إستانبول بكل اسمائها القديمة والجديدة مدينة لا يمكن وصفها الا بكونها
ملتقي الشرق والغرب ، فهي مدينة أوروبية بجغرافيتها وتاريخها،
ولكنها مدينة شرقية بسكانها وثقافتها. مدينة تعني الكثير للكل . للعرب والمسلمين فهي عاصمة
الخلافة الإسلامية العثمانية ، اي المهد الأخير للكيان الجامع قبل ظهور الدولة
القومية ، فالخلافة بغض النظرعن صحة وواقعية وفاعلية نظامها السياسي والاداري الا
انها شكلت رمزية في تاريخ المنطقة يختلف
الناس حولها ويتفقون . اما أهل أواسط آسيا حيث جذور تركيا العرقية ، وتركستان
التاريخية فلن ينسوا ان بعض أجدادهم قادوا تحولاً ناجحاً في تاريخهم ووسعوا نفوذهم
الي الغرب حيث تركيا الحالية. اما لأهل
اوروبا ستظل استانبول المدينة الأوروبية التاريخية بحكم الجغرافية وبحكم آثار
التاريخ البيزنطي والتي ستظل حية وتحكي عن تاريخها القديم. ولأهل روسيا الذين لن
يتجاهلوا حقيقة ما يمثله البحر الأسود الذي يربطهم بالمياه الدافئة والعالم عبر
استانبول حيث مضيق البسفور وبحر مرمرة ومضيق الدردنيل وصولاً لبحر ايجة والمتوسط .
وهذه القيم المختلفة هي التي تفسر التزايد
الكبير لعدد السياح الزائرين للمدينة مع حقائق
أخرى منها كرم وحسن ضيافة الأتراك وذكائهم المهني والتجاري الذي مكنهم من تحويل كل
هذه المزايا لعناصر للجذب السياحي وفي تسويق مدينة مهمة في مقام استانبول.
المدينة مكتظة بشكل كبير حيث يصل عدد
سكانها الي اكثر من ال15 مليوناً من الأنفس ولكنها منظمة بالشكل الجيد فحالها اشبه
بحال العاصمة غير المعلنة في واقع المدن التي تتفوق في اهميتها ووزنها علي عواصم
بلدانها مثل جوهانسبيرج في مقابل بريتوريا في حالة جنوب افريقيا وابوجا في مقابل
لاغوس في حالة نيجيريا وهنا تتفوق استانبول علي
انقرة كثيرا في اهميتها ووزنها وقمتها وقوتها وعنفوانها وبل في سحرها
السياحي. من السهولة التحرك بين أجزاء المدينة المختلفة عبر الطرق والجسور
والأنفاق. الملاحظة المهمة هو القدرة الهائلة في إدارة الخدمات والنظافة في هذه
المدينة المكتظة وهي ميزة يجب ان تجد الإشادة.
ميدان تقسيم هي المنطقة التي إخترتها لسكني
في الفترة القصيرة التي قضيتها بالمدينة حيث استقليت فندقاً بالقرب من الساحة.
حاولت أن أعرف معني كلمة تقسيم التي تنطق تاكسيم في التركية فوجدتها تعني منطقة
تقسيم المياه ، فالمعني هو ذات المعني العربي للكلمة. من الملاحظ وجود عدد كبير من
الكلمات العربية في الدارجية التركية، وتسمعها علي ألسن الاتراك خصوصاً الكلمات
ذات الطابع الديني وعبارات المجاملات . حدثني أحد سكان إستانبول أن الكلمات
العربية كانت تشكل النسبة الأكبر في مفردات اللغة التركية العثمانية، وهي اللغة القديمة
التي كانت تستخدم في المكاتبات في الإمبراطورية العثمانية، وقد تعرضت تلك اللغة
للمراجعة في إطار سياسات اتاتورك الثقافية
في الفترة التي أعقبت إعلان الجمهورية التركية . فقد لاحظت ذلك في الكتابات علي جدران القصور
العثمانية حيث كتبت بعض العبارات والأشعار التي يمكن لقاريء اللغة العربية التعرف
بسهولة على معانيها العامة.
نصب الجمهورية في ميدان تاكسيم |
في مدخل ميدان تقسيم يقف نصب الجمهورية الذي يؤرخ لرموز الدولة القومية التركية ومنهم
الزعيم مصطفى كمال اتاتورك . فهؤلاء الرجال لا شك انهم يحظون باحترام الشعب التركي
. قد يكونوا إتخذوا مواقف قوية في لحظات تاريخية ، او كانوا اوفياء للمباديء
والقيم التي دافعوا عنها، او قدموا من التضحيات مايكفي بان تظل ذكراهم محفورة في
ذاكرة الشعب . إسم اتاتورك وهو لقب منح للأب المؤسس للدولة القومية التركية الحديثة
مصطفى كمال ومعناها أب الاتراك ستجده يتردد كثيراً في تركيا. عند
زيارتك لتركيا سينتظرك في إسم المطار الأكبر في البلد ، كما ستجد
صورته علي العملة التركية ( الليرة) . قرأت في أحد كتب الاستاذ عباس محمود العقاد
تمجيداً للشخص حيث يصفه بالزعيم الكبير. فأتاتورك كغيره من الزعماء السياسيين الذين
يختلف الناس عليهم بين كاره ومحب كرد فعل لسياساتهم وافكارهم ومواقفهم. ربما ينظر
المختلفين معه الي تبنيه لسياسات هدفت لقطع صلات تركيا بالعرب والمسلمين ومنها
تبني المباديء العلمانية المتطرفة ( فالعلمانية كالتدين يمكن أن تصل لمرحلة التطرف)
، ومنع إستخدام الحرف العربي في الكتابة التركية، وإحياء اللغة التركية الأصلية
علي حساب التركية العثمانية التي تعرضت لعمليات واسعة من التنقية والتصفية ، وتصفية
المؤسسات الدينية التعليمية، ومنع ارتداء الحجاب. فيما يركز محبيه على جوانب اخرى
في سياساته . فالرجل لا شك انه زعيم صنعته ظروف واقعية والا لما وجد الالتفاف
والسند من الجمهور التركي ، ولاشك انه
ساهم في معالجة مسائل مهمة لم تستطع الخلافة العثمانية في معالجتها وهي في طورها
الأخير ، كما إنه نجح في التصدى لمخاطر كانت تهدد تركيا عقب الهزيمة أمام جيوش
الحلفاء، عبر التمكن من ملء الفراغ التي خلفه إنهيار الإمبراطورية العثمانية
بإعلان الجمهورية وحماية الكيان التركي في لحظة ضعف تاريخية كانت فيها البلاد
واراضيها مكشوفة امام الاعداء والخصوم والمنافسين. فالرجل حكم تركيا وترك بصماته
رغم انه غادر الحياة شاباً لم يزل في مرحلة العطاء حيث توفي عن عمر 57 عاماً. فقرائتنا
لمجمل الاحداث التي ارتبطت بالحرب العالمية الاولي ، وحالة الانقسام الحاد في
مواقف العرب والاتراك الي ضدين او خصمين في تلك الحرب تمنحنا تفسيراً لحالة الشك
والمرارة التي انتابت الاتراك تجاه العرب، وزاد ذلك مرارات الهزيمة وهي الظروف
التي سمحت باصلاحات اتاتورك الموجهة ضد الثقافة العربية والاسلامية في ظل قبول او
خنوع من الشعب في تلك الفترة.
احدى بوابات قصر طوب قابي |
من أهم معالم استانبول قصر طوب قابي ( قصر
الباب العالي) ، وهو مقر السلاطين العثمانيين في فترات تاريخية طويلة. وطوب قابي
تعني قصر المدفع في اللغة التركية ، كلمة طوب مفردة مألوفة في السودان لاسيما في
منطقة البحر الاحمر حيث تجد كثير من الأسر التي ترجع جذورها للاتراك ويلقبون محلياً
بالطوبجية ، فكلمة طوبجية تعني جنود
المدفعية ، فربما كان الجنود الاتراك في الجيوش العثمانية يحتفظون بادارة المدافع باعتبارها أقوى
الاسلحة في تلك الفترة . يقع القصر في موقع متفرد على هضبة عالية تطل علي بحر مرمرة ومضيق البسفور
، فالموقع الشاعري الرهيب يمكن الزائر من رؤية اطراف المدينة واجزائها الاوروبية
والاسيوية . يتضمن المبني عدد من المواقع الاثرية مثل غرف الحكم والسكن للسلاطين
واسرهم . من الاشياء التي تسترعي إنتباه الزائرين الغرفة الخاصة التي تعرض بداخلها
بعض المقتنيات التاريخية ومنها بردة النبي محمد ( صلي الله عليه وسلم) وشعيرات من
شعر لحيته موضوعه في قارورة صغيرة، كما تجد عصا سيدنا موسى عليه السلام، وسيف
الامام علي بن ابي طالب ( كرم الله وجهه) . للمكان هيبته، و تنتابك مشاعر الرهبة
وانت تدلف هذه الغرفة التي لا يسمح فيها بالتصوير ويفرض علي النساء تغطية ارجلهن
تقديرا للمكان المقدس او الذي يحتوي آثار مقدسة. السؤال الذي يدور بذهن الزائر هل
هذه الآثار حقيقية ؟ ام مختلقة ومصنوعة . لا أملك إجابة ولكنني أظن أنها حقيقة
لاسيما وان الراوية السائدة تشير الي نقل احد السلاطين العثمانيين في فترة سطوتهم لهذه
الاثار من بلاد الشام الي تركيا لتأكيد مركزية دولته وإهتمامها بالآثار الدينية
وهو السلطان سليم الاول.
متحف آيا صوفيا |
متحف آيا صوفيا معلم إستانبولي بامتياز
يحرص الكل للوقوف عنده لعدة أسباب أولها لقيمته التاريخية وحكايته عن تاريخ
المدينة بما في ذلك التحول الكبير الذي حدث بتمدد الاتراك الي هذا الشطر الاوروبي
من تركيا الحالية والتحويل الدرامي للكنيسة الي مسجد علي يد السلطان محمد الفاتح
في 1453 ميلادية ومن ثم مرة اخرى لمتحف حيث هي الان علي يد اتاتورك في العام 1935
، وثانيا لفخامة المبنى وجماله حيث يتقاطر الزوار لاخذ الصور التذكارية أمامه وبين
جدرانه. بنيت كنيسة ايا صوفيا علي يد الامبراطور الروماني جستنيان في العام 532
ميلادية وسميت بهذا الاسم الذي يعني مكان
الحكمة المقدسة . من الملاحظ ان العثمانيين رغم تحويلهم غرض المكان من كنيسة الي
مسجد لكنهم لم يقوموا بتحطيم الرسومات الكنسية في المسجد ، فقط اضافوا عليها بعض
الرموز المعمارية الاسلامية وهي المحراب والمأذن الاربعة علي الطراز المعماري
التركي واسماء النبي الكريم واسماء بعض صحابته وايات من القرآن الكريم وهي نقطة
جديرة بالملاحظة وبل التقدير لان التقاليد الشائعة لدي المسلمين السنة هي تحريم
تعليق الصور والرسومات في المساجد ويبدو ان حسن تقدير المعمار وفنياته كان متوفرا
لدي القادة الاتراك وبالتالي قاموا بتغطية هذه الرسومات بدلاً من ابادتها وتم
الكشف عنها مرة أخرى وإستخدامها بعد تحويل غرض المبنى من مسجد الي متحف في اطار
اصلاحات اتاتورك في 1935 . لا زالت الإتجاهات الدينية الإسلامية والمسيحية تتمحور
حول هذا المبني في محاولة لاصباغ هوية محددة له ، ففي زيارة لبابا الفاتيكان
للمتحف قام باداء طقوس دينية في إشارة الي انها كنيسة ، كما حاولت مجموعات منظمة من الاتراك بتجميع
توقيعات لاعادة تحويل المتحف الي مسجد مرة اخري وقاموا باداء صلاة الفجر فيه ، الا
ان السلطات التركية رفضت الدعوات لاعادة إستخدام المتحف كمسجد وطرح الرئيس التركي اردوغان
هنا رأياً منطقيا حينما قال ان لا توجد حاجة لتخصيص مسجد آخر في هذه المنطقة التي
يتوسطها مسجد السلطان احمد الكبير وهو يقع في مقابلة متحف آيا صوفيا ويتسع لكل
زوار المكان على كثرتهم . الملاحظ ان محاولات تغيير المتحف الي مسجد مرة اخري
قوبلت بتعليقات رافضة من دول ذات صلة تاريخية بالمكان وهي اليونان وروسيا.
المسجد الازرق ، اي مسجد السلطان احمد احد
اهم معالم استانبول التي يحرص اي زائر للوقوف عندها والتقاط الصور وتذكر التاريخ
العثماني . وتحمل المنطقة الاثرية التي تشمل قصر توب قابي ومتحف ايا صوفيا وغيرها
من المعالم اسم منطقة السلطان احمد. المبني له من الفخامة ما يكفي وتحيط به ستة
مآذن علي الطراز المعماري التركي وهي مآذن اسطوانية الشكل مخروطية القمة ويمكن
رؤيتها في اغلب مساجد تركيا. يقال ان السلطان احمد و للتغلب علي الإنتقادات التي
طالته بسبب بناء مسجد بستة مآذن بذات عدد مآذن المسجد الحرام بمكة المكرمة قام
ببناء مئذنة سابعة في المسجد الحرام .
مضيق البسفور يمنح استانبول الكثير من
جمالها وألقها حيث تقع المدينة علي ضفتيه، وتقع أهم المعالم السياحية علي ضفتي
المضيق . ويحرص أغلب زوار المدينة على أخذ جولة في المضيق عبر مراكب مخصصة لهذا
الغرض وتنطلق في جولات ترفيهية و تعريفيه تقدم خلالها الوجبات التركية الدسمة وعروض
الرقصات الشعبية التقليدية . يربط طرفي المدينة عبر المضيق ثلاث جسور معلقة ورائعة
البناء الهندسي. وتحمل هذه اثنين من هذه الجسور اسماء عظام السلاطين العثمانيين وهم محمد الفاتح والسلطان سليم فيما يحمل الجسر
الأقدم اسم جسر البسفور ويسمي ايضا بجسر شهداء 15 يوليو. هذه الجسور العالية بنيت
على مستويات تسمح بمرور السفن الكبيرة من تحتها فضلاً ان كونها تمنح المدينة منظراً
سياحياً رائعاً. بالاضافة الي الجسور المعلقة، يرتبط طرفي المدينة بنفق يمر من تحت
مضيق البسفور.
مشهد من مضيق البسفور |
صورة الزعيم التركي الحالي اردوغان في ميدان تاكسيم |
بالإضافة الي المواقع المذكورة ، هناك
معالم يجب ان يغشاها زائر استانبول ومنها المتاحف المختلفة والقصور العثمانية
وشارع الاستقلال المتفرع من ساحة تقسيم وكذلك الجزء الآسيوي من المدينة الذي لم أتشرف
بزيارته وجزر الاميرات في بحر مرمرة وهي أماكن
بالتأكيد سازورها في اي رحلة قادمة الي استانبول بمشيئة الله تعالي
هذه بعض ملاحظات حاولت ان أشارككم بها عن
استانبول مدينة الماضي والحاضر والمستقبل. ان كانت هناك صعوبات في هذه المدينة
الرائعة فهي متعلقة باللغة والتواصل، فمعظم الإشارات واللافتات التوجيهية مكتوبة
باللغة التركية وكثير من العمال والعاملين يتحدثون بالتركية دون غيرها . نعم يمكن
القول انه يوجد استخدام معقول للغة الانجليزية ولكنه يتوقف علي الموظفين والعمال
في قطاع السياحة ( الفنادق والمكاتب) وغيرهم الذين تفرض عليهم مهنهم التواصل
باللغة الانجليزية لكن في الشارع العام ومع سائقي التكاسي وعمال المطاعم تواجد
اشكالية في التواصل لكن يبدو ان الامور تسير في التحسن علي الاقل في جانب اللغة
العربية لوجود عدد كبير العمال السوريين الذين تجدهم في اغلب المحلات والمطاعم،
كما ان مستوى انتشار اللغة الانجليزية في تصاعد كما يقول البعض .