرشاً بالفأر: لا تكشح التراب في وجهي:

العبارة مأخوذة من قصة شائعة تقول أن القط والفار إتخذا قارباً في رحلة بحرية وبينما هما في وسط الماء، إستبدت بالقط الرغبة في إختلاق معركة مع الفأر فقال له بلغة صارمة وعنيفة: لماذا تكشح التراب في وجهي، فرد الفار قائلاً: إننا في قارب في البحر فأين أجد التراب حتي أكشحه في وجهك. فإنقض عليه القط متهماً أياه بقلة الأدب والتطاول والإفتراء وكثرة الكلام. تروي القصة في سياق الإشارة إلي الشخص الذي يختلق سبباً لإشعال المعارك مع طرف آخر دون توفر ظروف منطقية او موضوعية تدعو الي ذلك الإشتباك.

الفأر الذي فقد حياته نتيجة لطمعه:

تروى القصة للإشارة الي سلوك الطماعين والإنعكاسات السالبة لمحاولة التكسب أكثر من الحاجة على الإنسان. تقول القصة كان الفأر يسكن بالقرب من مخزن مليء بكل ما لذ وطاب من الأطعمة التي يشتهيها الفأر، و كان هذا المخزن يخضع لحراسة قط شرس لايسمح لاي كائنات أخري بالإقتراب والسرقة. بعد فشل المحاولات في الوصول إلي المخزن، قرر الفأر إتخاذ سبيلاً أكثر صعوبة، وذلك عبر حفر نفق أرضي. بعد جهد جهيد وقضاء الأيام والليالي في الحفر، تمكن من الوصول إلى أرضية المخزن و فتح فتحة صغيرة. أصبحت هذا الفتحة تسرب له يومياً حبات من القمح تكفي لسد رمقه وتعفيه من مصاعب البحث عن الغذاء وأصبح رزقه يأتيه كل يوم. بعد فترة من الراحة والعيش الرغد والسهل، قال الفأر لماذا لا أوسع هذه الفتحة وأدخل الي المخزن وأحصل على كمية أكبر ومتنوعة من الطعام. وعمل على توسيع الفتحة، وتمكن من الحصول على طعام أوفر لكن تسببت هذه الفتحة في فقدانه لحياته. ففي أحد جولاته التفقدية داخل المخزن، إكتشف القط وجود فتحة في أرضية المخزن فدخل عبرها ليلج الي نفق الفأر حيث وجده فقضي عليه. ( القصة مأخوذة من المصادر المفتوحة في الإنترنت مع التصرف في الصياغة).

  
 
freepik.com ملحوظة: كل الصور مأخوذة من الأنترنت

الأحد، 10 يناير 2021

النخلة العنيدة


تقف هذه النخلة وحيدة وبعناد وشموخ، علي نقطة في الساحل السوداني بمرسي تباديب (شيخ أكد)، جنوب محمدقول. تمتد جذورها في مياه البحر المالحة، تستقبل صدى أمواجه، وتتمايل بهدوء عندما تلفحها الرياح القادمة من البحر أو الجبال.  لا أعرف تاريخ ميلادها بالتحديد لكن شاهدتها شجيرة في تسعينيات القرن الماضي ثم رأيتها في العشرية الأولى للألفية، فتاة فارعة القوام بكل جمالها تنتصب  بشموخ على شاطيء البحر، تفيض بالخصوبة، و يتساقط منها رطباِ جنياً حلو المذاق لم يتأثر البتة بمرارة الظروف المحيطة بها. لقد حمتها العناية الإلهية من تعدي الجمال التي تسرح في السهل الساحلي وتغوص أحيانا بأرجلها في مياه البحر لتقتات من أشجار المانجروف الموجودة في هذه المنطقة. 
علمتني هذه النخلة عدد من الدروس. أولها إمكانية تحدي ومقاومة ظروف الطبيعة عبر الإصرار والعزيمة. لقد قاومت هذه النخلة ملوحة الأرض وملوحة البحر الأحمر وهو واحد من أكثر بحار العالم ملوحة، و لم تسمح بأن تؤثر هذه الملوحة علي حياتها او إنتاجها من البلح. الدرس الثاني هو أن  الأرزاق كلها ومنها الأعمار بيد الله وليست بيد اي مخلوق، فهو الذي يعطي وهو الذي يحمي وهو الذي يأخذ عندما يريد أن يأخذ.


الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020

الثنائي النمساوي هانس ولوتي هاس وإكتشاف البحر الأحمر: عندما يصنع الحب المعجزات

قدم عالم البحار النمساوي الدكتور هانس هاس خدمات جليلة للسودان عبر إنتاجه لأول فيلم توثيقي عن الحياة البحرية في الساحل السوداني، وذلك قبل إستقلال البلاد وتحديداً في العام 1951. حقق الفيلم المشهور (مغامرات في البحر الاحمر ) شهرة عالمية أهلته للحصول على جائزة الأوسكار في مهرجان البندقية (فينسيا) السينمائي. كان الفلم نتيجة لرحلة إستكشافية وتوثيقية قام بها الدكتور هاس بصحبة عدد من المساعدين، قضوا فيها شهوراً في منطقة البحر الاحمر حيث تمت تغطية ملامح الحياة البحرية بالإضافة الي الحياة الحضرية والمجتمعية بمدينتي بورتسودان وسواكن. تم تمويل الفيلم من قبل شركات عالمية أمريكية ونمساوية، وعرضت النسخة الأولي منه باللغة الألمانية، ومن ثم تبعته أعمال باللغة الانجليزية منها برنامج تم بثه عبر هيئة الأذاعة البريطانية عن الرحلة الإستكشافية الى البحر الاحمر.

 هناك شخصية محورية ساهمت بشكل كبير في إنجاح هذه الرحلة وفي إنتاج الفلم المذكور. هذه الشخصية هي الآنسة لوتي بايرل التي إكتسبت فيما بعد إسم زوجها هانس هاس. بدأت لوتي حياتها كعارضة أزياء وممثلة ومن ثم تحولت تماماً الى دعم زوجها في مساعيه المتعلقة بتوثيق الحياة الطبيعية البحرية،. إنضمت لوتي لمكتب السيد هانس هاس بمدينة فيينا كمساعدة في الأعمال الإدارية وذلك في العام 1947. عندما لاحت فرصة الذهاب الي السودان لتوثيق فيلم عن البحر الاحمر عرضت رغبتها في الإنضمام لفريق البعثة لكن ووجهت بإعترض السيد هانس  بحجة صعوبة المنطقة ولعدم قناعته بمشاركة النساء في الأعمال البحرية لمتاعبها ولإرتفاع درجات المخاطر فيها . لكن تنازل فيما بعد عن موقفه ذاك لا سيما بعد ضغط من قبل الجهة الممولة للعمل التي رأت في وجود شابة جميلة ضمن فريق العمل فرصة لتعزيز فرص نجاح الفلم التوثيقي وزيادة جاذبيته ومقبوليته لدى الجمهور وفي تسريع تسويقه وإنتشاره، وقد كانوا بالفعل محقين في حججهم حيث أثبتت نتيجة التجربة ذلك، فأهل الإعلام والسوق لهم تقديراتهم الأكثر تفهماً وتلمساً لإتجاهات الناس وميولهم بالمقارنة لتقديرات العلماء. إنضمت لوتي للفريق الذاهب للسودان وبدأت في الإعداد للرحلة عبر تعلم الغوص في مسابح وبحيرات مدينة فيينا. لم تخذل لوتا الشركة الممولة التي توسمت فيها انجاح الفلم و زيادة جاذبيته ، فقد استخدمت شجاعتها وذكائها ومرحها وجمالها وأنوثتها وخبرتها كعارضة أزياء وممثلة في إنجاح الفلم، ففي كثير من مشاهد التصوير تحت الماء ظهرت مبدية بعض مفاتنها الجسدية متنازلة عن لبس بدلة الغوص الكاملة التي تغطي أغلب الجسد. حقق الفلم بعد اطلاقه نجاحا منقطع النظير وبسرعة فائقة، فالكل اشاروا الي دور لوتي في نجاحه. كان عالم خمسينيات القرن الماضي  منبهراً بالفتاة الجميلة الشجاعة التي تسبح وسط الشعاب المرجانية والأسماك والتي إخترقت مجالاً ذكورياً من الدرجة الأولى. لم تحظ لوتي بنيل إعجاب الجمهور فقط، فقد إختطفت ايضاً قلب العالم دكتور هانس نفسه الذي أحبها وعرض عليها الزواج وهما في رحلة العودة من بورتسودان الي فيينا في نوفمبر 1950. بعض إطلاق الفلم، توالت عروض شركات الإنتاج السينمائي للوتي للرجوع الي عالم التمثيل لكنها رفضت وتمسكت بمواصلة المشوار مع زوجها هانس هاس في توثيق الحياة البحرية. 

 وثقت لوتي تجربتها في السودان وفي البحار والمحيطات  في كتاب بعنوان "بنت في قاع المحيط " ، كما ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في كل الأعمال التي قام بها زوجها الرائد في مجاله والذي أورث الإنسانية كماً هائلاً من الإنتاج الأدبي والتوثيقي الذي يشمل أفلام وكتب وبرامج تلفزيونية فضلا عن مساهماته في إختراع وتطوير أدوات ومعدات الغوص والتصوير تحت الماء. 

 فارقت السيدة لوتي هاس الحياة في 14 يناير 2015 بمدينة فيينا بالنمسا بعد حياة حافلة بالعطاء، وذلك بعد أكثر من عام بعد رحيل زوجها الذي غادر الفانية في 2013. لكن إسمها لازال حياً بل سيظل حياً بجوار إسم زوجها، فلاتذكر مسائل توثيق الحياة البحرية والطبيعة البحرية إلا وتقفز إلي الأذهان أسمائهما وما يذكر إرتياد النساء لعالم البحار إلا ويذكر إسم لوتا التي تعتبر بلا منازع في صدارة النساء الرائدات في الغوص والتوثيق والتصوير تحت الماء. لقد إقتحمت السيدة لوتا بشجاعة مجالاً مهنياً شاقاً وأثبتت فيه جدارتها. إلتقيت بأحد المصورين الكبار في معرض بمدينة فيينا، وأثناء النقاش معه إستسفسرته عن وجود أعمال له عن توثيق الحياة في البحار او المحيطات او غابات افريقيا وصحاريها، وأفادني بقيامه ببعض الأعمال القليلة، وبعدها وفي إطار تشجيعه للذهاب للسودان لتوثيق الحياة البحرية والصحراء والجبال والحياة البرية، أشرت لتجربة دكتور هانس هاس وما قدمه لبلادي فقال الرجل ضاحكاً: لو كانت لي حبيبة مثل لوتي لوثقت الفضاء دعك عن أعماق البحار، وضحكنا معاً مقرين بدورها في حياة هانس هاس المهنية.

ظلت رحلة السودان تشغل حيزاً إستثنائياً في وجدان الثنائي هاس، فهي التي شهدت مولد حبهما والخطوات الأولي لبناء مصيرهما المشترك. في الفلم الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية، تلفت لوتي إنتباه زوجها إلى الهدية الكبرى التي تحصلوا عليها في السودان مشيرة الى الزواج وذلك بعد أن يعدد الدكتور هاس جمال وصفاء ونقاء وتفرد بيئة البحر الأحمر. بادل المجتمع المحلي بالبحر الأحمر الثتائي النمساوي أيضاً الحب والتقدير والإهتمام. ففي كثير من مشاهد الفلم يظهر هذا الإحتفاء خصوصاً في شوارع مدينة بورتسودان او من الصيادين المحليين او الذين ساعدوا البعثة في مهمتها. لعل من أهم دلائل هذا التقدير والحب ما ذكرته لوتي عن تلقيها في يوم من أيام وجودهم ببورتسودان هدية من شخص مجهول من مدينة طوكر، كانت الهدية المغلفة بإحكام مجموعة من أسورة وسلاسل الذهب التي تلبسها النساء بمنطقة  البحر الأحمر، وقد كتب لها باللغة العربية أنه يقدم لها هذه الهدية تقديراً لها وإعجابا بشجاعتها بعد أن قرأ عنها وعن مجهوداتها في إحدى الإصدارات الصحفية. ترددت لوتي في قبول الهدية من رجل مجهول ولكن في النهاية إقتنعت بأخذها. تشير القصة إلي معاني عميقة منها الكرم السوداني، وتقدير السودانيين للمرأة، وقد قرأت من قبل في كتاب لمؤلف بريطاني يشير إلى إحترام السودانيين للنساء الغربيات المسافرات لوحدهن حيث يجدن الدعم من الكل ولا يتعرضن لاي شكل من أشكال الإعتداء او التحرش في طول البلاد وعرضها، كما تشير الحادثة الي الأدب والخلق الرفيع. و يبدو أن مقدم الهدية كان من كبار المجتمع الطوكراوي، وقدم هذه الهدية منفعلاً بمجهودات الفتاة النمساوية او قد يكون معجباً بجمالها، او قد يكون إلتقي بها ببورتسودان او سواكن ولكن لم يكن يرغب في إعلان إسمه. و هنا يمكننا القول، هكذا هي تصرفات الرجال العظام عندما يعجبون، وعندما يعشقون حيث تمنعهم كبريائهم من إعلان المشاعر، وأنهم يقدمون بلا ثمن، ويقتلون ميولهم العاطفية بالصمت النبيل، هذا في حال إفترضنا وجود ميول عاطفية وهي غير مستبعدة، فكثير من النجوم يتعرضون لحالات من الحب من قبل معجبيهم وإن كانت كلها او أكثرها حالات حب من طرف واحد.  كما تشير الحادثة إلى مستوي الوعي والحياة المدنية بمدينة طوكر على تلك الأيام، فكانت المدينة تعيش أوج إزدهارها ورفاهيتها، نتيجة إرتفاع أسعار القطن، فاهل البحر الاحمر يذكرون أن طوكر هي المدينة الأولي التي دخلها التلغراف في السودان، وهي وسيلة الإتصال المتطورة حينها، كما كانت بورصة القطن بطوكر ترتبط بالبورصات العالمية. كما يبدو من الحادثة أن المدينة كانت تستقبل الصحف و المجلات والإصدارات بشكل مستمر، والكل في البحر الاحمر يأسف على حالة التدهور التي عانت منها هذه المدينة المتميزة فيما بعد. 

 لقد ساهمت الرحلة الإستكشافية والتوثيقية للبحر الاحمر في زيادة تسويق السيد هاس كعالم بحار وكناشط في التوثيق للحياة البحرية نسبة للكم الهائل من الصور والمعلومات عن الحياة البحرية مثل الشعاب المرجانية وأسماك القرش وغيرها من الأحياء البحرية. من جانبه قدم العالم هاس الكثير للبحر الأحمر عبر التوثيق. بالإضافة الى الأفلام والبرامج التلفزيونية، قدم السيد هانس كتباً عن البحر الاحمر مثل كتابه عن أسماك المانتا ري في البحر الاحمر، وكتابه عن العودة الي البحر الاحمر بعد ثلاثين عاماً.

 هناك الكثير من المشاهد الجميلة والرائعة في فلم مغامرات في البحر الاحمر والبرنامج الخاص عنه الذي تم إعداده عبر هيئة الإذاعة البريطانية. من هذه المشاهد، تصوير قرش النمراوي حيث ينزل الفريق بسرعة من السنبوك للبحر لإلتقاط الصور من القرش النمراوي الذي ظهر قريباً من السنبوك، وهو بالمناسبة من الأنواع الكبيرة من أسماك القرش ويتصف بالقوة والجمال. وكذلك مشهد عمل الفريق لتشغيل الموسيقي في واحدة من الشعاب المرجانية للفت إنتباه الأسماك وتطريبها. ومن المشاهد الملفتة للإنتباه مشهد إنقاذ لوتي بعد أن تاهت وعلقت وسط ركام إحدي السفن الغارقة، لا أدري إن كانت أمبريا الإيطالية ام سفينة أخرى لانه لم يتم ذكر إسمها لكن ربما كانت سفينة أخرى لأن أمبريا ظلت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية محظورة على هواة وممارسي الغوص لأغراض السلامة لإحتوائها على متفجرات ومواد عسكرية. 

يأتي التساؤل الذي يفرض نفسه هنا، لماذا وصفنا عمل هذا الثنائي المتميز بالمعجزات. يرجع ذلك لعدة إعتبارات أولها، الدور الريادي للسيد هانس في مجاله وما قدمه للإنسانية من إرث في العلوم والتوثيق الطبيعي في مجال البيئة البحرية، وفي تطوير معدات الغوص والتصوير تحت الماء. وكانت لوتي التي جمعها معه إعجابها بنشاطه ثم علاقة الحب التي رسمت حياتهما معاً خير معين لزوجها. لقد حققا معاً نجاحات مقدرة طوال مدة حياتهما المهنية والعائلية المشتركة التي تجاوزت الستين عاماً. الأمر الثاني إنتماء الثنائي المذكور إلى بلد غير ساحلية، وهي النمسا التي تقع في جبال الألب، ولكنها حققا إنجازات لم يسبقهما إليها الرواد الآخرين  من المناطق الساحلية. إرتبطت حياة هانس هاس بالبحار، بعد لقائه بغواص أمريكي في الريفيرا الفرنسية وقد قاده ذلك إلى تحويل مساره الأكاديمي من القانون والحقوق الي دراسة علم الحيوان، منتقلاً من فيينا الي برلين الألمانية للدراسة. لقد منحت رحلة البحر الأحمر للثنائي النمساوي السمعة والإنتشار وهي أول رحلة تجمعهما معا وقادتهما لتوثيق الحياة البحرية في مناطق اخري من العالم مثل البحر الكاريبي والبحر المتوسط والادرياتيكي والمحيطين الهندي والهاديء. لقد إكتسبت شخصية السيد هانس وزوجته لوتي بعداً عالمياً، فكل العالم لا سيما في قطاعات الأبحاث البحرية والإعلام البيئي والسياحة البيئية يحتفي بهما، وحسناً فعلت جمعية الغواصين التاريخية بإفراد جائزة عالمية بإسم هانس هاس ، وأرجو هنا لفت إنتباه حكومة السودان والمجتمع المدني بالبحر الأحمر في النظر في إمكانية تكريم الثنائي هاس.

 في خاتمة المقال، بإمكاننا القول إن الحب لا يبني البيوت والأسر فقط ويخلق السلام بين الدول والشعوب ولكنه ايضاً يقود الي تحقيق المنجزات والمعجزات.



 https://youtu.be/PXPk2dcdLiw

https://youtu.be/osSYN-fxtGw

 

الخميس، 30 يوليو 2020

ملاحظات حول بعض سلوكيات الإحتفاء وتمجيد الرموز المجتمعية في البحر الاحمر ( إعادة تسمية المؤسسات العامة )

عند زياراتي المتقطعة لبورتسودان، أحاول تركيز انتباهي  على التغيرات والملامح الجديدة في المدينة في محاولة لتلمس التغييرات الإيجابية والسلبية على حد سواء، فالمنطق وطبيعة الاشياء تقتضي تسليط الاضواء على الجميل وغير الجميل سواء بالاحتفاء والتعبير عن الفرح او الانتقاد و التعبير عن الأسى. وكعاشق لهذه المدينة المتفردة، وكإبن من ابناءها الذين اقتضت ظروف عملهم  الابتعاد عنها ، وهو ابتعاد حسي ووقتي وعارض، أجد نفسي متابعا لصيقا لاحداثها وتطورها من علي البعد.

الملاحظة التي أثارت ذهني هذه المرة وكانت تثير اهتمامي ايضاً في المرات السابقات، التراجع في مستوي الصيانة والمتابعة لمشروعات البنية التحتية بالمدينة لاسيما الطرق الداخلية . قد يرجع ذلك للظروف المالية ومنعطف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وهي حقيقة لا تخفي علي أحد وتلقي بظلالها علي مجمل فصول الحياة، وقد يرجع ايضاً لضخامة المطلوب المقابل للصيانة والإدارة،  فالبنية التحتية للمدينة شهدت توسعاً دراماتيكياً متسارعاً خلال عشرية حكم ايلا  لولاية البحر الاحمر ( 2005-2015 ) بشكل لم يشهدها تاريخها منذ تأسيسها علي عهد القنصل كرومر والحاكم العام ونجت باشا في بدايات القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب أعباء ادارية ومالية قد لا تتوافر للسلطات المحلية بالشكل المطلوب. 

الأمر الآخر الذي يثير إنتباهي منذ فترة هو التوسع في ظاهرة إستغلال المؤسسات الخدمية في تمجيد الرموز المجتمعية. لا غرو في قيام الدول والمجتمعات بتكريم الأشخاص الذين قدموا مساهمات كبيرة وتضحيات إستثنائية لصالح البلاد وسكانها فذلك عرف إنساني تجده في كل الدول. في أمريكا تجد إسم الرئيس جون كيندي يزين إسم المطار الأشهر بالبلاد ، كما يزين إسم جورج واشنطن إحدي أهم قطع الأسطول الامريكي. في باريس يستقبلك إسم الرئيس شارل ديغول ممثلاً في إسم المطار الأكبر بالبلاد . وفي كل الدول لا سيما الاوروبية منها تطالعك تماثيل الشخصيات العامة ومنهم كبار الساسة الذين قادوا التحولات الناجحة او الأدباء الذين ساهموا في زيادة الإنتاج الفني وإثراء الوجدان تزين الساحات والشوارع. في القاهرة تقف جملة من التماثيل منها تمثال أبو الاقتصاد المصري طلعت حرب في الميدان الذي يحمل إسمه بوسط القاهرة، وهكذا نجد في وسط الاسكندرية تمثالي الزعيمين الكبيرين محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة في مصر وسعد زغلول زعيم حزب الوفد التاريخي في مركز المدينة. لكن بشكل عام تخضع هذه العملية لقدر كبير من التمحيص والدقة، بمعني أن التكريم بتخصيص مكان عام او موقع في مكان عام يجب أن لا يقدم لاي شخص قدم مساهمات، فالمساهمات التي تستحق التكريم العام يجب ان تكون غير عادية واستثنائية سواء كانت في شكل انتاج او اختراع علمي او القيام بموقف تاريخي او التضحية بالروح او الحياة او العمر او المساهمة الفعلية في حل قضية معقدة او قيادة تحول تاريخي ناجح وهكذا .

 وانا أمر بطريق الثورات إستوقفني مسمى صيدلية عامة تقع بالقرب من مستشفي الموانيء أعيد تسميتها لتحمل إسم المرحوم الدكتور سيد خليل بيومي، وهو أحد رموز الثغر المهمين، فالرجل كان مساهماً في كل شيء في البحر الاحمر، بدء من التعليم مروراً بالرياضة والفن والثقافة والصحافة والتنمية وإنتهاء بالطب والصيدلة وكان يحمل مؤهلين في كليهما، وكان الرجل قائدا ومعلما في سلوكه وفي مبادراته . لقد التقيت به طالباً في المعهد الفرنسي وكنت أشد المعجبين برجل في عمره يجلس على كرسي الطلب ضمن شباب صغار لتعلم لغة جديدة ليضيفها لقائمة اللغات التي يجيدها ومنها الانجليزية والألمانية، تأثرت برحيله كما تأثر كل ابناء البحر الاحمر. لكن التساؤل الذي دار بذهني هل تكريم رجل بهذه القامة والعطاء يكون بإعادة تسمية مبني حكومي كان اصلاً قائماً. أعتقد ان الخطوة غير موفقة. كان يمكن أن يكون الإحتفاء بتسمية ميدان او شارع او معلم محسوس بإسمه او بناء صرح جديد بإسمه ولا غرو أن يكون في المجال الصحي. كما لاحظت في ذات الشارع إعادة تسمية مدرسة محمد عبدر ربة للبنات بإضافة إسم الموانيء لإسم مؤسس المدرسة رجل البر والإحسان المرحوم محمد عبد ربه لتكون مدرسة عبدربه الموانيء الثانوية للبنات. فكرت في الأمر ، لماذا هذه الجوطة في التسميات. هل هذه الإضافة الجديدة في الإسم تعبر عن متغير جديد بمعني تقديم هيئة الموانيء الثرية دعماً مالياً لهذه المؤسسة إقتصى إضافة اسمها من قبل القائمين على أمر التعليم. هل سيستمر هذا المنوال من السلوك المجاملاتي في تسمية المؤسسات التربوية بإضافة أسماء المتبرعين الجدد على إسم المؤسسات القائمة اصلاً.

هذا الاتجاه ظل للاسف يجد التوسع غير المبرر وهو إعادة تسمية المؤسسات الخدمية الحكومية بأسماء شخصيات مجتمعية مثل المدارس والصيدليات وخلافه. ولا ادري راي أهل التربية في ذلك فيما يخص المدارس ، لا سيما لو نظرنا الي الأمر من جانب إن الأطفال الذين يدرسون في مدرسة تحمل إسم شخص محدد يتسرب لخيالهم بأن الشخص المذكور هو الذي بني هذه المدرسة فيما الأمر ليس كذلك. فمعظم هذه المؤسسات إما بنيت من الخزينة العامة وأموال دافع الضرايب السوداني او بنيت بعض أجزائها بمساهمات مجتمعية ومنها مبادرات العون الذاتي على عهد الفترة المايوية حين بنيت كثير من هذه المؤسسات عبر الحشد الشعبي وتنازل المواطنين في الأحياء الشعبية عن بعض حصص التموين لهذا الغرض او ذاك.

لا تخفي مساهمات القطاع الخاص المحلي في بناء المؤسسات الإجتماعية بالمدينة. ففي الفترة التي سبقت قيام الإنقاذ في العام 1989 لم يكن بالمدينة سوى ثلاث مدارس ثانوية للبنين ومثلها للبنات وهي مدراس بنيت على نفقة بعض القادة المجتمعيين حيث نجد أسماء مثل سعيد باورارث وسعدابي ومحمد عبد ربه والعشي والشيخ مصطفى الأمين اما مدرسة البحر الاحمر الثانوية فهي الأخرى فقد بنيت بمساهمات المجتمع المحلي وان لم تكن تحمل شخص بعينه، حسب علمي أن المساهمة الرئيسية كانت من الشيخ مسعود باني مسجد مسعود الواقع قبالة المدرسة وقد سمعت أن الأرض نفسها كانت مملوكة له ( سمعت ان ذات الشخص بني هذه المدرسة لتكون معهد للتعليم الديني الاهلي وحول غرضها فيما بعد لتكون مدرسة ثانونية وأخرى متوسطة). لعل الإستثناء هو مدرسة بورتسودان الحكومية والتي تحولت حالياً لجامعة البحر الاحمر وهي كانت في الأصل ثكنات للجيش المصري فآلت ملكيتها لقوة دفاع السودان ( نواة الجيش السوداني) التي تكرمت بتخصيصها لتكون مدرسة ثانوية لأبناء الريف حسب قناعة الفريق أحمد باشا محمد حمد أول قائد للجيش السوداني  وهو أحد ابناء البحر الاحمر وفق إفادة الراحل المقيم ابونا محمد بدري ابوهدية. كما لاحظنا في مدينة بورتسودان إعادة تسمية المدرسة الأهلية المتوسطة بإسم مدرسة البربري وسرت في المدينة تلك الأيام أن أسرة البربري طالبت بإسم المدرسة التي بنيت على نفقة الراحل رجل البر والإحسان محمد السيد البربري  لصالح التعليم الاهلي فى فترة الاستعمار البريطاني، وقبلت الاسرة مسمي المدرسة الأهلية ولكنها لن تقبل تحويل إسم ذات المبني كمقر لمدرسة أخرى وأعتقد ان لهم الحق في ذلك،  فللواقف حق في إشتراط ما يراه ( الجدير بالذكر ان عدد من المؤسسات بنيت على نفقة السيد محمد السيد البربري في مدينة بورتسودان ومنها الجامع الكبير). تجدر الإشارة إلى أن التعليم الأهلي نشأ في السودان بمبادرات مجتمعية خلال فترة العهد الإستعماري البريطاني ليعمل بموازاة مع التعليم النظامي المحدود وهكذا نشأت العديد من المدارس الاهلية في مدن السودان المختلفة ومنها بورتسودان. كما نجد في بورتسودان وبعض المدن مسمي المدارس الأميرية وان إختفت التسمية مؤخراً بتحويل أسماء هذه المدارس. وأول المدراس الأميرية هي مدرسة سواكن الأميرية التي بنيت في العهد التركي وتعتبر من اعرق المدارس في السودان، في بورتسودان حملت مدرستين هذا المسمي احداهما للبنين وتقع قبالة مدرسة البربري الثانوية والتي تستخدم حالياً كمقر اداري لوزارة التربية والتعليم، والثانية للبنات وتمت إضافتها لمباني كلية التربية لجامعة البحر الاحمر. ترتبط التسمية بالحكومة المصرية وفيها إشارة  للأسرة العلوية التي حكمت مصر واعتقد ان المقصود بالمدارس الاميرية هي المدارس الأكاديمية التي تتبني التعليم الحديث وقد ظهرت هذه المدارس في مصر في فترة محمد على الكبير وحكام اسرته.

كانت توجد بعض المدراس التي تحمل شخصيات عظيمة وكبيرة في قيمتها ومساهماتها التاريخية، فكنا نجد مدرسة عثمان دقنة المتوسطة ولا خلاف علي دور أمير دار صباح في تاريخ السودان والبحر الاحمر، او شخصيات وطنية في مقام السيد مبارك زروق أول وزير للخارجية للسودان، وهو شخصية وطنية من الطراز الأول، او مدرسة أساس بسنكات سميت باسم الشريفة مريم الميرغنية وهي ايضاً شخصية ساطعة في تاريخ الشرق والسودان ولا خلاف أنها تستحق التكريم والإحتفاء وهي بالفعل تجد التكريم من أهل الشرق الذين يتوافدون سنوياً لمدينة سنكات للإحتفاء بذكراها، وينطوى لقبها البجاوي (باقدبسيت) على قدر كبير من التقدير والإشارة لحسن الخلق وكريم الأخلاق والبذل والعطاء والترفع عن الصغائر والبشاشة في التعامل، فمعني الكلمة في السياق البجاوي يعني الإنسان الذي يجبر الخواطر ولا يتسبب في خلق موقف سلبي ضده من الآخرين المتعاملين معه. بنيت هذه المدرسة وفق إفادة الراحل محمد ابوهدية على نفقة الحكومة المصرية وبإشراف مباشر من الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو المصرية ومسؤول ملف السودان في الحكومة المصرية آنذاك حيث كان يري في الأمر تكريماً للسيدة المجتمعية ووفاءه الشخصي للمدينة التي شهدت ميلاده حيث كان والده  يعمل موظفاً ادارياً بمركز سنكات. كما توجد مدرسة بسواكن سميت بإسم النائب البرلماني محمد كرار كجر وهو من أوائل البرلمانيين من شرق السودان الذين شاركوا في برلمان الحكم الذاتي والبرلمانات اللاحقة، ولعب ادوراً كبيرة في نشر التعليم والوعي وهو صاحب فكرة مؤتمر البجا المطلبي التي إقترحها في نهاية اربعينيات القرن الماضي وفق إفادة صديقه الراحل ابو محمد منيناي. ومن التسميات التي تحتفظ بدلالات مستحقة، تسمية أحد المدارس بإسم السيد عبد الله العبيد وهو برلماني محلي ومن الرموز البارزة لمجتمع أبناء الشمال بالبحر الاحمر وليس هناك من ينكر أدوار أفراد هذه المجموعة في نشر التعليم في ربوع البحر الاحمر ومنهم معلمون ومعلمات حملوا على أكتافهم مهمة إستمرار مدارس كثيرة في أرياف البحر الاحمر وقد يكون من الواجب إطلاق مسمي مدرسة على واحد من رموزهم. الجدير بالذكر ان المدارس التي تحمل إسم مجمع السيد العبيد كانت تسمي مدارس حي الشريف الإبتدائية وأعيدت تسميتها لتحمل إسم السيد العبيد ).

هناك مدرسة ريفية عريقة تلقي عدد كبير من طلاب الريف التعليم فيها، وهي مدرسة بنيت على نفقة الدولة ولكنها في لحظة ما تغير إسمها الي إسم أحد رجال الأعمال. من المؤكد وجود مساهمات مقدرة من ذلك الرجل المشهور بالعطاء الإجتماعي  ولكن لا يبرر ذلك  نسف الإسم التاريخي للمدرسة العريقة لصالح إسم شخص مهما كان عطاؤه. هذه المدرسة هي مدرسة اربعات الشرقية الأساسية الواقعة بقرية ايشنك بدلتا اربعات.

ومن النماذج الملفتة للإنتباه والمثيرة للتساؤل إطلاق إسم الإداري السوداني الفذ الراحل حامد على شاش على صالة مناسبات داخل كورنيش ايتانينا. وهو نوع من التكريم الذي إختير في غير محله حيث كان يمكن من الأفضل إختيار اسم إحد الفنانيين والموسيقيين لتكريمه بتسمية الصالة عليه وليس بالطبع السيد شاش  بكل تاريخه وخبرته التي إمتدت من الإدارة البريطانية الي ثمانينات القرن الماضي حيث تبوأ منصب حاكم الإقليم الشرقي في الثمانينيات وقبلها حاكم جوبا ( المديرية الاستوائية) في ستينيات القرن الماضي.

هناك أسئلة تفرض نفسها وهي ما هو الأفضل من الناحية التربوية مثلاً فيما يخص المدارس. هل الأسلم في أن تحمل هذه المؤسسات العامة لا سيما مدارس الأساس أسماء الأحياء والمناطق كما كان الحال في فترة قبل الانقاذ،  ام  أسماء الشخصيات المجتمعية او التاريخية او الدينية مثل الصحابة رضوان الله عليهم وهي سنة سعودية  شهدت إستخداماً واسعاً تزامن مع إعلان الشريعة الاسلامية كأساس للنظام القانوني في ظل سني الإنقاذ الاولى ؟ في مدارس القري والأحياء أعتقد وقد اكون مخطئاً ان استخدام إسم القرية او الحي هو الأصوب بدلاً من وضع أسماء لا تستخدم إلا في الأوراق الرسمية فيما يتحاشي الناس إستخدامها.

هل يمكن تطوير سياسة او لائحة في هذا الصدد بحيث يتم تحديد معايير صارمة ودقيقة في إطلاق التسميات؟ والنظر في أن لا يتوقف التكريم على إعادة تسمية المؤسسات التربوية والإستعاضة عن ذلك بان تذهب تسميات التكريم الى الشوارع والميادين التي لا تحمل أغلبها أسماء او إطلاق التسميات على مؤسسات جديدة تبني لغرض تكريم شخص محدد او في حالة قيام هذا الشخص ببناء المؤسسة من حر ماله وهي حالة يستحق فيها أن يكتب إسمه عليها ولو بماء الذهب ولا غرو في ذلك فالصدقة في الإسلام ليست كلها سرية ومنها الصدقة العلنية ولها نصيبها من الأجر والثواب، ولكن أن تتم إعادة تسمية مؤسسة قائمة وتحمل اسماً وتاريخاً وسمعةً بإسم جديد فقط بغرض تكريم شخص محدد فهذا أمر لا يقبله المنطق وبل تتضمن تعدياً على الحقوق العامة للمواطنين.