فقد المجتمع السوداني في النمسا مؤخراً
اثنين من اعلامه وركائزه وهما الدكتور ابراهيم عوض يوسف الذي لبى نداء ربه قبل
الشهر الفضيل بايام والدكتور محمد نجيب عيسي الذي إنتقل للرفيق الاعلى في الأسبوع
الاول من رمضان.
تعرفت علي الدكتور ابراهيم في أيام مقدمي الأول
لمدينة فيينا في منتصف العام 2014، و توثقت
صلتي به عبر العديد من اللقاءات التي جمعتنا فضلاً عن الإتصالات الهاتفية بيننا التي لم تنقطع طيلة فترة تعارفنا . كان
من الشخصيات التي أحب الجلوس اليها والنقاش معها. يتحفك دوما بكلماته المهذبة
وذكرياته وآرائه المتعددة في قضايا السياسة
والمجتمع . جاء الي النمسا طالباً للدراسات العليا الطبية في جامعة فيينا في
ثمانينيات القرن الماضي وطاب به المقام بها . رغم بقائه في النمسا طوال عقود الا
ان الرجل كان محافظاً علي السمت السوداني في كل شيء. في حديثه وإهتماماته وهمومه
وتقاليده . العمة والجلابية كانت ثوبه
المميز ولا يشعر بأدنى إحساس انها زي غريب في شوارع فيينا وهو يجوبها بعمته
الكبيرة وجلابيته الفضفاضة . كل ابراهيم رجلاً إجتماعياً من الطراز الاول حيث ظل
يشكل حضوراً فى كل مناسبات الإفراح والاتراح التي تجمع مجتمعنا الصغير في فيينا
سواء في بيت السودان او مقر اقامة السيد السفير او الأنشطة التي درج على تنظيمها
صندوق المراة السودانية بفيينا. وكان يحظي
بالتقدير من الكل الذين يعاملونه بإحترام وتقدير وأبوية يستحقها. كثيرين ممن
نلتقيهم نشعر بين كلماتهم نفحات مرارات وبعض أحقاد او قسوة حتي لو حاولوا اخفائها الا انها كعادة المشاعر
فهي لا تخفي فمهما حاول صاحبها إخفائها فهي تظهر معبرة عن نفسها بشكل او بآخر ، ويتفاوت
الناس في ملاحظة هذه المشاعر السلبية . يمكنني القول أن ابراهيم كان مبرءاً من ذلك
وأحسبه كان صافي السريرة ، حسن الاخلاق وكان نباتاً صالحاً من بيت كريم . فلا تجد
ابداً في كلماته اي أثر لهذه المشاعر السلبية.
كان ابراهيم يحرص على مد الصلات مع الآخرين والتعرف عليهم . أذكر انني
عرفته بصديق لي زارنا في فيينا وما كان منه الا أن إتخذ الفرصة لدعوتنا بمنزله بروح
شيخ العرب الكريم الذي لا يكترث لتكلفة الدعوة والإستضافة، فقضينا معه وقتا جميلاً . الحرص على دعوة
الاخرين لمنزله عادة معروفة عنه ، فكم مرة دعاني الي منزله لتناول الشاي او الإفطار
في شهر رمضان ، وكان له وعد لي بزيارتي في منزلي ولكن أخذته المنية قبل ان يفي
بوعده. لم تبعده همومه الخاصة او بعده الجسدي عن السودان من الاهتمام بهموم البلد
، فقد كان يحتفظ بمودة خاصة لجيل الاستقلال والآباء المؤسسين للدولة السودانية
المستقلة لا سيما الزعيم اسماعيل الازهرى ، كما لم يتردد في الإستجابة لاي دعوات
تخص العمل الوطني العام، وقد شارك قبل وفاته بأشهر في مؤتمر عقده جهاز السودانيين
العاملين بالخارج في الخرطوم للخبراء السودانيين المغتربين في الخارج بغرض نقل
الخبرات والمعرفة والاستفادة من آرائهم وتجاربهم ، وقد عقد بعد عودته من الخرطوم جلسة
نقاشية في بيت السودان بفيينا تحدث فيها عن تجربته في المؤتمر والخبراء السودانيين
الذين التقى بهم وإنطباعاته الايجابية عن الحدث والمبادرة.
قصة سمعتها منه جعلتني أفكر أكثر من مرة ،
ما هذا الرجل الملاك؟ ، وهي قبل وفاته بأسبوع او اسبوعين حيث إجتمعنا في بيت
السودان بفيينا في مناسبة عزاء تخص أحد الاخوان، وبعد أداء صلاة المغرب التي تولي
فيها إمامتنا ، دعا للمغفور له بالرحمة والثواب وذكرنا ان الميت يحتاج لدعاء الحي
وقال أن ذلك لا يتطلب وجود صلة رحم او قرابة وقال انه شخصياً لسنوات عديدة يدعو
يومياً لسيدة مصرية كان يعرفها في مدينة الزقازيق في مصر التي درس الطب في جامعتها،
وقال ان علاقة طيبة ربطته بتلك السيدة الكبيرة في السن التي إستأجر منها شقة ضمن
طلاب سودانيين وقد إنتقلت فيما بعد الي ربها،
الا انه حافظ علي مودته لها بالدعاء لها يومياً بالرحمة والمغفرة. توقفت
كثيراً عند هذه القصة وهي بالتأكيد قصة مؤثرة ، تعكس في الأول أصالة معدن هذا
الرجل ، فقليل من البشر يحافظون على مودة الموتي، حيث تلعب المصالح الدور الأكبر في
تحديد نشوء علاقات البشر وإستمرارها . فبما انه لا مصلحة ترجي من ميت فأن الموتي هم
الأكثر عرضة للنسيان والتجاهل، ربما تستمر
الذكري والدعوات لفترات بسيطة لكن في
الغالب تتراجع تلك الذكرى او تموت وتنقطع المودة والدعوات للموتى. فحتي الآباء والأقربين
تتحول الدعوات لهم بعد مرور السنوات الاولى الي المواسم، من الجمعة الي الجمعة ومن
ثم من العيد الي العيد وهكذا الا من رحم ربي .
الراحل الدكتور محمد نجيب عيسى |
اما الرجل الآخر وهو المهندس الدكتور محمد
نجيب عيسي ، فهو واحد من رموز السودان وابنائه البررة الذين حملو إسمه في الأوساط
العلمية الدولية. كان من قلائل السودانيين الذي تبوؤا مناصب قيادية في الأمم
المتحدة حيث ترأس المكتب الاقليمي لمنظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية في إقليم
الجنوب الافريقي في بريتوريا، كما شغل مواقع قيادية في رئاسة المنظمة في فيينا كان
اخرها منصب مساعد المدير العام . كان علماً في تخصصه ، حيث كان يحمل شهادات عليا
في الهندسة الكيميائية وإدارة البيئة وتصفية البترول في جامعات بريطانيا وفرنسا، كما
منحته جامعة ستراتكلايد الاسكتدلنية درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم تقديرا لمساهماته
في نشر ثقافة الإنتاج الصناعي المحافظ على البيئة في الدول النامية كما كان استاذاً
زائراً في جامعات غربية متقدمة .
لم التق الدكتور نجيب الا في منتصف العام
2016 ، حيث كان خلال فترتي الأولى في النمسا مقيماً في جنوب افريقيا الا أنني سمعت
عنه الكثير الطيب الذي تحققت منه عند لقاءه . جمعتني به الفرصة في مناسبة تعريفية عن السودان نظمها إتحاد
السلام العالمي ووكالة القرن الافريقي تحت عنوان السودان حيث يلتقي النيلين الابيض
والازرق وهي حلقة ضمن سلسلة تعريفية عن دول القرن الافريقي في فيينا يتم فيها
التركيز على حقائق الجغرافية والسكان والثقافة والصلات الإقليمية ، و قدم فيها
مداخلة تعريفية عن السودان وسكانه ومميزاته
. كانت مداخلته علمية ومهنية ومحايدة . تجد فيه تواضع العلماء وحكمة الكبير . لقاءاتي
به علي قلتها كانت مفيدة وكم كنت أتمنى ان أجد الوقت الكاف للجلوس اليه . ثم
التقينا مرة اخرى ضمن حلقة تعريفية عن جنوب السودان ( الجزء الآخر من السودان
الكبير) . كان الرجل مهموماً بقضايا بلده رغم مسؤوليات المنصب الدولي الذي يشغله ،
فقد تحدث معي عن رغبته لزيارة البلاد واللقاء مع بعض المسؤولين للنقاش معهم في
مسائل تخص البيئة والتنمية، غير ان ظروف المرض لم تمكنه من إنجاز تلك الزيارة، كما سمعت منه إهتمامه وتشجيعه لمبادرات بعض الشباب من جيل ابناء المغتربين بالخارج في نقل تجارب متعلقة بادارة النفايات وتدويرها الي السودان .
يظل الكبير كبيراً في أهلك المواقف ، حتى
في آلامه ، فالسيد نجيب رغم مرارة المرض الصعب الذي ألم به الا انه كان متماسكاً
محافظاً على اتزانه وابتسامته وهدوءه لدرجة ان الكثيرين لم يكونوا يعرفون حقيقة مرضه
وخضوعه للعلاج . ذهبنا لتعزيته في مناسبة وفاة شقيقته التي سبقته قبل اشهر ،
فبالرغم ان الرجل كان نفسه يخضع للعلاج الا انه كان متماسكاً تبدو عليه علامات
الرضا والسكينة والاطمئنان .
اللهم تقبل ابراهيم ونجيب عندك وادخلهما
الجنة انك عفو كريم