الجمعة، 20 نوفمبر 2015
الإستعارات في لغة تبداوي
الأربعاء، 2 سبتمبر 2015
السلام والحرب في ثقافة البجا: قراءة في مدلولات العبارات والسلوك
يوصف الإنسان البجاوي بالمقاتل والشجاع، وهو انطباع
راسخ نجده في الكتب التي كتبت عنهم، وكذلك في الأشعار التي تمجد المقاتل البجاوي
وأشهرها قصيدة الشاعر البريطاني المشهور روديارد كبلنج التي كتبها بعد معارك
الساحل بين ثوار المهدية وتحالف الجيشين البريطاني والمصري في نهايات القرن التاسع
عشر. كما يرجع ذلك الى بعض الأحداث التي نقلها لنا التاريخ ومنها الأبعد اي الموغل
في القدم مثل ما أحتوته بعض كتب التاريخ المصري عن هجمات قبائل البجا علي حواضر
أعالي مصر، وكذلك ما ذكره التاريخ عن دورهم في إنهيار مملكة أكسوم الحبشية.
من النادر أن تجد البجاوي يسير بدون سلاح. هناك أنواع
من السلاح الأبيض المستخدمة في حياته ومنها السيوف بانواعها، والسكاكين بانواعها
والشوتال والعصي والسفروق والدرقة. هذه الأسلحة تحمل احياناً لأغراض زينة الرجال. حمل
البجاوي للسلاح الابيض في حله وترحاله لا يعني بالضرورة الرغبة في المنازلة، فهو غير ميال الى دخول المعارك دون الإستعداد
لها. الأمر أشبه إن جازت المقارنة بنظرية توازن القوى التي تصنع السلام التي تعمل
بها بعض الدول، وهي نظرية واقعية وعملية في ذات الوقت، فإدراك خصمك لحجم قدراتك
العسكرية تجعله يتجنب الإعتداء خوفاً من خسائره المحتملة الأمر الذي يقود الي
إستدامة السلام، وهكذا وجود السلاح معك يصبح عاملاً للحماية من الاعتداءات
المحتملة.
من الملاحظ إن كلمة الحرب لا مقابل لها في لغة
البداوييت حيث تستعمل في معناها كلمة (ماق ) وترجمتها الحرفية
(الشيء السيء). فالكلمة تحمل مدلولاً واضحاً لتقبيح الحرب، وهي تستحق ذلك فهي، كما
قيل عنها، لا تخلف إلا الخراب، والدمار، وفراق الأحبة. اما الكلمة المقابلة للشجار
العادي فهي كلمة ( فناب) فهي تحريف
للكلمة العربية ( فناء) وأدخلت الى لغة البداوييت لتستخدم في معني قريب من
معناها فربط الشجار العادي بكلمة الفناء يتضمن ايضاً تقبيحاً واضحاً لمآلات الشجار
الذي يتسبب في الفناء اي الإنتهاء والانقراض.
هناك الكثير من العبارات المستخدمة في سياق الحوارات عند
البجا في مواجهة القتال، منها ( اوفنا تنصراتو هباهون وتوميقريبتو= اللهم
تجعلني منتصراً ولا منهزماً في القتال). عندما يصر بعض الشباب على القتال
، يثنيهم الكبار دائماً بعبارة ( توماقناي هريوي دوركا مريا = بمعنى إنك
ستجد الطريق للقتال في الوقت الذي تريده فلا تتسرع اليه ) والعبارة تتضمن
إشارات الى تغليب الحلول السلمية للمشاكل بدلاً من اللجوء للعنف.
على الرغم من تقبل المجتمع البجاوي سلوك بعض الشباب في
النزوع الى الشجار إلا إنه لا يتقبل البته أن يتم ذلك من الرجال الكبار في السن
حيث يعتبر ذلك إحدى نقاط الملامة الاجتماعية لهم التي تؤدي الى تناقص هيبتهم
ووزنهم في المجتمع، فالرجل الكبير في السن وفقاً للعرف البجاوي يتنازل عن حمل
السلاح الواضح مثل السيف والعصي الغليظة ويكتفي بعصى نحيفة معقوقة الرأس، كما
يتحاشى ذكر المعارك والمفاخرة بالقتال في
كلامه.
هناك رواية شعبية تروى في السياق المحلي، تقول أن أحد
الاداريين البريطانيين سأل مجموعة من زعماء القبائل المحلية في البحر الاحمر عن أفضل
شيء في الحياة، وقاموا بتعداد الأشياء الجميلة إبتداءً بالمطر مروراً بالماء، والأبناء،
والأبل، والمال، والعافية وغيرها وفى النهاية إتفقوا على سماع رأى واحد منهم إشتهر
بالحكمة والرأي السديد، فقال إن أفضل شيء في الدنيا هو السلام ( مأسيق)
وإتفقوا كلهم على هذا الرأي، بإعتبار إن المال والمطر و العافية وغيرها لا يمكن
الإستفادة منها في ظل غياب الأمن وإنعدام السلام.
علي الرغم بأن الشخص المقاتل يعتبر أهم شخصيات المجتمع
البجاوي، ويحظى بالإحترام في مجموعته ويعد أحد عناصر الفخر القبلي، إلا أن البجا
يتشائمون من ذكر أسماء هؤلاء الأشخاص في الصباح بحجة أن ذلك يجلب الحظ السيء في
بقية اليوم.
علي مستوي القيادة المجتمعية، يتحاشي البجا عمداً
إسناد القيادة للشخص الذي يتصف بشجاعة القتال بإعتبار إنه يفتقد لصفة التحمل، وأنه
يقود المجموعة الى المعارك. فملاحظة بسيطة في أغلب بيوت الزعامات القبلية تجد أنهم
على الأقل يعترف لهم إخوانهم من المجموعات الأخرى بأنهم يتصفون بصفتين أساسيتين،
الصفة الأولى هي صفة التحمل ( اوترموم) اما الصفة الثانية فهي الإنسانية
والمسؤولية ( دوايت أريت بكسر الدال
) وهي ليست (دورأريت بضم الدال) التي تعني نصرة الأقرباء.
الملاحظ أن صفة القتال والنزوع للعراك غير محبذة في الزعامة حسب المفهوم الثقافي
البجاوي. كما نلاحظ إن إسناد الزعامة القبلية لا يشترط الغلبة العددية او المقدرات
المالية، أحياناً تجد القيادة في مجموعة صغيرة او في مجموعة غير راسخة الإنتماء
للقبيلة حيث تجدهم في بعض الحالات ينتمون للقبيلة الأم سواء بالإندماج او علاقة الإنتماء
بالأم. في داخل القبيلة الواحدة تجد تصنيفاً عرفياً يوزع مجموعاتها الى أهل القيادة وأهل القتال.
عبارات السلام البجاوي تحتفظ بمدلولات عميقة الإشارة
الى السلام والأمن. كلمة (دبايوا) وترجمتها أرجو أن تكون محفوظاً
بمعني إنك في إطار من الحماية، عند الوداع تستخدم كلمة لاب نايا اي نم في
سلام وعبارة أخرى تستخدم في الرد
وهي كلمة )
اسقاب(
وتعني استودعتكم الأمان .
لقد تحدثنا عن جوانب متعلقة بالإنطباع والحالة الذهنية
عن البجا التي تربطهم بالعنف والقسوة والقتال، وعن السلوك الفعلي للإنسان البجاوي
في التعامل مع قضايا السلام والحرب وفق المدلولات الشائعة في العبارات المتداولة و
السلوك اليومي، والذي لا يتسق كثيراً مع هذا التصنيف. بالطبع لا يمكن وصف المجتمع
البجاوي بالمسالم بالمعني المطلق للكلمة، لكن يمكن القول بأن إستمرار الحروب
والتأثر بها، وتجرع مراراتها ساهم في تطوير ثقافة وآليات مجتمعية في التعامل مع
النزاعات ومعالجتها وتفادي وقوعها او إستمرارها في حال وقوعها. وتتمثل هذه الأسس
والقيود والأدوات في القانون العرفي البجاوي ( السلف). فالحروب بغض النظر عن
بشاعتها والمرارت المرتبطه بها، تظل سلوكاً بشرياً يتم اللجوء إليه لمحاولة حسم
القضايا والخلافات. في العلاقات الدولية تعتبر الحرب بمثابة إعلان لفشل
الدبلوماسية والأساليب والأدوات السلمية في التعامل مع الخلافات، وهكذا الأمر في
العلاقات بين الأشخاص والمجموعات، فعند الفشل في التعامل مع النزاعات بالأدوات
المدنية مثل التقاضي والشكاوي يلجأون الى الخصام والعراك والشجار كمحاولة لحسم
المسألة محل الخلاف. لكن تظل الحرب وهكذا مثيلاتها من أشكال الشجار والعراك مسارات
صعبة عالية التكلفة قلما تساهم في حل المشكلة بقدر ماتؤدي لخلق أزمات أخرى. لقد
حملت الواقعية في التعامل مع الحروب، البشرية لتطوير قوانينها الخاصة بالحروب
والنزاعات وآثارها ومن هنا نشأت مفاهيم فض النزاعات و معاهدات جنيف للقانون الدولي
الإنساني.
سنحاول إبراز المظاهر السلوكية التي تعلي من قيمة
السلام في ثقافة البجا والأعراف التي تنظم أدوات القتال وأدوات التحكيم العرفي
المتصلة بالقتال، والجوانب القيمية والأخلاقية ذات الصلة بالنزاعات.
اولاً: الدقة والحرص في التعامل مع أدوات إعلان
القتال:
تشمل أدوات إعلان الحرب (القبلية) عند البجا المعزوفات
القتالية والنقارة ( آلة دف تضرب لاعلان الحرب في الاعراف السودانية). فالمعزوفات
المذكورة هي مقطوعات تعزف على الربابة،
ولكل مجموعة قبلية مقطوعة قتالية محددة، وتخضع هذه المعزوفات لقدر كبير من
القيود التي تشمل الآتي:
1- ينحصر عزف المقطوعة المحددة فقط لأفراد القبيلة
مالكة المقطوعة، ولا يسمح لأفراد القبائل الأخرى عزفها باي حال من الأحوال سواء
كان لقصد الإستنفار او حتي المتعة الشخصية. ففي حال حدوث مشاجرة جراء ذلك يتحمل
الشخص (العازف) مسؤوليته أمام مجالس العرف القبلي بالإعتراف بالخطأ وفي هذه الحالة
لا تدافع قبيلته عنه بإعتباره متعدياً على الحقوق الأدبية لقبيلة أخرى.
2- لايجوز عزفها إلا في حالات الإستنفار والغضب
الكبير مثل الإعتداء على أراضى القبيلة او نهب الإبل من قبيلة أخرى. على الرغم من أن العقود الأخيرة شهدت تساهلاً
من قبل بعض زعماء القبائل في السماح بعزف هذه المقطوعات في المناسبات العامة إلا
ان ذلك دائماً ما يواجه بإمتعاض شديد من قبل كبار السن والشيوخ بإعتباره تجاوزاً
للأعراف، وتعدياً على حرمة هذه المقطوعات، وتحويراً لمهمتها، وإستخدامها في غير
مكانها.
أما النقارة، فهي الأخرى تخضع لقيود شديدة بل أكثر
صرامة من المعزوفات القتالية والتي تشمل:
1- لا يتم الضرب على نقارة القبيلة إلا في
الحالات الإستثنائية وهي حالات الخطر الشديد والإستنفار. ففي حالات السلام تدفن
النقارة في الأرض او تحفظ في مكان معزول. يلاحظ البعض إستسهال بعض المجموعات في
السودان للنقارة والمباهاة بها في الإحتفالات السياسية واستقبال الضيوف لكن يمكن
القول أن الغالبية العظمي من قبائل البجا تتحاشي ذلك وتلتزم بالقيود المتعلقة بضرب النقارة لدرجة أن أجيال
من افراد هذه القبائل لم ترى النقارة الخاصة بقبائلهم لحرص القيادات القبلية على إخفائها
وحفظها ودفنها في بعض الحالات.
2- لا يسمح حتي لأفراد القبيلة بالضرب على
النقارة وينحصر إستخدامها فقط على بيت الزعامة القبلية او النظارة بإعتبار أنها
المخولة بإعلان الحرب القبلية.
3- في حال هناك حاجة لإخراج النقارة لأغراض
مثل الصيانة، فإن ذلك يقتضي الفدية حيث يتطوع بعض الشباب بجرح أنفسهم لإخراج دم
ورشه على سطح النقارة قبل إخفائها مرة أخرى، وفي ذلك مدخل لإضفاء هيبة وقدسية في
التعامل مع هذه الأداة.
ثانياً: تحاشي الفخر القتالي:
لا تخلو أشعار البجا من الفخر إلا أن الأمر يخضع لقيود
لا سيما في الفخر المرتبط بالمعارك والشجار الذي يثير حفيظة القبائل الأخرى. وقد
لاحظت أن كثير من القبائل تتحاشي تكرار الأشعار التي تمجد أفرادها في المعارك ويتم
غالباً توارث هذه الأشعار بطريقة لا تخلو من سرية. فعلى الرغم من إيجابية هذه
السلوك والجانب القيمي والأخلاقي فيه مثل مراعاة مشاعر الطرف المنهزم في المعارك
والحرص على إستدامة السلم، إلا أنه تسبب في ضياع كثير من قصص التاريخ البجاوي
ومنها عدد من المعارك القاسية التي شهدها شرق السودان في فترات المهدية وقبلها بين
القبائل.
ثالثاً: اللجوء الي التحكيم ومجالس العرف القبلي:
يلجأ البجاوي الى مجالس الصلح القبلي في حال حدوث
النزاعات او المشاجرات و قضايا القتل. وغالباً ما يتطوع أفراد القبائل الأخرى غير
الأطراف في النزاع بطرح مبادرة وقف العدائيات والصلح في حال نشوب النزاعات او
المشاجرات. وتستخدم تكتيكات محددة في هذه المجالس منها على سبيل الذكر لا الحصر:
1- القلد Galad: ويعني العهد المتبادل بوقف
العدائيات، و لا يعني الصلح بقدر ما يعني هدنة لوقف العدائيات ولكن ميزته يكون
مفتوحا زمنياً في أغلب الحالات، اي بمعنى ليس له سقف زمني. ويساهم القلد في نزع
فتيل الأزمة وضمان تحقيق مناخ ملائم للسلام. ويأخذ عهد القلد قوته من إلتزام الشخص
البجاوي غير العادي بالعهود، وبالتالي لا يتم خرق هذا العهد باي حال من الأحوال
ولو تم ذلك يعتبر من كبائر وعظائم الأمور التي تستوجب الملامة العظمى التي لا تغفر
وتستوجب العزل الاجتماعي (المطلق). وغالباً ما تقوم بمبادرة القلد المجموعات غير
المشاركة في النزاع والزعماء القبليين والدينيين. للقلد صيغة مختصرة تبدأ بالتأمين
على إسم الجلالة، وتنتهي بالقسم الشفهي بعدم الإعتداء وغالباً ما يقوم زعيم
القبيلة او الأسرة بترديد هذه العبارات أمام الشهود في حال النزاعات بين المجموعات،
كما يقوم بذلك الأشخاص أطراف النزاع في
حال الشجار الثنائي. ويخضع القلد لشروط اخرى منها تحاشى الإحتكاك المباشر في
المرعى والمسكن، ووقف المجاملات الإجتماعية، ووقف التعبير العدائي.
2- واجاب
Wajab :
وتعني ضرب موعد للنظر في القضية محل الخلاف، وهي آلية تساهم في تخفيف حدة الأزمات
وتمنح أطراف النزاع مهلة لإعادة النظر في مواقفها. وتساهم في حل القضايا بحكم كون
مرور الوقت على الحدث او الواقعة محل الخلاف يقود في أحيان كثيرة الى تخفيف
الإحتقان والقابلية للصدام، وتكون للأطراف القابلية للحوار والمنطق. وتقال هنا
عبارة مشهورة في لغة البداوييت، وهي توهسيياي اميتا اي أن الغضب مثل
إلتهاب الجرح، اي بمعنى أن مرور الوقت يساهم في شفاءه.
3- في حال الشجار او القتال لا يقوم المنتصر
بالمفاخرة بالنصر او مواصلة الإعتداء، فبدلاً من هذا السلوك العدواني يبادر
المنتصر في الشجار بطلب (القلد). وفي مجالس الصلح القبلي لا يسمح للمنتصر او
المعتدي بالحديث ويطلب منه السكوت وعدم تبرير مواقفه وأفعاله، فيما يسمح للطرف
الآخر المعتدى عليه بالتعبير عن نفسه ويتحمل المجلس العرفي قوة تعبيره وعنف
ألفاظه. في المجتمعات الحضرية، تقوم أسرة
او قبيلة المعتدى بتسليم الشخص مرتكب الجريمة او الجاني الى الشرطة كبادرة إعلان
الرغبة في السلام وتطلب (القلد)، كما لا تقوم بتكليف محام لتولي القضية ايضاً
كبادرة لعدم التلويح بإستخدام كروت المبارزة القانونية. وكانت العادة في المناطق
الريفية أن يتم تسليم الشخص المعتدي الى رئيس الإدارة الأهلية المعني سواء كان
ناظر او عمدة او خلافه وفي بعض الأحيان لشيوخ الدين ليعيش في استضافة مأمونة،
ويمنع العرف الإعتداء عليه وهو في حمى الرجل الكبير.
4- يتضمن العرف البجاوي تقاليد لتعويض المتضرر
سواء كانت تعويضا مادياً او معنوياً كمدخل لحسم القضايا والنزاعات حيث تجد عبارات
مثل ( كلأتKilaat ، لأنيت Laanait
..) فالأولى تعويض مادي نظير جرح او إعتداء
حسي، والثانية تعويض مادي نظير ضرر معنوي. هناك طريقة لتقييم قيمة الدم في حالات
الجروح وفقدان الأعضاء البشرية او إلحاق الأذى الجسيم بها. كما توجد أدوات للتعويض
المدني القائم على الإعتذار المشهود وتقديم قيمة مالية او غير مالية نظير جبر
الضرر. كما تتعارف القبائل البجاوية على سنن حفظ المعروف بشهادة الشهود، بمعني يحق
لقبيلة وقع ضرر على أحد أفرادها أن تتنازل عن حقها في التعويض على أن يكون ذلك
بمثابة سلفة للمستقبل يتم إعتبارها في حال حدوث قضية مشابهة بين القبيلتيين.
5- يتضمن العرف البجاوي تقاليد لمنع الإحتكاك
بين المجموعات المتنازعة ومنها تقليد ( دوبوييت Doboiet) وترجمتها الحفظ حيث
تقوم القبيلة او الأسرة المعنية بتجميع أفرادها في حيز محدد ولا تسمح لهم بالتداخل
المباشر مع المناطق التي تقطنها المجموعة المنازعة او الآبار التي توردها قطعانهم
لحين نزع فتيل الأزمة. كما يطلب زعماء القبائل من الأفراد المنتمين لقبيلة محددة
مشاركة في نزاع بالإنضمام الي مجموعاتهم الكبرى وعدم السكن او الإحتكاك مع أفراد
المجموعة التي لها صراع مع مجموعتهم الأم او حتي السكن بعيداً عن أهاليهم حتي لا
يكونوا عرضة للإنتقام.
رابعاً: الإلتزام بحدود وقيود إخلاقية في القتال:
تواضعت الإنسانية في كثير من مجتمعاتها المحلية ومنها
مجتمع شرق السودان على تقاليد مقيدة لحالات الإعتداء وقواعد التصرف في حالات
النزاعات مع الخصوم. وهي تقاليد مبنية على أسس ومرجعيات قيمية ودينية وأخلاقية.
يتضمن العرف البجاوي عدداً من هذه القيود التي تضبط العداء، وتمنعه من الإنفلات
بالشكل التي يتجاوز الأخلاق. ويساهم الإلتزام بهذه القواعد في تخفيف حدة العداء
فيما يقود إنتهاكها الى تأجيج الكراهية، وإعاقة مبادرات المصالحة والسلام
المجتمعي. سأحاول سرد بعض هذه القيود:
1- يحظر العرف البجاوي الإعتداء الجسدي او
اللفظي ضد النساء، فقد خلت كل الحروبات القبلية وفي أوج إستعارها من تصرفات مثل
الإغتصاب او السبي او قتل النساء. كما يحظر العرف البجاوي الإعتداء على الأطفال.
في حالات الحروب القبلية القاسية التي شهدتها مناطق البجا في فترات سابقة، كان
يقوم الضعفاء من النساء والأطفال الذين فقدوا آبائهم ورجالهم باللجوء الى قبيلة
أخرى ترتبط بهم بجذور بعيدة ويندمجون فيها. كما يحظر العرف إعتداء الشاب على
الشيخ، او إعتداء المجموعة على فرد منعزل. من الأعراف الملفتة للإنتباه والإحترام
في القانون العرفي البجاوي السلطة التي
تملكها المرأة في وقف اي نزاع او مشاجرة عبر كشف شعر الرأس والدخول بين المتقاتلين
بهدف منع القتال. هذا السلوك يشير الي إحترام المرأة في المقام الأول، وتقدير
الآلام التي تقع على النساء جراء الحروب والنزاعات من فقدان للأبناء والأزواج
والأقارب. وقد عبر أحد الإداريين البريطانيين عن إعجابه الشديد بهذه العادة بعد
مشاهدته شجار بين قبيلتين في مدينة بورتسودان إنتهي فقط بدخول إمراة بين الطرفين
الأمر الذي أدى لوقف الشجار وإنصراف المتعاركين، وهي مهمة تعاني الحكومة في
تحقيقها، وقد قرأت في الإنترنت عن وجود أعراف شبيهة بذلك في تاريخ منطقة البلقان.
2- يحظر العرف البجاوي الإعتداء على زعماء
القبائل ورؤساء الأسر وقيادات اي قبيلة ومجمل المسنين في حال نشوب النزاعات،
ويكونون في مأمن من الإعتداءات.
3- يحظر العرف البجاوي الإعتداء على
الحيوانات الصغيرة مثل الغنم بإعتبار أنها دوماً تكون من ملكية الأسر والنساء
ويذهب الإعتداء على الإبل وبقية الأموال.
4- يحظر العرف البجاوي تجاوز عبارات الصد
الخاصة بإعلان عدم الرغبة في القتال من قبل المعتدى عليه وهي تكون إما بعبارة
شفهية ومعناها ( لا تتجاوز الله ) وتنطق بالبجاوية ( الله بافرا) ،
او تكون مصحوبة بحركة حسية سريعة يقوم فيها المعتدى عليه بالرجوع الى الخلف نحو ثلاث
قفزات ويرسم بالعصا او السيف ثلاث خطوط على الأرض فيما يعني القول لا تتجاوز هذه
الخطوط، وأنني لا أرغب في قتالك. في هذه الحالة لو أصر المعتدي على القتال فإن ذلك
يخصم كثيراً من حقوقه في الدفاع عنه من قبل قبيلته في مجالس العرف القبلي. كما يحظر العرف القتالي الإعتداء على المستسلم
الذي يقر بهزيمته.
5-
يتحمل
المبادر بالإعتداء اي ضرر يقع عليه كرد فعل من قبل المعتدى عليه. وتتسبب المبادرة
بالإعتداء في تراجع مساندة قبيلة المعتدي له في مجالس العرف القبلي، ويقال له (
شاقويناي) اي الباديء بالخطأ.