السبت، 3 أبريل 2021

أبوجلمبو: أحد دروس الطبيعة في الطرافة والقدرات الأكروباتية

      أبوجلمبو حيوان برمائي طريف الشكل والملامح والقدرات. يتكون هيكله من شكل صندوق تحيط به عدد من الأرجل وهي 8 ارجل بالإضافة إلي مخالب يستخدمها كأيدي لنقل الطعام الي فمه المخبوء وفي الصيد والإقتناص والدفاع. تمكنه تعددية الأرجل بالتحرك في الاتجاهات الأربعة يميناً وشمالاً واماماً وخلفاً. تتكون أسرة ابوجلمبو من أنواع عديدة بعضها تعيش في المياه الضحلة، وبعضها في المياه الأعمق، بعضها في المياه المالحة وبعضها في العذبة، بعضها تقطن في الأعماق وبعضها تتخذ بيوتا جحورية في الرمال الشاطئية والساحلية التي تعود إليها بعد اصابة أرزاقها من خيرات البحر. تعيش مجموعات ابوجلمبو في تجمعات أسرية تتحرك معاً على الشواطيء في منظر ظريف وطريف.  لا تتوقف قدرات ابوجلبمو  الأكروباتية على التحرك في الاتجاهات الاربعة بل قدرته على السباحة في البحر جنبا الي جنب قدرته على الجري في اليابسة، فاذا داهمته كائنات البر يلجأ الي مياه البحر واذا داهمته كائنات البحر يجري غافلاً الي حيث الارض. ولا تنقضي عجائب صاحبنا هذا في الحياة البرمائية، والحياة في المياة العذبة والمالحة معاً  وسهولة الحركة بل يمتاز ايضاً بميزة أخرى لا تشاركها فيه أغلب كائنات البحر، فبعض كائنات البحر تعيش على لحوم بعضها البعض حيث يتغذي القوي على لحوم ودماء الضعفاء فيما تتغذي الصغيرة منها على الأعشاب وأما الأكثر ضعفاً فتتغذي على الطين، أما صاحبنا العجيب هذا فهو يتغذي على سلسلة طويلة من الاغذية التي تشمل اللحوم، والديدان، والقواقع، والأعشاب البحرية وربما الطين والتراب الذي يدفن نفسه فيه، ويستخدم في هذه المعارك مخالبة التي تساعده في القبض على الضحية وقتلها وتفتيتها وأكلها. أثناء بحثي عن صاحبنا في الإنترنت وجدت تعليقاً ظريفاً عن قدرات أبوجلمبو في مدونة زيزو زكريا بعنوان ابوجلمبو نايم على جانبو: ( هو كائن ظريف ولطيف له فوايد هامة للإنسان ولكن الذكر عينه زايغة لا تكفيه أنثى واحدة بل يضرب به المثل في تعدد الزوجات فتصل عدد زوجاته إلى 300-400 كابوراياية والأنثي تعلم جيداً  بأن أبوجلمبو  دائم الطواف على جحور الإناث ولذلك تحتفظ بجزء ليس بهين من حبوب لقاح الذكر في بطنها تقوم بإستخدامها عندما ينشغل  عنها (البيه) في رحلته اليومية للبحث عن الأناث فتقوم بتلقيح نفسها تلقيحاً ذاتياً (ولا الحوجة لابوجلمبو ولا اللي خلفوه). بغض النظر عن صحة التعليقات الواردة في هذا الإقتباس الذي لا يخلو من ظرافة إلا أنني لا أستغرب في اي قدرات إستثنائية لأبوجلبمو، ويمكن أن تشمل تلك الإمكانات القدرات الرجولية الزائدة او تصرفات الأنثي الجلمبوية في تجميد لقاحات الذكر لإستخدامها عند الحاجة. هؤلاء القوم بإمكانهم فعل كل الغرائب. على كل لقد ظل ابوجلمبو يعاني من من إستهداف البشر الباحثين عن الفحولة، مثله مثل بقية أنواع الحيوانات (المسكينة) التي إستهدفها الإنسان لهذا الغرض وهنا قائمة طويلة تشمل الكافيار، والجمبري، وبعض انواع القرش، وذكر الغنم ( التيس). أخشي ان يتجه البشر يوماً ما نحو الكلاب في  سعيهم نحو تعزيز قدراتهم الشهوانية . 

a href='https://www.freepik.com/photos/beach'>Beach photo created by wirestock - www.freepik.com</a

     تطلق على أنواع أبوجلمبو عدد من الأسماء منها سرطان البحر، السلطعون، أبومقص، كابوريا ويعتقد على نطاق واسع بأن لحومه تتميز بمزايا صحية عديدة نظراً لما تتضمنه من كميات مقدرة من الغذاء، والمعادن، والفيتامينات. في مناطق كثيرة من العالم تشكل أنواع أبوجلمبو وجبة شهية ومطلوبة من قبل البشر. لكن الحال يختلف في السودان حيث يعيش أبوجلمبو حياة آمنة الي حد كبير. هنا لا يشكل ركناً أساسياً في موائد الأطعمة، حيث ذهب إهتمام السودانيين الي الأسماك دون غيرها من الأحياء البحرية و بالتالي لا يشكل جلمبو هدفاً للصيادين. هذه الميزة لا يجدها في البيئات الأخرى. عندما كنت أشاهد الضحايا من قبيلة أبوجلبمو في أسواق بيع الأسماك في الدول التي زرتها أتذكر أشقائهم في السودان الذين يعيشون عيشة الحرية والأمان. كنت أفكر أحياناً في مخاطبتهم قائلاً: يامعشر أبوجلمبو أذهبوا الى بلاد السودان فإن هناك شعباً لا يتغذى على لحومكم، وبإمكاناهم على الأقل تأمين أنفسكم من الإبادة الجماعية وتعديات الإنسان وظلمه. في الساحل السوداني، يتخذ الناس عدداً من الأساطير الشعبية والقصص لحماية بعض أنواع الحيوانات. بعض هذه الأساطير تربط بعض الأنواع بالجن وحمل أرواح الموتي ، بعضها يتشائم من قتلها بحجة ان ذلك يتسبب في حدوث كارثة طبيعية او سوء الطالع للمعتدي. قصص قطط سواكن (الجنيات) ليست بعيدة عن هذه الخلفية التراثية، فالقصد من هذه الأساطير التربوية تأمين الحيوان من الإعتداء . ذكر الرحالة إبن بطوطة في رحلته الي الحجاز التي مر فيها بالساحل السوداني في 1325 م ( قبل اكثر من 690 عاما) أن الغزلان في ساحل سواكن لا تخشى من البشر فهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه لأن البجاة لا يأكلونها. في حالة أبوجلمبو، تقول الأسطورة الشعبية أن قتله يتسبب في حدوث أهوية وعواصف في البحر مما يهدد حياة الصيادين في البحر او تتسبب هذه العواصف في منعهم من العمل. بالتالي، يتحاشي الصياديون الإعتداء علي أبوجلمبو حرصاً على سلامتهم ومصالحهم. عندما يعلق ابوجلمبو بسبب  (شلاقته) في شباك الصيد التي ينشرها أصحابها لصيد الاسماك،  يضطر الصياديون لبذل جهود إضافية لانقاذ حياته، وهي مهمة عسيرة نظراً لتعدد أرجله، وعدوانيته، وإستخدام مخالبه في العض، وقدرته على الحياة في المياة وخارج المياة. عندما تجتذب طرافة أبوجلمبو وقدارته وطريقه حركته الأطفال ويحاولون مطاردته يتدخل الكبار لحمايته من  تلاعب الأطفال.

     في حياتنا العادية، تذكرني بعض تصرفات البشر بحالة صاحبنا، فبعضنا لديهم القدرة للجري في كل الإتجاهات وأكل كل أنواع الأطعمة، والحياة في كل الظروف لكنهم بالتأكيد لا يمتلكون براءة أبوجلمبو ولا يسابقونه في مهاراته وقدراته.

السبت، 20 مارس 2021

المعركة الأبدية بين القطط والفئران: هواجس الخوف والأطماع وصراع البقاء

      تشغل قصص صراعات الحيوان حيزاً مقدراً في تراثنا العربي والإفريقي. وتظهر هنا قصص الثنائيات المتشاكسة والمتصارعة مثل الثعلب والدجاج، والقط والفأر. هذه القصص تشكل مادة شيقة للأنس او إستخلاص الحكم وأخذ الدروس او التربية والتنشئة والتثقيف و قصص وحكاوي الأطفال. تعتبر قصص الثنائي القط والفأر من أروع القصص وأكثرها تردداً. وتنحو هذه القصص دوماً إلى تسليط الأضواء على السلوكيات التي تحكم العلاقات بين القطط والفئران ومحاولة مقارنتها بتصرفات البشر. تشير بعض هذه القصص الي أساليب القطط في الإيقاع بالفئران و إستعمال الفئران لذكائها في تفادي مكر القطط وقسوتها، كما تشير الي نواحي أخرى مثل الميل الغريزي للقطط في ممارسة الإعتداء على الفئران التي لاحول لها ولا قوة، ولا تملك من المخالب والأدوات ما يمكنها من الدفاع عن نفسها. يدخل القط معركته ضد الفار دون خوف من الخسائر علي جسده وإمكاناته نظراً لضعف الخصم وهوانه. فإن أمسك بالفار فقد تحققت له مصلحة وقتية بسد رمقه، وإن فشلت مطاردة واحدة فبإمكانه التخطيط لمطاردة أخري. قد يفشل في الإمسك بالفأر لكن بالطبع سوف لن تتمكن جماهير الفئران في التصدي لجبروت القط وعنفه وقسوته وإن اجتمعت على قلب رجل واحد. في هذه الحالة لا يوجد خيار أمام الفئران غير إستغلال الذكاء في المناورة، والإختفاء، والغش، والجرى للمحافظة على حياتها وحريتها في مواجهة هذا الخصم صاحب الأسنان والمخالب والنظرات الحادة. من النماذج المعتادة هنا قصة القط توم والفار جيري ومطارداتهما اللانهائية و ما تمثله من مشاهد ممتعة ظلت تجتذب أطفال العالم جيلاً بعد جيل، وتحافظ على تسمرهم أمام شاشات التلفزيونات وهم يتابعون الأفلام الكرتونية التي تعرض عدوانية توم وذكاء جيري ومرواغات الأخير وخططه. في السياسة والصراع، توصف المعارك غير الجادة بين الخصمين بلعبة القط والفأر في إشارة الي سلوك القط في التلاعب بالفأر دون القضاء عليه، اي إطلاق سراحه ثم ملاحقته للقبض عليه مرة أخرى، لتأكيد تفوقه وسيطرته وقدرته، وكذلك إستعمال الخصم الأضعف لأساليب إستفزاز الخصم الأقوى دون إلحاق الأذي الكبير والمؤلم به بغرض إخطاره بقدرته على الفعل والتأثير. 

  سأحاول هنا تقديم بعض نماذج القصص والتي تدور حول علاقات القط والفار والمقولات المرتبطة بها:

 لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط: الحلول غير الواقعية:

تطرح المقولة الشائعة ( لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط) في مواجهة مقترحات الحلول غير الواقعية في التصدي لعدو قوي يمتلك القدرة على إلحاق الأذي الجسيم. ترجع قصة العبارة إلي التراث الإغريقي وفحواها  أن مجموعة من القطط عقدت إجتماعاً لمناقشة مشكلتهم مع قط قاسي أحال حياتهم الي جحيم وتسبب في حرمانهم من الخروج والبحث عن أرزاقهم بعد أن قضي على حياة عدداً منهم. طرحت خلال الإجتماع عدد من المقترحات والحلول منها أهمية التعرف على الوقت الذي يخرج فيه للإصطياد لإتخاذ الإحتياطات اللازمة. إقترح أحد الشباب تعليق جرس في رقبة القط للمساعدة في التعرف على مجيئه وحركته لإتخاذ الإحتياط الواجب في الإختفاء. وجد المقترح التأييد من الحضور لكن إعترض عليه أحد شيوخ الفئران المشتهرين بالحكمة والتجربة الذي توجه بحديثه للحضور متسائلاً: لكن من الذي سيعلق الجرس في رقبة القط، فبهتوا جميعاً ولم يتجرأ أحد منهم للتطوع بالمخاطرة بحياته في مواجهة القط. 


 حج القط وتوبته: صعوبة تخلي المجرم عن سلوكه الإجرامي 

تروي القصة في إطار التأكيد على صعوبة تغيير السلوك الإجرامي لمعتاد الجريمة. القصة من التراث البجاوي وهي مترجمة من لغة البداوييت. تقول القصة:  قرر القط في لحظة من لحظات حياته التوبة عن الحرام، ووقف التعدي على الآخرين، فذهب حاجاً لبيت الله الحرام. بعد العودة السالمة من الرحلة الميمونة، توافدت الحيوانات الأخرى زرافاتاً ووحداناً إلي دار القط مقدمين له التهاني بزيارة الأراضي المقدسة مع الدعوات بقبول الحج وغفران الذنوب. إستدركت جموع الحيوانات غياب شخص مهم عن إحتفالات التهنئة وهو الفأر لا سيما وأنهم كانوا يتوقعون وجوده في مقدمة المحتفلين بتوبة القط نظراً لتضرره البالغ من أفعال القط. هنا تدخل (الأجاويد) وبعد جولات من المساعي الحميدة نجحوا في إقناع الفأر بالذهاب الي دار القط لتقديم التهاني. ذهب صاحبنا متردداً وعلى إستحياء وبعد وصوله للدار جلس بعيداً عند المدخل، وقدم تهنئته من على البعد ثم غفل راجعاً لمقره على وجه السرعة. عاد (الأجاويد) مرة أخري للسيد الفأر مستفسرين عن إنطباعاته عن الحاج التائب. بعد تفكير طويل، قال إن صاحبكم (القط) بالفعل ذهب الى بيت الله الحرام، وأعلن توبته أمام الله لكنني شخصياً لم أطمئن لنظراته، فهي ذاتها التي كنت أعرفها من قبل، لم تتغير ولم تتبدل ولم أرى أثراً للإيمان والرحمة في عينيه.

القط متهرشاً بالفأر: لا تكشح التراب في وجهي:

العبارة مأخوذة من قصة شائعة تقول أن القط والفار إتخذا قارباً في رحلة بحرية وبينما هما في وسط الماء، إستبدت بالقط الرغبة في إختلاق معركة مع الفأر فقال له بلغة صارمة وعنيفة: لماذا تكشح التراب في وجهي، فرد الفار قائلاً: إننا في قارب في البحر فأين أجد التراب حتي أكشحه في وجهك. فإنقض عليه القط متهماً أياه بقلة الأدب والتطاول والإفتراء وكثرة الكلام. تروي القصة في سياق الإشارة إلي الشخص الذي يختلق سبباً لإشعال المعارك مع طرف آخر دون توفر ظروف منطقية او موضوعية تدعو الي ذلك الإشتباك.

الفأر الذي فقد حياته نتيجة لطمعه:

تروى القصة للإشارة الي سلوك الطماعين والإنعكاسات السالبة لمحاولة التكسب أكثر من الحاجة على الإنسان. تقول القصة كان الفأر يسكن بالقرب من مخزن مليء بكل ما لذ وطاب من الأطعمة التي يشتهيها الفأر، و كان هذا المخزن يخضع لحراسة قط شرس لايسمح لاي كائنات أخري بالإقتراب والسرقة. بعد فشل المحاولات في الوصول إلي المخزن، قرر الفأر إتخاذ سبيلاً أكثر صعوبة، وذلك عبر حفر نفق أرضي. بعد جهد جهيد وقضاء الأيام والليالي في الحفر، تمكن من الوصول إلى أرضية المخزن و فتح فتحة صغيرة. أصبحت هذا الفتحة تسرب له يومياً حبات من القمح تكفي لسد رمقه وتعفيه من مصاعب البحث عن الغذاء وأصبح رزقه يأتيه كل يوم. بعد فترة من الراحة والعيش الرغد والسهل، قال الفأر لماذا لا أوسع هذه الفتحة وأدخل الي المخزن وأحصل على كمية أكبر ومتنوعة من الطعام. وعمل على توسيع الفتحة، وتمكن من الحصول على طعام أوفر لكن تسببت هذه الفتحة في فقدانه لحياته. ففي أحد جولاته التفقدية داخل المخزن، إكتشف القط وجود فتحة في أرضية المخزن فدخل عبرها ليلج الي نفق الفأر حيث وجده فقضي عليه. ( القصة مأخوذة من المصادر المفتوحة في الإنترنت مع التصرف في الصياغة).

  
 
freepik.com ملحوظة: كل الصور مأخوذة من الأنترنت

الأحد، 10 يناير 2021

النخلة العنيدة


تقف هذه النخلة وحيدة وبعناد وشموخ، علي نقطة في الساحل السوداني بمرسي تباديب (شيخ أكد)، جنوب محمدقول. تمتد جذورها في مياه البحر المالحة، تستقبل صدى أمواجه، وتتمايل بهدوء عندما تلفحها الرياح القادمة من البحر أو الجبال.  لا أعرف تاريخ ميلادها بالتحديد لكن شاهدتها شجيرة في تسعينيات القرن الماضي ثم رأيتها في العشرية الأولى للألفية، فتاة فارعة القوام بكل جمالها تنتصب  بشموخ على شاطيء البحر، تفيض بالخصوبة، و يتساقط منها رطباِ جنياً حلو المذاق لم يتأثر البتة بمرارة الظروف المحيطة بها. لقد حمتها العناية الإلهية من تعدي الجمال التي تسرح في السهل الساحلي وتغوص أحيانا بأرجلها في مياه البحر لتقتات من أشجار المانجروف الموجودة في هذه المنطقة. 
علمتني هذه النخلة عدد من الدروس. أولها إمكانية تحدي ومقاومة ظروف الطبيعة عبر الإصرار والعزيمة. لقد قاومت هذه النخلة ملوحة الأرض وملوحة البحر الأحمر وهو واحد من أكثر بحار العالم ملوحة، و لم تسمح بأن تؤثر هذه الملوحة علي حياتها او إنتاجها من البلح. الدرس الثاني هو أن  الأرزاق كلها ومنها الأعمار بيد الله وليست بيد اي مخلوق، فهو الذي يعطي وهو الذي يحمي وهو الذي يأخذ عندما يريد أن يأخذ.