علي الرغم من الإهتمام السياسي والقانوني
والمجهود الأكاديمي والبحثي الذي تناول موضوع الفساد وآثاره المدمرة علي الاقتصاد والاستثمار والتجارة
والإخلاق والمجتمع والادارة العامة، الا ان ذلك لم يؤد الي تطوير صك دولي لمكافحة
الفساد الا مؤخراً وهو هذه الاتفاقية التي تعتبر الصك الأممي الوحيد في مجال
مكافحة الفساد، وبذلك تعتبر حدثاً فريداً في نوعها. إعتمدتها الجمعية العامة للأمم
المتحدة بتاريخ 31 اكتوبر 2003 وفتح باب التوقيع عليها في 14 ديسمبر 2003 ودخلت
حيز النفاذ في 14 ديسمبر 2005 . وتحظى حالياً بعضوية أغلب دول العالم فيما تبقت
بعض الدول القليلة جداً التي لم تنضم اليها. الجدير بالذكر أن ثمة اتفاقيات اقليمية
معنية بمسائل الفساد قد تم إقرارها قبل الإتفاقية الأممية ومنها الإتفاقية الأوروبية
وإتفاقية الإتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته، والإتفاقية العربية لمكافحة
الفساد والإتفاقية الأمريكية.
تقدم الإتفاقية إطاراً مرجعياً لمكافحة
الفساد، كما توفر مرشداً ودليلاً للحكومات لتبني مايلزم من سياسات وترتيبات لتحقيق
ذلك. وتعالج الإتفاقية في موادها أشكال
الفساد المختلفة مثل الرشوة، والإختلاس، وغسل الاموال وخلافه، كما تعالج المسائل
والإجراءات المتعلقة بالوقاية من الفساد ومكافحته بما في ذلك الكشف، والتعاون
الدولي وإسترداد الموجودات والأصول. وتضم الإتفاقية 71 مادة موزعة الى 8 فصول هي
الأحكام العامة، والتدابير الوقائية، والتجريم وإنفاذ القانون، والتعاون
الدولي، وإسترداد الموجودات، والمساعدة
التقنية وتبادل المعلومات. وتتضمن الاتفاقية مواد إلزامية وأخرى إختيارية حيث
تستخدم عبارات ملائمة لاي نوع من هذه المواد. ففي المواد الإختيارية يتم إستخدام
عبارات خفيفة حيث تبدأ بكلمات مثل: يجوز، ويدعو، وتنظر كل دولة في إتخاذ ....،
فيما يتم إستخدام كلمات قطعية في المواد الإلزامية من شاكلة تتخذ وتقوم..... الخ.
هناك جملة تحديات تواجه تطبيق بنود هذه
الإتفاقية وإنزال مضامينها على أرض الواقع. ومن أهم هذه التحديات توفر القدر
المطلوب من الإرادة السياسية لدي السلطات والحكومات سواء كانت في دول العالم
المتقدم او العالم الثالث في تنفيذ بنود الاتفاقية لا سيما المسائل المتعلقة
بالتعاون الدولي وإسترداد الأموال المسروقة، ومكافحة غسل الأموال والمتاجرة
بالنفوذ، وتمويل الأحزاب السياسية. ومن أكبر التحديات ايضاً مسألة تعريف الفساد
نفسه او تعريف بعض ممارساته، فقد خلت الإتفاقية من تقديم تعريف للفساد، وذهبت
لتسمية بعض ممارسات الفساد مثل الرشوة وغسل الأموال. فيما يتعلق بغياب توصيف واضح
لبعض ممارسات الفساد وتسميتها كجرائم في كثير من قوانين الدول نجد ممارسات
المحاباة، والمحسوبية، وإستغلال العلاقات الشخصية في تمرير المصالح المالية وغير المالية،
و قضية التصالح مع الممارسات الفاسدة والسكوت عنها والتستر عليها وإخفائها من قبل
المسؤولين وموظفي الدولة وصناع القرار. كما تظهر هنا إشكالية تجميد القوانين من
حيث التطبيق اي غياب تفعيلها لأسباب منها صعوبة الحصول علي الأدلة او تعقيدات
تتعلق بتقديمها او التحقيق بشأنها مثل جرائم تبييض الأموال المتأتية من الفساد.
ومن التحديات التي تواجه المقاربة العقابية صعوبة القضاء علي الفساد الصغير لتعذر
الكشف عنه وإثبات وقوعه في كثير من الحالات، فمعظم التحقيقات القضائية ذهبت لإتجاه
مكافحة الفساد الكبير لسهولة جمع الأدلة والتدقيق فيها. ومن التحديات التي تواجه
التطبيق ايضاً قضية حماية الموظف العام من التشهير والأذى النفسى في مرحلة قبل
إثبات الإتهام عليه، فبدء التحقيق يقود إلى تشويه سمعة الموظف المتهم ولا شك أن
ذلك يؤثر عليه كما أنه يؤثر على بقية الموظفين ويحد من حماسهم وولائهم للعمل
والمهنة بما يقود لضعف إنتاجهم.
أفردت الاتفاقية فصلاً كاملاً للتعاون بين
الدول في المسائل الجنائية التي تشمل عدد من المجالات منها تسليم المجرمين، ونقل
الأشخاص المحكوم عليهم، والتحقيقات الجنائية والمدنية، ونقل الإجراءات الجنائية،
وإنفاذ القانون وتضييق فرص الإفلات من العقوبات، وإسترداد الاموال والأصول
المكتسبة بطرق غير شرعية الي بلدانها الأصلية. وتنبع أهمية هذا الفصل من واقع تطور
الجريمة في عصرنا الحالي لا سيما جرائم الفساد نسبة لنجاح كثير من ممارسي الاجرام
في التحايل علي القوانين والنفاذ عبر الثغرات في نصوص القوانين وآليات تنفيذها من
بلد لآخر. فكثير من الدول تضع العراقيل أمام إستعادة البلدان الفقيرة لأموال
المسؤولين الفاسدين الذين نجحوا في حفظ أموالهم في بنوك خارج بلدانهم. ومن
التحديات التي تواجه قضية مكافحة الفساد، غياب الشفافية المتعلقة بإيداع الأموال
وحركتها نتيجة التمسك الشديد بمباديء السرية المصرفية في بعض الدول مما سمح بتوفير ملاذات آمنة للأموال المشبوهة. كما تظل
قضية إختلاف النظم السياسية والقانونية والمالية إحدى التحديات التي تواجه تطبيق
الإتفاقية فلا زالت كثير من العصابات النشطة في قضايا الفساد وغسل الأموال تستثمر
في إختلاف النظم الإدارية والقانونية. كما تدخل الإعتبارات السياسية في التعامل
بين الدول حيث تشترط بعض الدول الإلتزام الحرفي بمباديء المعاملة بالمثل وضرورة
وجود إتفاق ثنائي او إقليمي وعدم الإستناد على الإتفاقية كاساس للتعاون الدولي في
المجالات الجنائية مثل تبادل المعلومات الإستخباراتية وإجراء التحقيقات المشتركة
وتنفيذ الاجراءات القانونية.
تشكل مسالة إسترداد الموجودات ( الأموال
المسروقة) أهم مميزات هذه الإتفاقية حيث افردت باباً كاملاً عن هذا الجانب يتناول
موضوعات منع وكشف العائدات المتأتية من الجريمة، تدابير الإسترداد المباشر
للممتلكات، وآليات إسترداد الممتلكات من خلال التعاون الدولي، والتعاون الدولي
لأغراض المصادرة، والتعاون الخاص وإرجاع الموجودات والتصرف فيها ووحدة المعلومات
الإستخبارية المالية، والإتفاقات والترتيبات الثنائية والمتعددة الأطراف. تدعو المواد الدول لاتخاذ جملة من التدابير والإجراءات
لتسهيل إستراداد الموجودات وكشف العائدات المتاتية من الأنشطة الإجرامية وآليات
حجزها ومصادرتها وإجراءات التعاون الدولي المتصل بها وتأمين النزاهة والدقة في
النظام المالي. يقدم الفصل توجيهات وتوصيات بشأن تعزيز النظام الاداري والمالي
للمؤسسات ذات الصلة بالمسائل المالية والعدلية والقضائية.
تجدر الإشارة إلى أن الإتفاقية منحت الدول
متلقية طلبات المساعدة القانونية وتنفيذ إجراءات إسترداد الموجودات عدداً من
الحقوق التي تتسق مع حقوق السيادة ولكن قد تشكل عائقا في تنفيد بنود الإتفاقية.
ومن هذه الحقوق التمسك بالإجراءات المنصوص عليها في القوانين الوطنية والحق السيادي
في التعامل مع الطلبات الواردة إليها المتعلقة بالمصادرة والحجز او رفضها في حال
عدم توفر أساس كاف وأدلة مقنعة او في حال أن الممتلكات محل الإتهام ذات قيمة
ضعيفة. كما يجوز لها إشتراط وجود إتفاقية ثنائية للتعاون وإجبار الدولة طابلة
المساعدة في الدخول في عملية تفاوضية للتوصل إلى إتفاق جديد وغالباً تتمكن من إدخال
شروط متعلقة بالإجراءات القضائية والقانونية وترتيبات التصرف النهائي في الممتلكات
المصادرة. وهذه النقطة تمنح مدخلاً للدول المتلقية لطلب المساعدة والتعاون لتحديد أوجه
صرف المبالغ المصادرة الأمر الذي تعتبره الدول منبع هذه الأموال إتجاه للتدخل في
شؤونها وأموالها. كما يجوز وفق الإتفاقية للدولة متلقية الطلب إقتطاع جزء من الأموال
المصادرة نظير نفقات عمليات التحقيق والملاحقة والإجراءات القضائية. وتحتفظ الدول
بحقها الطوعي غير الملزم بنقل بيانات ومعلومات عن تحقيقاتها الجنائية لاي دولة اخرى
بغرض مساعدتها في التعرف علي الأموال المشبوهة والعائدات الجرمية ذات الصلة بها
وهنا تدخل إعتبارات مستوى العلاقات بين الدولتين وحجم الروابط والمصالح التي
تجمعهما.
بصفة عامة يمكن القول، أن الإتفاقية أحدثت
زخماً كبيراً في الإلتفات لمخاطر الفساد وأدواته وأساليبه، ووجهت الأنظار إلى الآثار المدمرة للفساد على التنمية والنمو
والحكم الراشد، وتعزيز الإدراك للطبيعة العابرة للحدود لجريمة الفساد. كما ساهمت
في دفع التعاون الدولي في قضايا إسترداد الموجودات ومكافحة غسل الأموال. إلا انه
الطريق لا زال طويلاً أمام تنفيذ بنودها ومضامينها ولازالت هناك حاجة متزايدة لتعزيز
التعاون الدولي في محاربة الفساد في ظل التحديات التي تفرضها العولمة وتزايد
عمليات إنتقال الأفراد والأموال والأفكار عبر الحدود.