الاثنين، 28 مايو 2018

إحتفال الذكري 160 لسلاطين باشا بفيينا: تاريخ درامي لمغامر أوروبي ساهم في توثيق وتشكيل تاريخ السودان


بدعوة كريمة من السيد باول سلاطين رئيس جمعية الصداقة النمساوية السودانية، تشرفت في منتصف مارس الماضي بالمشاركة في الحفل الذي أقيم بمناسبة الذكرى ال 160 للسيد كارل رودلف سلاطين (السيد سلاطين باشا كما هو شهرته في السودان)  في فيينا في  الحي الثالث عشر الذي شهد ولادته وطفولته ثم ضم رفاته بعد وفاته. كان الحضور كبيراً من قبل المهتمين بالتاريخ النمساوي ومن بعض أساتذة التاريخ بجامعة فيينا وكذلك من ممثلي المجتمع السوداني في النمسا. تخلل الإحتفال تقديم محاضرتين عن سيرة السيد سلاطين باشا لا سيما تجربته في السودان، وكذلك عن مفهوم الدولة الاسلامية في الماضي والحاضر تولي تقديمهما المحاضرين في جامعة فيينا السيد الدكتور روبرت فيشر والدكتورة قولدرون هار  . كما تم عرض بعض مقتنيات السيد سلاطين وهي سيفه وجبة دراويش المهدية التي كان يلبسها وكذلك البزة العسكرية  
صورة سلاطين بالزي العسكري وسيرته الشخصية
ينحدر سلاطين من أسرة ذات جذور يهودية تحول أسلافها الي المسيحية وعمل جده في بلاط الأسرة الملكية (هابسبورج ) التي حكمت الإمبراطورية النمساوية المجرية . ويبدو ان سلاطين كان عميق الإلتزام بالديانة المسيحية وقد عكس ذلك في اكثر من نقطة في كتابه المشهور الذي سنتطرق الي بعض فقراته في هذا المقال . من الامور التي تشير الي عمق عقيدته عودته للكنيسة وأداء مراسم التعميد في ايطاليا بغرض التحلل من عقيدة الاسلام الذي اعتنقها تحت ظروف قاهرة .
إرتبطت حياة سلاطين بالسودان الذي قضي فيه أجمل سنوات عمره اي شبابه . كانت رحلته الاولى لمصر و السودان في 1874 في بواكير صباه وهم لم يتجاوز بعد ال 17 ربيعاً حيث قضي عامين وصل فيهما الي وسط السودان في جنوب كردفان حيث مركز البعثة التبشيرية النمساوية، وهي بالمناسبة أول بعثة تبشيرية مسيحية اوروبية تدخل السودان وسبقت بعشرات السنوات دخول الكنائس البريطانية والامريكية التي نجحت فيما بعد في نشر المسيحية في جنوب السودان تحت رعاية الحكم الثنائي الذي كان سلاطين أحد بناته وعرابيه. الرحلة الثانية لسلاطين بدأت قي ديسمبر 1878 بعد تعيينه في الإدارة المصرية في السودان، وهي وظيفة سعى لها عبر صديقه أمين باشا ( ادوارد اشنيتسر) حاكم الاستوائية، الألماني الاصل والذي يتشارك مع سلاطين في الأصول اليهودية، وكانت هذه الرحلة هي الأطول لانه ما أن وصل السودان وإنخرط في أعمال الادارة بسنوات الا وقد قامت الثورة المهدية التي قضى اكثر من عقد من السنوات في اسرها،  وامتدت هذه الرحلة في مجملها الي ال 17 عاما وانتهت بقصة هروبه الدرامية الي مصر. اما العودة الثالثة والأخيرة للسودان بدأت مع الجيش البريطاني المصري الذي غزا السودان في 1899 وهو غزو ساهم فيه سلاطين عبر حملة التشجيع لغزو السودان التي قادها في اوروبا والقاهرة، وعمل في الادارة المدنية التي حكمت السودان وكان الساعد الايمن والمستشار الاول للحكام البريطانيين للسودان  حتي 1914 حيث إضطر لتقديم إستقالته لحساسية وضعه كمواطن نمساوي بعد إندلاع الحرب العالمية الاولي التي وقفت فيها النمسا وبريطانيا التي يعمل في إدارتها على طرفي نقيض فآثر الانسحاب من الادارة البريطانية ومغادرة السودان والعودة للنمسا ليقضي فيها بقية حياته. يمكن القول انه لولا الحرب العالمية الاولى وما فرضته من ظروف، فقد كان يمكن لسلاطين باشا الاستمرار في مواصلة حياته في السودان وقد كان من الممكن ان يكون أحد الحكام العامين الذين حكموا السودان في تلك الفترة. 
جبة الانصار التي كان يلبسها سلاطين في ام درمان
 
سيف سلاطين
 ذكر سلاطين انه عمل في فترة تعيينه الاولى كمشرف لتحسين نظام الضرائب، وقام بجولة في منطقة النيل الازرق وقد وصف سلوك الاداريين في الإدارة التركية المصرية بالفساد والظلم واعتقد انه كان مصيبا في هذه النقطة فبقراءة جذور الثورة المهدية لا يمكن وصفها سوي انها هبة شعبية ضد ممارسات ظالمة كانت تقوم بها تلك السلطة . قامت الثورة في اكثر من موقع في السودان وبشكل متزامن في وقت لم يكن مفهوم الوطنية راسخاً كما ان اواصر الراوبط بين الاقاليم السودانية لم تكن قوية كما هو الحال الا انهم كانوا متفقين في ثورتهم ضد سلطة استعمارية مركزية قاهرة . وذكر سلاطين انه كما اورد استقال عن هذه المهمة لاحقا  بعد تقريره لغردون باشا الذي كلفه بمهمة حكم دارفور وهي المهمة التي اوقعته في يد المهدية. من المؤكد ان  سلاطين تصرف بذكاء وحيلة نجح عبرها على الاقل في المحافظة على حياته حيث لم يكن امامه في ظل تمرد قبائل رئيسية في دارفور ضد حكمه تحت راية المهدية والذي تزامن مع انقطاع خطوط اتصاله بالخرطوم والقاهرة بعد سقوط الابيض في يد المهدي حيث اثر الاستسلام دون مخاطرة حيث اعلن اسلامه وتبعيته للمهدية لكن قواد المهدية لاحظوا تحركاته المشبوهة في ام درمان ومحاولته الهروب وقيدوا الخناق عليه .
 بغض النظر عن إختلاف وجهات النظر حوله، يعتبر سلاطين شخصية مهمة في تاريخ السودان المعاصر لعبت ادوراً مؤثرة في مراحل مفصلية في تاريخ السودان. كان سلاطين شاهداً على إنهيار الدولة التركية المصرية في السودان، وشاهداً على صعود وهبوط الدولة الوطنية المهدية ومساهماً رئيسياً في عملية إعادة الاستعمار البريطاني المصري بعد العام 1899 والذي استمر في خدمته حتي العام 1914. ساهم سلاطين في تشكيل هذه التحولات الدراماتيكية في تاريخنا كما يعتبر كتابه من أهم الكتاب الذي وثقت لنا تاريخ دولة المهدية عبر الاحداث التي عايشها وعبر عنها على الأقل من وجه نظره فالملاحظات الواردة في كتبه السيف والنار في السودان تعكس بعضاً من حقائق الواقع آنذاك ان لم تعكس كلها وان إنطوت على إنطباعات شخصية ومبالغة في وصف الأمور وتحامل واضح . وصف سلاطين الحالة العامة في سودان المهدية وطريقة ادارة الحكم بل حتي انه وصف الملامح الطبيعية والشكلية  لقادة المهدية بالتفصيل بحكم انهم عاشرهم ومن المؤكد ان تلك الاوصاف استخدمها الذين حاولوا رسم صور تقريبية عن شخصيات مثل المهدي والخليفة عبد الله وحمدان ابوعنجة ويعقوب جراب الرأي وغيرهم من قادة ذلك العهد .
ينتقد الكثير من السودانيين كتاب سلاطين عن السودان الذي اصدره عاكساً فيه تجربته لا سيما في النقاط التي أبرز فيها سخريته وإمتعاضه عن الحياة وسلوك الناس وهو لا يتردد في كثير من كتاباته إظهار الفرق بين الحضارة في الغرب والتخلف في مجتمعات الشرق والنظرة بصورة فيها إستعلاء تجاه حياة الناس وممارساتهم . لكن هناك بعض الإعتبارات يجب ان يقدرها  المنتقدين ومنها الظروف التي عاشها سلاطين الذي انحدر به الحال من حاكم لواحدة من اقاليم السودان الكبيرة والثرية حينها ( دارفور) الي أسير  او إنسان اكثر من عادي او شخص مشكوك في انتماءه في ظل نظام سياسي تشكل نتيجة ثورة وعنف ويواجه خصوم يحاولوا القضاء عليه، كما أن الكتاب نفسه ليس بحث اكاديمي يخضع لقواعد ونظم البحوث العلمية فهو مذكرات شخصية لشخص عرض فيه تجربة حياته ولا ننسي ان سلاطين نفسه ذهب للسودان بطوع نفسه كشاب مغامر ضعيف الخبرة المهنية والمعرفة العلمية  ، فحتي دارسته الاكاديمية في مدرسة التجارة بفيينا لم يكملها كما تقول المصادر  ، كما انه لم يكن عسكريا تلقي التدريب المطلوب في القتال والعلوم العسكرية،  فحتي مشاركته في حرب البوسنة لإلحاقها بالامبراطورية النمساوية المجرية في العام 1877 لم تكن الا في اطار مهمته لاداء الخدمة العسكرية وبالتالي يمكن القول انه لم يكن جنديا محترفا في القتال او صاحب درجة قيادية في العلوم العسكرية . من الملاحظات التي توضح تحامله والمبالغة في وصف الامور القصة التي اوردها بشان النسوة اللائي شاهدن في ام درمان وهن ياكلن جحش صغير حديت الولادة مباشرة دون حتي طبخه في اطار وصفه لحالة المجاعة ولا يمكن تصور هذا المشهد بالصورة التي كتبها سلاطين . من الممكن بالطبع اكل لحم الجحش لكن بعد الطهي .
طبعت النسخة الاصلية  من كتاب سلاطين باللغة الالمانية ثم ترجمت الي اللغات الاخري مثل الانجليزية والعربية ، وحقق الكتاب نسبة مبيعات عالية في بداية القرن العشرين في اوروبا ، كما نجح في تعبئة الراي العام البريطاني ضد الدولة المهدية في السودان مما دفع البريطانيين في التفكير الجاد في إستعمار السودان  وقد انخرط سلاطين بعد نجاته من اسر المهدية في حملات مستمرة لاقناع بريطانيا والراي العام الاوروبي باعادة استعمار السودان وانهاء حكم الخليفة وقد نجح في ذلك بل ذهب مشاركا في حملة فتح السودان بقيادة كتشنر باشا وقاد بحكم معرفته للغة العربية والمجتمع السوداني مفاوضات مع زعماء القبائل المحلية لقبول الحكم الجديد وعدم الاعتراض عليه . 
النسخة الالمانية لكتاب السيف والنار في السودان التي ترجمت منها النسخات المطبوعة باللغات الاخرى
من الملاحظات التي يمكن استخلاصها من بين سطور كتابات سلاطين هو انه لا يفرق كثيراً بين السودانيين حيث يتعامل معهم ككل واحد ولم يكلف نفسه للبحث كثيرا عن اصول القبائل ومناطقتها ونفوذها بالطريقة التي تضمنتها كتب الاداريين البريطانيين الذين كتبوا فيما بعد . كما أبرز لنا الكتاب المزاجية الصعبة للخليفة عبد الله التعايشي الذي حكم السودان في تلك الفترة وهي مزاجية تجمع بين الذكاء والإصرار والشك والقسوة تجاه الخصوم  ، وهي صفات قد ساهم سلاطين في ترسيخها لدي المثقفين السودانيين الا انها سائدة ايضا الي حد ما في التاريخ الشفاهي والانطباع العامة. عبد الله التعايشي هو القائد الفعلي للدولة المهدية ويعتقد البعض بانه هو الذي أدخل فكرة المهدية في عقل محمد احمد المهدي نفسه كما انه هو الذي تبني مهمة حشد وتعبئة القبائل لاسيما في غرب السودان لدعم المهدية وتبني افكارها . وكانت العلاقة بين الخليفة وسلاطين قائمة على الحذر والشكوك ، كان سلاطين يخشي من عنف الخليفة فيما لا يطمئن الخليفة من جانب سلاطين الذي كان يلقبه بشويطين . ربما كان الخليفة محقاً في شكوكه حول الرجل ، فقد أثبتت التجربة انه كان بالفعل انساناً خطيراً حاول استغلال كل شيء للمحافظة على حياته ومنها طريقته في إعتناق الاسلام وقبول حكم المهدية وبل ملازمة الخليفة والمسجد اكثر من عشرة اعوام ومن ثم الهروب بطريقة اكثر درامية والعودة في كنف جيش غازي ساهم في تشكيله  للانتقام من خصومه الذين صبر عليهم لسنوات.
ابدى سلاطين اعجابه ببعض الشخصيات السودانية التي عاصرها او التقي بها ومنها بالطبع الأخوين ابوكدوك الذين صاحباه في دارفور وام درمان ، وكذلك الشابين من قبيلة الكبابيش الذي نجحا في تهريبه من ام درمان .  الشخصية الاخرى والاكثر اهمية له كانت حامد جرهوش وهو الشخص الذي تكفل بترحيله من نواحي بربر الي اسوان ، وهو كما يوضح ينتمي لعرب العامراب وهم احدي فروع قبيلة البشاريين ( احدي كبريات قبائل البجا ) وقد وصفه سلاطين بانه من أقوي الاشخاص شكيمة من الذين التقي بهم في السودان ونقل الحوار الذي دار بينهما وكان لغة التفاوض البراغماتي واضحة بينهما حيث ذكر له جرهوش لسلاطين منذ البداية انه يقوم بالمهمة من اجل مصلحته ووعده سلاطين بالمبلغ المحدد ووافق جرهوش مشيراً الي ثقته في وعد الرجل الابيض ( الاوروبي ) الذي لا يكذب وهو انطباع موجود لدي غالبية السودانيين عن الاوروبييين .
عملية هروب سلاطين قصة طويلة ومتسلسلة ساهم فيها عدد كبير من السودانيين لا سيما تجار وزعماء قبائل وتحديدا من قبائل الجعليين والانقرياب والعبابدة والكبابيش الذين كانوا من المناوئين لحكم الخليفة حيث نجح هؤلاء في خلق حلقة الوصل بين سلاطين والقنصل النمساوي بالقاهرة واسرة سلاطين بفيينا عبر نقل المراسلات ودفع الاموال للعمال والرجال الذين نفذوا بالشكل الميداني عملية التهريب من ام درمان الي مصر . كان ونجت باشا حاكم سواكن ورئيس  المخابرات البريطانية دورً كبيراً في ذلك ( إمتدت الصداقة بين سلاطين وونجت فيما بعد حين صار ونجت باشا حاكما ً عاماً للسودان خلال الفترة 1899 – 1916 وعمل سلاطين بمثابة المساعد الاول له ) . وكما تشير سطور الكتاب رغم انه لم يقل ذلك صراحة ان سلاطين آثر عدم الاستمرار في الزواج في السودان فحتي زوجاته تخلص منهن بسرعة ومن المؤكد انه كان يخطط للهروب كما انه كان يتعامل مع اشخاص يخاف عليهم من إفتضاح أمرهم وبالتالي كان يفضل حياة العزوبية حيث استغني عن أول زوجة قدمها له الخليفة ثم إستغني عن الزوجة الاخري المسماة فاطمة البيضاء نسبة لكثرة الزوار الذين يترددون عليها من اهلها .ولم يثبت ان سلاطين خلف ذرية في السودان رغم زواجه والفترة الطويلة التي قضاها هناك ولم يشير لاسرته ان ابناء له بالسودان كما جاء على لسان حفيده باول سلاطين  فذريته الان تتكون من ابناء ابنته الوحيدة التي ولدت بعد عودة سلاطين الي النمسا وزواجه هناك.
ستظل قصة سلاطين احدى أهم قصص تاريخنا الوطني المعاصر وهي بالفعل تصلح مجالاً للبحث والدراسة كما يمكن ان تشكل رصيداً لعمل درامي من وجهة النظر السودانية بدلاً من وجهات النظر الاخرى التي تتعامل مع القصة بخلفيات مختلفة . هناك الكثير من الدروس المستفادة من القصة منها النتيجة التي قد يحققها الإصرار على تحقيق الهدف والصبر على المكاره كما انها تشير الي أهمية الحرص والذكاء الاجتماعي في حفظ العلاقات وتطويرها وإتقاء شرور الاخرين لا سيما الاقوياء منهم وانت في لحظات ضعف .
البزة العسكرية لسلاطين باشا

ميدالية الصليب الاحمر المقدمة لسلاطين تقديرا لعمله ضمن انشطة الصليب الاحمر في النمسا بعد عودته النهائية من السودان

السبت، 17 مارس 2018

قصة تربوية من التراث البجاوي تدعو الي إعلاء قيمة العمل والاسرة:


قيل ان رجلاً يسير في الخلاء ممتطياً جمله فيما كان واضعاً الأحمال التي يحملها معه على جانب واحد من الجمل وهي بالطبع وضعية غير طبيعية تسبب ضغطا على الجمل  وتصعب عليه الحركة ، فلقيه رجل في الطريق وقال له : يااخي أن الطريقة التي تضع بها الأحمال على الجمل غير صحيحة وغير مريحة وعرض عليه المساعدة وقبلها راكب الجمل ، وقام الرجل بتقسيم الأحمال بشكل متساوي الي قسمين ووزعها الي جانبي الجمل بحيث يكون الحمل سهلا لحركة الجمل وقال له بإمكانك مواصلة الرحلة بطريقة أفضل . حينها سأله راكب الجمل وهم يهم بمواصله سيرة عن نوع البهائم التي يمتلكها او يرعاها ، اي مهنته وعمله وأفاده عن عدم امتلاكه للبهائم وعن افتقاده لاي مهنة يجد منها الدخل ، ثم سأله ان كان متزوجا او له أسرة فأجابه ان لا نصيب له في الزواج والبنين حينها شكره وقام بإعادة  الاحمال الي ذات وضعيتها السابقة وغير المريحة لحركة الجمل وواصل رحلته . المغزي من القصة هو الجانب التربوي الذي يدعو الي إعلاء قيمة العمل والأسرة  ووجوب إلتزام النهج الصحيح في الحياة عبر الإنتاج والإستقرار الاسري في من يتصدون لمهمة تقديم النصائح للآخرين . أتذكر هذه القصة دوماً عند رؤيتي من يتفرغون لتقديم النصائح وعرض المواقف والانخراط في قضايا عامة فيما هم لا يقدمون هذه المطلوبات لأنفسهم . في هذه الحياة القصيرة جدا لا سيما في عمرها الإنتاجي  الذي يتسم بالقصر يجب لاي شخص منا أن يساهم بحل القضايا الكبيرة عبر حل قضاياه الشخصية بمعني ان يبذل نهجاً عملياً عبر إتخاذ مهنة او مصدر للدخل وان يسعي الي رفع قدراته التعليمية والمهنية عبر الإنخراط في الدراسة والتدريب ، كما لا ينبغي عليه نسيان حاجاته الطبيعية في الحب والاستقرار النفسي و المحافظة على نوعه عبر الزواج وتكوين أسرة. وليس المقصود هنا ان يظل الانسان انانياً ومنكفئا لكن حل القضايا الكبيرة لا يتم  الا في حل القضايا الصغيرة ، بمعني لو تحول اي شخص للانتاج والتقيد بالنهج الصحيحة في الحياة، يمكن ان تجد القضايا الكبيرة الطريق الي حلها بصورة تلقائية وأكثر سهولة.  

الخميس، 25 يناير 2018

في تخوم إمبراطورية تيتو: سلوفينيا بين عبقرية الجغرافية والحضارة



سلوفينيا دولة اوروبية صغيرة تقع في موقع ذكي منحها قيمة إضافية ، كما جلب لها الكثير من الأعباء طوال تاريخها مثلما هو الحال في كل البلدان التي تتمتع بمزايا الجغرافيا. يمكن إعتبار سلوفينيا دولة متوسطية بحكم إطلالتها الصغيرة على البحر الادرياتيكي المتصل بالمتوسط ، كما يمكن إعتبارها دولة من شرق اوروبا وإقليم البلقان وهكذا دولة من وسط اوروبا وغربها ودولة من جمهوريات الألب ، فهي منطقة للتداخل الثقافي بين تيارات الثقافات الألمانية والإيطالية والسلافية. عاشت سلوفينيا جزء من تاريخها وهي تتبع للإمبراطورية النمساوية المجرية قبل إنهيار الاخيرة بعد الحرب الكونية الاولي في العام 1918 ، كما اصبحت جزءاً من يوغسلافيا الذي قامت على الاقليم البلقاني من الامبراطورية المنهارة ، وهو كيان سياسي إرتبط معظم تاريخه بشخصية قيادية فذة نجحت في المحافظة عليه وإستمراره وبدأ هذا الكيان في الإنهيار بمجرد وفاة الأب المؤسس في ظاهرة غريبة في تكوين الدول وانهيارها وقد إكتمل هذا الإنهيار بالتزامن مع إنهيار الكتلة الشرقية في بدايات العقد الاخير من القرن العشرين. هذا الشخص هو جوزيف بروز تيتو وهو بالتأكيد شخص غير عادي ظهر في فترات تحول تاريخي وساهم بشكل فعلي في صناعة الإحداث وقيادتها . بدأ حياته جندياً في جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية ثم هاجر للإتحاد السوفيتي وإعتنق بعض أفكاره وليس كلها وعاد قائداً شعبياً قاد حرب التحرير ضد الوجود الألماني وتمكن من تأسيس الإتحاد اليوغسلافي الذي إستمر على قيادته حتي وفاته في بداية ثمانينيات القرن العشرين . نجح تيتو في تجميع عدد من القوميات في كيان واحد كما تمكن من صنع سياسية متوازنة في عالم فترة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي ، فهو من أهم رموز حركة عدم الانحياز . ونجح في تأسيس دولة تجمع بين ملامح الشرق والغرب في أوج فترات الصراع حيث أخذت يوغسلافيا ببعض إقتصاد السوق وبعض من نفوذ الدولة على التجارة والسوق ، كما إعترفت بنقاط التقاطع بين الشعوب ومنحتها قدر من الإستقلال الذاتي في إطار كيان إتحادي صارم .  ربما كان ذلك سبباً في تسهيل تقاسم الورثة ، فذهب كل بما تحت يديه .
تعتبر مدينة ليوبيليانا مركز الدولة السلوفينية وعاصمتها السياسية والإدارية ، وهي مدينة صغيرة حالها كدولة سلوفينيا ولكنها منظمة بالشكل المطلوب والسليم . قلعة ليوبيلينا تستقبلك بطلتها الملفتة للعيان وانت داخل للمدينة وهي صورة تتكرر في أغلب المدن الاوروبية حيث كانت هذه القلاع بمثابة مراكز للحكم وقيادة للجيوش فأغلبها مبنية فوق رؤوس جبال تمنحها موقعاً مركزياً ومتحكما في المدن وقد اصبحت في عصرنا الحاضر مواقع سياحية تستقطب السياح وتدر الدخل كما تمثل مكاناً لإستشراف التاريخ والتعلم من الماضي . وقد زرت عدد من هذا القلاع في المدن الاوروبية التي تشرفت بزيارتها مثل سالزبورج وغراتس.
يلاحظ السائر في شوارع ليبوبليانا بعض من الحيوية والحراك الذي يقوده الشباب المقبل على الحياه في شكل حفلات موسيقية في الشارع او تجمعات شبابية وقد لاحظت ذلك اثناء مروري بمواقع المدينة مثل ساحة الجمهورية او على ضفاف نهر ليبوبيانكا الذي يشق المدينة في مسار ضيق ولكن يعج بالحياة من كل نوع حيث تنتشر المقاهي والمطاعم . 
صورة لقلعة ليوبيليانا من ادني

مدينة ليوبيليانا من قمة القلة

 
جانب من نهر ليوبيليانكا الذي يشق المدينة

شجرة الميلاد بكامل زينتها في في وسط المدينة على ضفاف نهر ليوبيليانكا إحتفالاً ببدء العام 2018

ليبويليانا مدينة خضراء تشغل المساحات الخضراء حيزا معتبرا من مساحتها وقد أهلها ذلك للفوز بالجائزة الاوربية للمدن الخضراء في العام 2016 وتلاحظ الحجم الذي تشغله بعض الحدائق العامة المفتوحة مثل حديقة  تيفولي بارك التي تشغل حيزاً واسعا من مساحة المدينة وهكذا حديقة كروجنسكي.
للحب نصيب من التقدير في المعمار السلوفيني ، فعلي ضفاف نهر ليوبيلينكا خصص جسر صغير لمرور المشاة تحت مسمي جسر العشاق ( Butchers’ Bridge –Mosarki most ) في  تقليد اشبه الي حد ما بجسور العشاق في مدن اوروبية اخري مثل باريس او سالزبورج وغراتس وغيرها لكن في الجسر السلوفيني يطالعك عند المدخل تمثال لادم وحواء ، ربما قصد به تجسيد لمفهوم الحب الانساني وقيمته كرابط بين الذكر والانثي ، كما تجد الاقفال المعلقة موضوعة بشكل منتظم علي اعمدة الجسر ومكتوب عليها اسماء العشاق من الذكور والاناث وقد اعلنوا هنا ربطاهم الابدي والقوا المفاتيح في قاع النهر حتي لا يفتح هذا القفل مرة اخرى. ومن الجسور المهمة في المدينة جسر التنين والذي يقع بالقرن من جسر العشاق ، كما يمكن الانعطاف على سوق الفاكهة والخضر ، بالقرب من الجسر، حيث يتباري المزارعين في عرض بضاعتهم الطازجة والقادمة من المزارع مباشرة.
جانب من جسر العشاق

تمثال التنين في مدخل الجسر المسمي باسمه

اسواق المزارعين تقليد اوروبي جميل

تلاحظ إهتمام سلوفينيا بالفن والموسيقي والاداب في أكثر من ملمح ومنه العدد الملفت للمؤسسات التي تهتم بذلك في مركز مدينة ليبوبيليانا مثل دار الاوبرا السلوفينية والمرسم القومي والمركز الموسيقي فضلا عن العدد المقدر من المتاحف مثل المتحف الوطني ومتحف التاريخ الطبيعي . كما تجد هذا الاهتمام في التوثيق لرموز الابداع الثقافي في صور أخرى ، ففي منطقة مهمة في وسط المدينة علي ضفاف نهر ليوبيلانكا غير بعيد من مبني البلدية والقلعة التاريخية وأمام واحدة من أهم الكنائس التاريخية يقف تمثال كبير لاحد الشعراء السلوفينيين وهو بيرزنا (Perseren ) وتجد العشرات من الرجال والنساء المحيطين بالتمثال بغرض التقاط الصور التذكارية . وتسمى الساحة التي يقف فيها التمثال باسبومنيك فرانسيتا ( Spomenk Franceta) وهو اسم الكنيسة المواجهة للساحة. 
تمثال الشاعر السلوفيني بريزيرن

المتحف الوطني السلوفيني
 
المبنى الرئيس لجامعة ليوبيليانا

ساحة باسبومنيك فرانسيتا


عند زيارتي لاي عاصمة، أحرص عل زيارة البرلمان الوطني لما يمثله من قيمة ، ففي معظم الدول تجد البرلمانات حظها من التميز العمراني فضلاً عن قيمتها المعنوية كرمز لشرعية الحكم وسلطة  الشعب . ذهبت لإلتقاط صور من مبني البرلمان وهو مبني لا يخلو من بساطة ولكن جميل وأخاذ وتقع أمامه ساحة الجمهورية ( Trag Republike ) وهي الساحة التي شهدت إعلان ميلاد الجمهورية السلوفينية المستقلة في العام 1991 مما أعطي المنطقة التي تحتضن البرلمان زخماً إضافيا على قيمة البرلمان نفسه .     
مبنى البرلمان السلوفيني

ساحة الجمهورية بليوبيليانا

مبني بلدية ليوبيليانا

ساحة ليوبيليانا في وسط المدينة وتظهر القلعة في الخلف