السبت، 3 أبريل 2021

أبوجلمبو: أحد دروس الطبيعة في الطرافة والقدرات الأكروباتية

      أبوجلمبو حيوان برمائي طريف الشكل والملامح والقدرات. يتكون هيكله من شكل صندوق تحيط به عدد من الأرجل وهي 8 ارجل بالإضافة إلي مخالب يستخدمها كأيدي لنقل الطعام الي فمه المخبوء وفي الصيد والإقتناص والدفاع. تمكنه تعددية الأرجل بالتحرك في الاتجاهات الأربعة يميناً وشمالاً واماماً وخلفاً. تتكون أسرة ابوجلمبو من أنواع عديدة بعضها تعيش في المياه الضحلة، وبعضها في المياه الأعمق، بعضها في المياه المالحة وبعضها في العذبة، بعضها تقطن في الأعماق وبعضها تتخذ بيوتا جحورية في الرمال الشاطئية والساحلية التي تعود إليها بعد اصابة أرزاقها من خيرات البحر. تعيش مجموعات ابوجلمبو في تجمعات أسرية تتحرك معاً على الشواطيء في منظر ظريف وطريف.  لا تتوقف قدرات ابوجلبمو  الأكروباتية على التحرك في الاتجاهات الاربعة بل قدرته على السباحة في البحر جنبا الي جنب قدرته على الجري في اليابسة، فاذا داهمته كائنات البر يلجأ الي مياه البحر واذا داهمته كائنات البحر يجري غافلاً الي حيث الارض. ولا تنقضي عجائب صاحبنا هذا في الحياة البرمائية، والحياة في المياة العذبة والمالحة معاً  وسهولة الحركة بل يمتاز ايضاً بميزة أخرى لا تشاركها فيه أغلب كائنات البحر، فبعض كائنات البحر تعيش على لحوم بعضها البعض حيث يتغذي القوي على لحوم ودماء الضعفاء فيما تتغذي الصغيرة منها على الأعشاب وأما الأكثر ضعفاً فتتغذي على الطين، أما صاحبنا العجيب هذا فهو يتغذي على سلسلة طويلة من الاغذية التي تشمل اللحوم، والديدان، والقواقع، والأعشاب البحرية وربما الطين والتراب الذي يدفن نفسه فيه، ويستخدم في هذه المعارك مخالبة التي تساعده في القبض على الضحية وقتلها وتفتيتها وأكلها. أثناء بحثي عن صاحبنا في الإنترنت وجدت تعليقاً ظريفاً عن قدرات أبوجلمبو في مدونة زيزو زكريا بعنوان ابوجلمبو نايم على جانبو: ( هو كائن ظريف ولطيف له فوايد هامة للإنسان ولكن الذكر عينه زايغة لا تكفيه أنثى واحدة بل يضرب به المثل في تعدد الزوجات فتصل عدد زوجاته إلى 300-400 كابوراياية والأنثي تعلم جيداً  بأن أبوجلمبو  دائم الطواف على جحور الإناث ولذلك تحتفظ بجزء ليس بهين من حبوب لقاح الذكر في بطنها تقوم بإستخدامها عندما ينشغل  عنها (البيه) في رحلته اليومية للبحث عن الأناث فتقوم بتلقيح نفسها تلقيحاً ذاتياً (ولا الحوجة لابوجلمبو ولا اللي خلفوه). بغض النظر عن صحة التعليقات الواردة في هذا الإقتباس الذي لا يخلو من ظرافة إلا أنني لا أستغرب في اي قدرات إستثنائية لأبوجلبمو، ويمكن أن تشمل تلك الإمكانات القدرات الرجولية الزائدة او تصرفات الأنثي الجلمبوية في تجميد لقاحات الذكر لإستخدامها عند الحاجة. هؤلاء القوم بإمكانهم فعل كل الغرائب. على كل لقد ظل ابوجلمبو يعاني من من إستهداف البشر الباحثين عن الفحولة، مثله مثل بقية أنواع الحيوانات (المسكينة) التي إستهدفها الإنسان لهذا الغرض وهنا قائمة طويلة تشمل الكافيار، والجمبري، وبعض انواع القرش، وذكر الغنم ( التيس). أخشي ان يتجه البشر يوماً ما نحو الكلاب في  سعيهم نحو تعزيز قدراتهم الشهوانية . 

a href='https://www.freepik.com/photos/beach'>Beach photo created by wirestock - www.freepik.com</a

     تطلق على أنواع أبوجلمبو عدد من الأسماء منها سرطان البحر، السلطعون، أبومقص، كابوريا ويعتقد على نطاق واسع بأن لحومه تتميز بمزايا صحية عديدة نظراً لما تتضمنه من كميات مقدرة من الغذاء، والمعادن، والفيتامينات. في مناطق كثيرة من العالم تشكل أنواع أبوجلمبو وجبة شهية ومطلوبة من قبل البشر. لكن الحال يختلف في السودان حيث يعيش أبوجلمبو حياة آمنة الي حد كبير. هنا لا يشكل ركناً أساسياً في موائد الأطعمة، حيث ذهب إهتمام السودانيين الي الأسماك دون غيرها من الأحياء البحرية و بالتالي لا يشكل جلمبو هدفاً للصيادين. هذه الميزة لا يجدها في البيئات الأخرى. عندما كنت أشاهد الضحايا من قبيلة أبوجلبمو في أسواق بيع الأسماك في الدول التي زرتها أتذكر أشقائهم في السودان الذين يعيشون عيشة الحرية والأمان. كنت أفكر أحياناً في مخاطبتهم قائلاً: يامعشر أبوجلمبو أذهبوا الى بلاد السودان فإن هناك شعباً لا يتغذى على لحومكم، وبإمكاناهم على الأقل تأمين أنفسكم من الإبادة الجماعية وتعديات الإنسان وظلمه. في الساحل السوداني، يتخذ الناس عدداً من الأساطير الشعبية والقصص لحماية بعض أنواع الحيوانات. بعض هذه الأساطير تربط بعض الأنواع بالجن وحمل أرواح الموتي ، بعضها يتشائم من قتلها بحجة ان ذلك يتسبب في حدوث كارثة طبيعية او سوء الطالع للمعتدي. قصص قطط سواكن (الجنيات) ليست بعيدة عن هذه الخلفية التراثية، فالقصد من هذه الأساطير التربوية تأمين الحيوان من الإعتداء . ذكر الرحالة إبن بطوطة في رحلته الي الحجاز التي مر فيها بالساحل السوداني في 1325 م ( قبل اكثر من 690 عاما) أن الغزلان في ساحل سواكن لا تخشى من البشر فهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه لأن البجاة لا يأكلونها. في حالة أبوجلمبو، تقول الأسطورة الشعبية أن قتله يتسبب في حدوث أهوية وعواصف في البحر مما يهدد حياة الصيادين في البحر او تتسبب هذه العواصف في منعهم من العمل. بالتالي، يتحاشي الصياديون الإعتداء علي أبوجلمبو حرصاً على سلامتهم ومصالحهم. عندما يعلق ابوجلمبو بسبب  (شلاقته) في شباك الصيد التي ينشرها أصحابها لصيد الاسماك،  يضطر الصياديون لبذل جهود إضافية لانقاذ حياته، وهي مهمة عسيرة نظراً لتعدد أرجله، وعدوانيته، وإستخدام مخالبه في العض، وقدرته على الحياة في المياة وخارج المياة. عندما تجتذب طرافة أبوجلمبو وقدارته وطريقه حركته الأطفال ويحاولون مطاردته يتدخل الكبار لحمايته من  تلاعب الأطفال.

     في حياتنا العادية، تذكرني بعض تصرفات البشر بحالة صاحبنا، فبعضنا لديهم القدرة للجري في كل الإتجاهات وأكل كل أنواع الأطعمة، والحياة في كل الظروف لكنهم بالتأكيد لا يمتلكون براءة أبوجلمبو ولا يسابقونه في مهاراته وقدراته.

السبت، 20 مارس 2021

المعركة الأبدية بين القطط والفئران: هواجس الخوف والأطماع وصراع البقاء

      تشغل قصص صراعات الحيوان حيزاً مقدراً في تراثنا العربي والإفريقي. وتظهر هنا قصص الثنائيات المتشاكسة والمتصارعة مثل الثعلب والدجاج، والقط والفأر. هذه القصص تشكل مادة شيقة للأنس او إستخلاص الحكم وأخذ الدروس او التربية والتنشئة والتثقيف و قصص وحكاوي الأطفال. تعتبر قصص الثنائي القط والفأر من أروع القصص وأكثرها تردداً. وتنحو هذه القصص دوماً إلى تسليط الأضواء على السلوكيات التي تحكم العلاقات بين القطط والفئران ومحاولة مقارنتها بتصرفات البشر. تشير بعض هذه القصص الي أساليب القطط في الإيقاع بالفئران و إستعمال الفئران لذكائها في تفادي مكر القطط وقسوتها، كما تشير الي نواحي أخرى مثل الميل الغريزي للقطط في ممارسة الإعتداء على الفئران التي لاحول لها ولا قوة، ولا تملك من المخالب والأدوات ما يمكنها من الدفاع عن نفسها. يدخل القط معركته ضد الفار دون خوف من الخسائر علي جسده وإمكاناته نظراً لضعف الخصم وهوانه. فإن أمسك بالفار فقد تحققت له مصلحة وقتية بسد رمقه، وإن فشلت مطاردة واحدة فبإمكانه التخطيط لمطاردة أخري. قد يفشل في الإمسك بالفأر لكن بالطبع سوف لن تتمكن جماهير الفئران في التصدي لجبروت القط وعنفه وقسوته وإن اجتمعت على قلب رجل واحد. في هذه الحالة لا يوجد خيار أمام الفئران غير إستغلال الذكاء في المناورة، والإختفاء، والغش، والجرى للمحافظة على حياتها وحريتها في مواجهة هذا الخصم صاحب الأسنان والمخالب والنظرات الحادة. من النماذج المعتادة هنا قصة القط توم والفار جيري ومطارداتهما اللانهائية و ما تمثله من مشاهد ممتعة ظلت تجتذب أطفال العالم جيلاً بعد جيل، وتحافظ على تسمرهم أمام شاشات التلفزيونات وهم يتابعون الأفلام الكرتونية التي تعرض عدوانية توم وذكاء جيري ومرواغات الأخير وخططه. في السياسة والصراع، توصف المعارك غير الجادة بين الخصمين بلعبة القط والفأر في إشارة الي سلوك القط في التلاعب بالفأر دون القضاء عليه، اي إطلاق سراحه ثم ملاحقته للقبض عليه مرة أخرى، لتأكيد تفوقه وسيطرته وقدرته، وكذلك إستعمال الخصم الأضعف لأساليب إستفزاز الخصم الأقوى دون إلحاق الأذي الكبير والمؤلم به بغرض إخطاره بقدرته على الفعل والتأثير. 

  سأحاول هنا تقديم بعض نماذج القصص والتي تدور حول علاقات القط والفار والمقولات المرتبطة بها:

 لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط: الحلول غير الواقعية:

تطرح المقولة الشائعة ( لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط) في مواجهة مقترحات الحلول غير الواقعية في التصدي لعدو قوي يمتلك القدرة على إلحاق الأذي الجسيم. ترجع قصة العبارة إلي التراث الإغريقي وفحواها  أن مجموعة من القطط عقدت إجتماعاً لمناقشة مشكلتهم مع قط قاسي أحال حياتهم الي جحيم وتسبب في حرمانهم من الخروج والبحث عن أرزاقهم بعد أن قضي على حياة عدداً منهم. طرحت خلال الإجتماع عدد من المقترحات والحلول منها أهمية التعرف على الوقت الذي يخرج فيه للإصطياد لإتخاذ الإحتياطات اللازمة. إقترح أحد الشباب تعليق جرس في رقبة القط للمساعدة في التعرف على مجيئه وحركته لإتخاذ الإحتياط الواجب في الإختفاء. وجد المقترح التأييد من الحضور لكن إعترض عليه أحد شيوخ الفئران المشتهرين بالحكمة والتجربة الذي توجه بحديثه للحضور متسائلاً: لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط، فبهتوا جميعاً ولم يتجرأ أحد منهم للتطوع بالمخاطرة بحياته في مواجهة القط. 


 حج القط وتوبته: صعوبة تخلي المجرم عن سلوكه الإجرامي 

تروي القصة في إطار التأكيد على صعوبة تغيير السلوك الإجرامي لمعتاد الجريمة. القصة من التراث البجاوي وهي مترجمة من لغة البداوييت. تقول القصة:  قرر القط في لحظة من لحظات حياته التوبة عن الحرام، ووقف التعدي على الآخرين، فذهب حاجاً لبيت الله الحرام. بعد العودة السالمة من الرحلة الميمونة، توافدت الحيوانات الأخرى زرافاتاً ووحداناً إلي دار القط مقدمين له التهاني بزيارة الأراضي المقدسة مع الدعوات بقبول الحج وغفران الذنوب. إستدركت جموع الحيوانات غياب شخص مهم عن إحتفالات التهنئة وهو الفأر لا سيما وأنهم كانوا يتوقعون وجوده في مقدمة المحتفلين بتوبة القط نظراً لتضرره البالغ من أفعال القط. هنا تدخل (الأجاويد) وبعد جولات من المساعي الحميدة نجحوا في إقناع الفأر بالذهاب الي دار القط لتقديم التهاني. ذهب صاحبنا متردداً وعلى إستحياء وبعد وصوله للدار جلس بعيداً عند المدخل، وقدم تهنئته من على البعد ثم غفل راجعاً لمقره على وجه السرعة. عاد (الأجاويد) مرة أخري للسيد الفأر مستفسرين عن إنطباعاته عن الحاج التائب. بعد تفكير طويل، قال إن صاحبكم (القط) بالفعل ذهب الى بيت الله الحرام، وأعلن توبته أمام الله لكنني شخصياً لم أطمئن لنظراته، فهي ذاتها التي كنت أعرفها من قبل، لم تتغير ولم تتبدل ولم أرى أثراً للإيمان والرحمة في عينيه.

القط متهرشاً بالفأر: لا تكشح التراب في وجهي:

العبارة مأخوذة من قصة شائعة تقول أن القط والفار إتخذا قارباً في رحلة بحرية وبينما هما في وسط الماء، إستبدت بالقط الرغبة في إختلاق معركة مع الفأر فقال له بلغة صارمة وعنيفة: لماذا تكشح التراب في وجهي، فرد الفار قائلاً: إننا في قارب في البحر فأين أجد التراب حتي أكشحه في وجهك. فإنقض عليه القط متهماً أياه بقلة الأدب والتطاول والإفتراء وكثرة الكلام. تروي القصة في سياق الإشارة إلي الشخص الذي يختلق سبباً لإشعال المعارك مع طرف آخر دون توفر ظروف منطقية او موضوعية تدعو الي ذلك الإشتباك.

الفأر الذي فقد حياته نتيجة لطمعه:

تروى القصة للإشارة الي سلوك الطماعين والإنعكاسات السالبة لمحاولة التكسب أكثر من الحاجة على الإنسان. تقول القصة كان الفأر يسكن بالقرب من مخزن مليء بكل ما لذ وطاب من الأطعمة التي يشتهيها الفأر، و كان هذا المخزن يخضع لحراسة قط شرس لايسمح لاي كائنات أخري بالإقتراب والسرقة. بعد فشل المحاولات في الوصول إلي المخزن، قرر الفأر إتخاذ سبيلاً أكثر صعوبة، وذلك عبر حفر نفق أرضي. بعد جهد جهيد وقضاء الأيام والليالي في الحفر، تمكن من الوصول إلى أرضية المخزن و فتح فتحة صغيرة. أصبحت هذا الفتحة تسرب له يومياً حبات من القمح تكفي لسد رمقه وتعفيه من مصاعب البحث عن الغذاء وأصبح رزقه يأتيه كل يوم. بعد فترة من الراحة والعيش الرغد والسهل، قال الفأر لماذا لا أوسع هذه الفتحة وأدخل الي المخزن وأحصل على كمية أكبر ومتنوعة من الطعام. وعمل على توسيع الفتحة، وتمكن من الحصول على طعام أوفر لكن تسببت هذه الفتحة في فقدانه لحياته. ففي أحد جولاته التفقدية داخل المخزن، إكتشف القط وجود فتحة في أرضية المخزن فدخل عبرها ليلج الي نفق الفأر حيث وجده فقضي عليه. ( القصة مأخوذة من المصادر المفتوحة في الإنترنت مع التصرف في الصياغة).

  
 
freepik.com ملحوظة: كل الصور مأخوذة من الأنترنت

الأحد، 10 يناير 2021

النخلة العنيدة


تقف هذه النخلة وحيدة وبعناد وشموخ، علي نقطة في الساحل السوداني بمرسي تباديب (شيخ أكد)، جنوب محمدقول. تمتد جذورها في مياه البحر المالحة، تستقبل صدى أمواجه، وتتمايل بهدوء عندما تلفحها الرياح القادمة من البحر أو الجبال.  لا أعرف تاريخ ميلادها بالتحديد لكن شاهدتها شجيرة في تسعينيات القرن الماضي ثم رأيتها في العشرية الأولى للألفية، فتاة فارعة القوام بكل جمالها تنتصب  بشموخ على شاطيء البحر، تفيض بالخصوبة، و يتساقط منها رطباِ جنياً حلو المذاق لم يتأثر البتة بمرارة الظروف المحيطة بها. لقد حمتها العناية الإلهية من تعدي الجمال التي تسرح في السهل الساحلي وتغوص أحيانا بأرجلها في مياه البحر لتقتات من أشجار المانجروف الموجودة في هذه المنطقة. 
علمتني هذه النخلة عدد من الدروس. أولها إمكانية تحدي ومقاومة ظروف الطبيعة عبر الإصرار والعزيمة. لقد قاومت هذه النخلة ملوحة الأرض وملوحة البحر الأحمر وهو واحد من أكثر بحار العالم ملوحة، و لم تسمح بأن تؤثر هذه الملوحة علي حياتها او إنتاجها من البلح. الدرس الثاني هو أن  الأرزاق كلها ومنها الأعمار بيد الله وليست بيد اي مخلوق، فهو الذي يعطي وهو الذي يحمي وهو الذي يأخذ عندما يريد أن يأخذ.


الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020

الثنائي النمساوي هانس ولوتي هاس وإكتشاف البحر الأحمر: عندما يصنع الحب المعجزات

قدم عالم البحار النمساوي الدكتور هانس هاس خدمات جليلة للسودان عبر إنتاجه لأول فيلم توثيقي عن الحياة البحرية في الساحل السوداني، وذلك قبل إستقلال البلاد وتحديداً في العام 1951. حقق الفيلم المشهور (مغامرات في البحر الاحمر ) شهرة عالمية أهلته للحصول على جائزة الأوسكار في مهرجان البندقية (فينسيا) السينمائي. كان الفلم نتيجة لرحلة إستكشافية وتوثيقية قام بها الدكتور هاس بصحبة عدد من المساعدين، قضوا فيها شهوراً في منطقة البحر الاحمر حيث تمت تغطية ملامح الحياة البحرية بالإضافة الي الحياة الحضرية والمجتمعية بمدينتي بورتسودان وسواكن. تم تمويل الفيلم من قبل شركات عالمية أمريكية ونمساوية، وعرضت النسخة الأولي منه باللغة الألمانية، ومن ثم تبعته أعمال باللغة الانجليزية منها برنامج تم بثه عبر هيئة الأذاعة البريطانية عن الرحلة الإستكشافية الى البحر الاحمر.

 هناك شخصية محورية ساهمت بشكل كبير في إنجاح هذه الرحلة وفي إنتاج الفلم المذكور. هذه الشخصية هي الآنسة لوتي بايرل التي إكتسبت فيما بعد إسم زوجها هانس هاس. بدأت لوتي حياتها كعارضة أزياء وممثلة ومن ثم تحولت تماماً الى دعم زوجها في مساعيه المتعلقة بتوثيق الحياة الطبيعية البحرية،. إنضمت لوتي لمكتب السيد هانس هاس بمدينة فيينا كمساعدة في الأعمال الإدارية وذلك في العام 1947. عندما لاحت فرصة الذهاب الي السودان لتوثيق فيلم عن البحر الاحمر عرضت رغبتها في الإنضمام لفريق البعثة لكن ووجهت بإعترض السيد هانس  بحجة صعوبة المنطقة ولعدم قناعته بمشاركة النساء في الأعمال البحرية لمتاعبها ولإرتفاع درجات المخاطر فيها . لكن تنازل فيما بعد عن موقفه ذاك لا سيما بعد ضغط من قبل الجهة الممولة للعمل التي رأت في وجود شابة جميلة ضمن فريق العمل فرصة لتعزيز فرص نجاح الفلم التوثيقي وزيادة جاذبيته ومقبوليته لدى الجمهور وفي تسريع تسويقه وإنتشاره، وقد كانوا بالفعل محقين في حججهم حيث أثبتت نتيجة التجربة ذلك، فأهل الإعلام والسوق لهم تقديراتهم الأكثر تفهماً وتلمساً لإتجاهات الناس وميولهم بالمقارنة لتقديرات العلماء. إنضمت لوتي للفريق الذاهب للسودان وبدأت في الإعداد للرحلة عبر تعلم الغوص في مسابح وبحيرات مدينة فيينا. لم تخذل لوتا الشركة الممولة التي توسمت فيها انجاح الفلم و زيادة جاذبيته ، فقد استخدمت شجاعتها وذكائها ومرحها وجمالها وأنوثتها وخبرتها كعارضة أزياء وممثلة في إنجاح الفلم، ففي كثير من مشاهد التصوير تحت الماء ظهرت مبدية بعض مفاتنها الجسدية متنازلة عن لبس بدلة الغوص الكاملة التي تغطي أغلب الجسد. حقق الفلم بعد اطلاقه نجاحا منقطع النظير وبسرعة فائقة، فالكل اشاروا الي دور لوتي في نجاحه. كان عالم خمسينيات القرن الماضي  منبهراً بالفتاة الجميلة الشجاعة التي تسبح وسط الشعاب المرجانية والأسماك والتي إخترقت مجالاً ذكورياً من الدرجة الأولى. لم تحظ لوتي بنيل إعجاب الجمهور فقط، فقد إختطفت ايضاً قلب العالم دكتور هانس نفسه الذي أحبها وعرض عليها الزواج وهما في رحلة العودة من بورتسودان الي فيينا في نوفمبر 1950. بعض إطلاق الفلم، توالت عروض شركات الإنتاج السينمائي للوتي للرجوع الي عالم التمثيل لكنها رفضت وتمسكت بمواصلة المشوار مع زوجها هانس هاس في توثيق الحياة البحرية. 

 وثقت لوتي تجربتها في السودان وفي البحار والمحيطات  في كتاب بعنوان "بنت في قاع المحيط " ، كما ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في كل الأعمال التي قام بها زوجها الرائد في مجاله والذي أورث الإنسانية كماً هائلاً من الإنتاج الأدبي والتوثيقي الذي يشمل أفلام وكتب وبرامج تلفزيونية فضلا عن مساهماته في إختراع وتطوير أدوات ومعدات الغوص والتصوير تحت الماء. 

 فارقت السيدة لوتي هاس الحياة في 14 يناير 2015 بمدينة فيينا بالنمسا بعد حياة حافلة بالعطاء، وذلك بعد أكثر من عام بعد رحيل زوجها الذي غادر الفانية في 2013. لكن إسمها لازال حياً بل سيظل حياً بجوار إسم زوجها، فلاتذكر مسائل توثيق الحياة البحرية والطبيعة البحرية إلا وتقفز إلي الأذهان أسمائهما وما يذكر إرتياد النساء لعالم البحار إلا ويذكر إسم لوتا التي تعتبر بلا منازع في صدارة النساء الرائدات في الغوص والتوثيق والتصوير تحت الماء. لقد إقتحمت السيدة لوتا بشجاعة مجالاً مهنياً شاقاً وأثبتت فيه جدارتها. إلتقيت بأحد المصورين الكبار في معرض بمدينة فيينا، وأثناء النقاش معه إستسفسرته عن وجود أعمال له عن توثيق الحياة في البحار او المحيطات او غابات افريقيا وصحاريها، وأفادني بقيامه ببعض الأعمال القليلة، وبعدها وفي إطار تشجيعه للذهاب للسودان لتوثيق الحياة البحرية والصحراء والجبال والحياة البرية، أشرت لتجربة دكتور هانس هاس وما قدمه لبلادي فقال الرجل ضاحكاً: لو كانت لي حبيبة مثل لوتي لوثقت الفضاء دعك عن أعماق البحار، وضحكنا معاً مقرين بدورها في حياة هانس هاس المهنية.

ظلت رحلة السودان تشغل حيزاً إستثنائياً في وجدان الثنائي هاس، فهي التي شهدت مولد حبهما والخطوات الأولي لبناء مصيرهما المشترك. في الفلم الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية، تلفت لوتي إنتباه زوجها إلى الهدية الكبرى التي تحصلوا عليها في السودان مشيرة الى الزواج وذلك بعد أن يعدد الدكتور هاس جمال وصفاء ونقاء وتفرد بيئة البحر الأحمر. بادل المجتمع المحلي بالبحر الأحمر الثتائي النمساوي أيضاً الحب والتقدير والإهتمام. ففي كثير من مشاهد الفلم يظهر هذا الإحتفاء خصوصاً في شوارع مدينة بورتسودان او من الصيادين المحليين او الذين ساعدوا البعثة في مهمتها. لعل من أهم دلائل هذا التقدير والحب ما ذكرته لوتي عن تلقيها في يوم من أيام وجودهم ببورتسودان هدية من شخص مجهول من مدينة طوكر، كانت الهدية المغلفة بإحكام مجموعة من أسورة وسلاسل الذهب التي تلبسها النساء بمنطقة  البحر الأحمر، وقد كتب لها باللغة العربية أنه يقدم لها هذه الهدية تقديراً لها وإعجابا بشجاعتها بعد أن قرأ عنها وعن مجهوداتها في إحدى الإصدارات الصحفية. ترددت لوتي في قبول الهدية من رجل مجهول ولكن في النهاية إقتنعت بأخذها. تشير القصة إلي معاني عميقة منها الكرم السوداني، وتقدير السودانيين للمرأة، وقد قرأت من قبل في كتاب لمؤلف بريطاني يشير إلى إحترام السودانيين للنساء الغربيات المسافرات لوحدهن حيث يجدن الدعم من الكل ولا يتعرضن لاي شكل من أشكال الإعتداء او التحرش في طول البلاد وعرضها، كما تشير الحادثة الي الأدب والخلق الرفيع. و يبدو أن مقدم الهدية كان من كبار المجتمع الطوكراوي، وقدم هذه الهدية منفعلاً بمجهودات الفتاة النمساوية او قد يكون معجباً بجمالها، او قد يكون إلتقي بها ببورتسودان او سواكن ولكن لم يكن يرغب في إعلان إسمه. و هنا يمكننا القول، هكذا هي تصرفات الرجال العظام عندما يعجبون، وعندما يعشقون حيث تمنعهم كبريائهم من إعلان المشاعر، وأنهم يقدمون بلا ثمن، ويقتلون ميولهم العاطفية بالصمت النبيل، هذا في حال إفترضنا وجود ميول عاطفية وهي غير مستبعدة، فكثير من النجوم يتعرضون لحالات من الحب من قبل معجبيهم وإن كانت كلها او أكثرها حالات حب من طرف واحد.  كما تشير الحادثة إلى مستوي الوعي والحياة المدنية بمدينة طوكر على تلك الأيام، فكانت المدينة تعيش أوج إزدهارها ورفاهيتها، نتيجة إرتفاع أسعار القطن، فاهل البحر الاحمر يذكرون أن طوكر هي المدينة الأولي التي دخلها التلغراف في السودان، وهي وسيلة الإتصال المتطورة حينها، كما كانت بورصة القطن بطوكر ترتبط بالبورصات العالمية. كما يبدو من الحادثة أن المدينة كانت تستقبل الصحف و المجلات والإصدارات بشكل مستمر، والكل في البحر الاحمر يأسف على حالة التدهور التي عانت منها هذه المدينة المتميزة فيما بعد. 

 لقد ساهمت الرحلة الإستكشافية والتوثيقية للبحر الاحمر في زيادة تسويق السيد هاس كعالم بحار وكناشط في التوثيق للحياة البحرية نسبة للكم الهائل من الصور والمعلومات عن الحياة البحرية مثل الشعاب المرجانية وأسماك القرش وغيرها من الأحياء البحرية. من جانبه قدم العالم هاس الكثير للبحر الأحمر عبر التوثيق. بالإضافة الى الأفلام والبرامج التلفزيونية، قدم السيد هانس كتباً عن البحر الاحمر مثل كتابه عن أسماك المانتا ري في البحر الاحمر، وكتابه عن العودة الي البحر الاحمر بعد ثلاثين عاماً.

 هناك الكثير من المشاهد الجميلة والرائعة في فلم مغامرات في البحر الاحمر والبرنامج الخاص عنه الذي تم إعداده عبر هيئة الإذاعة البريطانية. من هذه المشاهد، تصوير قرش النمراوي حيث ينزل الفريق بسرعة من السنبوك للبحر لإلتقاط الصور من القرش النمراوي الذي ظهر قريباً من السنبوك، وهو بالمناسبة من الأنواع الكبيرة من أسماك القرش ويتصف بالقوة والجمال. وكذلك مشهد عمل الفريق لتشغيل الموسيقي في واحدة من الشعاب المرجانية للفت إنتباه الأسماك وتطريبها. ومن المشاهد الملفتة للإنتباه مشهد إنقاذ لوتي بعد أن تاهت وعلقت وسط ركام إحدي السفن الغارقة، لا أدري إن كانت أمبريا الإيطالية ام سفينة أخرى لانه لم يتم ذكر إسمها لكن ربما كانت سفينة أخرى لأن أمبريا ظلت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية محظورة على هواة وممارسي الغوص لأغراض السلامة لإحتوائها على متفجرات ومواد عسكرية. 

يأتي التساؤل الذي يفرض نفسه هنا، لماذا وصفنا عمل هذا الثنائي المتميز بالمعجزات. يرجع ذلك لعدة إعتبارات أولها، الدور الريادي للسيد هانس في مجاله وما قدمه للإنسانية من إرث في العلوم والتوثيق الطبيعي في مجال البيئة البحرية، وفي تطوير معدات الغوص والتصوير تحت الماء. وكانت لوتي التي جمعها معه إعجابها بنشاطه ثم علاقة الحب التي رسمت حياتهما معاً خير معين لزوجها. لقد حققا معاً نجاحات مقدرة طوال مدة حياتهما المهنية والعائلية المشتركة التي تجاوزت الستين عاماً. الأمر الثاني إنتماء الثنائي المذكور إلى بلد غير ساحلية، وهي النمسا التي تقع في جبال الألب، ولكنها حققا إنجازات لم يسبقهما إليها الرواد الآخرين  من المناطق الساحلية. إرتبطت حياة هانس هاس بالبحار، بعد لقائه بغواص أمريكي في الريفيرا الفرنسية وقد قاده ذلك إلى تحويل مساره الأكاديمي من القانون والحقوق الي دراسة علم الحيوان، منتقلاً من فيينا الي برلين الألمانية للدراسة. لقد منحت رحلة البحر الأحمر للثنائي النمساوي السمعة والإنتشار وهي أول رحلة تجمعهما معا وقادتهما لتوثيق الحياة البحرية في مناطق اخري من العالم مثل البحر الكاريبي والبحر المتوسط والادرياتيكي والمحيطين الهندي والهاديء. لقد إكتسبت شخصية السيد هانس وزوجته لوتي بعداً عالمياً، فكل العالم لا سيما في قطاعات الأبحاث البحرية والإعلام البيئي والسياحة البيئية يحتفي بهما، وحسناً فعلت جمعية الغواصين التاريخية بإفراد جائزة عالمية بإسم هانس هاس ، وأرجو هنا لفت إنتباه حكومة السودان والمجتمع المدني بالبحر الأحمر في النظر في إمكانية تكريم الثنائي هاس.

 في خاتمة المقال، بإمكاننا القول إن الحب لا يبني البيوت والأسر فقط ويخلق السلام بين الدول والشعوب ولكنه ايضاً يقود الي تحقيق المنجزات والمعجزات.



 https://youtu.be/PXPk2dcdLiw

https://youtu.be/osSYN-fxtGw