السبت، 9 ديسمبر 2023

دلائل الأثر البجاوي في تكوين الثقافة السودانية

لا خلاف على تشكيل قومية البجا إحدى دعائم الكل السوداني ثقافياً واجتماعياً وإثنياً. كل المصادر التاريخية تشير الى أنهم سكنوا المنطقة الممتدة ما بين البحر الاحمر والنيل وهي ذات المنطقة التي يعيشون فيها حتي اليوم، ولم يرصد التاريخ سكاناً آخرين لهذه المنطقة بل تذهب العديد من تلك المصادر بأن وطنهم كان اكبر مما هو عليه اليوم. الذي يعنينا هنا هو دور ثقافتهم في تكوين الثقافة السودانية، وهو الجانب الذي لم يجد اهتماماً يذكر من قبل الباحثين. كسودانين، نعاني من ضعف توثيق حكمتنا الشعبية وتراثنا الثقافي و رصد التفاعل الثقافي وتطوره، والاعتماد على النقل الشفاهي بكل ما يمثله من ارتباك وعدم دقة،  مع استعداد لقبول الثقافات الوافدة من الخارج، واعتماد كبير على مصادر كتبها كتاب من خارج الحدود بنيت في بعض الاحيان على انطباعات سطحية ومنحازة. يظل الأثر البجاوي، في ظل الكسل التوثيقي، هو الاكثر تعرضاً للاهمال لاعتبارات كثيرة منها الجهل بقيمة هذا المكون الثقافي وحجم تأثيره، و ضعف معرفة الكثير من المثقفين والمهتمين بقضايا الثقافة والتاريخ بالبلاد او القائمين عليها بالثقافة البجاوية، أضف على ذلك كسل المتعلمين من ابناء البجا في الكتابة والتوثيق.

 شخصي الضعيف من جيل لا يعتبر نفسه مقتدراً في إجادة اللغة البجاوية ( تبداوي)، وهو جيل يتحدث لغة هجين تغلب عليها العربية، وهو مؤشر على تراجع اللغة البجاوية بموت مفرداتها وعباراتها في حال لم يتم تدارك ذلك بطرق منها التدوين والكتابة. فالبداوييت التي تبدو مختلفة تماماً عن اللغة العربية في نظامها الصوتي وفي حروفها وتراكيبها النحوية لكنها وثيقة الصلة بها من ناحية المفردات، حيث أكد الاستاذ محمد ادروب أوهاج في لقاء تلفزيوني لقناة الجزيرة في مطلع الالفينات تشكيل المفردات العربية نسبة النصف من كلمات البداوييت، وأعتقد في صحة حديثه لأن سبق له تأليف معجم عربي تبداوي في اطار بحوثه بجامعة الخرطوم فضلاً عن معرفته العميقة للغة البداوييت.     

ساحاول التركيز على نواحي المفردات و اسماء الافراد والمناطق والقبائل، وهي ابعاد ستساعدنا في اكتشاف ورصد البعد البجاوي في التكوين الثقافي السوداني. تتضمن العامية السودانية عدد من المفردات التي دخلتها عبر اللغات المحلية مثل النوبية، والفوراية، والبجاوية وغيرها. يلاحظ السودانيون ذلك عند التعامل مع العرب في الخليج او مصر ويكتشفون أن كثير من الكلمات المستخدمة في عاميتهم لا صلة لها باللغة العربية، كما يكتشفون ذلك عند الرجوع الى القواميس العربية، ويتصادم ذلك مع اتجاه يقوده بعض المثقفين السودانيين الذين يرغبون في ارجاع كل شيء للتراث العربي، بل وتأكيد عروبة زائدة و أكثر اصالة للسودان وأهله، ويقود ذلك الى مغالطات غير ضرورية. لقد أشار الدكتور عون الشريف قاسم في سفره القيم قاموس اللهجة العامية في السودان الى هذا التركيب واستلاف المفردات وقد وصف المساهمة البجاوية في تكوين الدارجية السودانية بالتيار البجاوي في العامية السودانية مركزاً على المفردات والاسماء ذات الجذور البجاوية. وتجدر الاشارة هنا الى سهولة اكتشاف المفردات البجاوية نسبة لاختلافها في التركيب عن الكلمات العربية، كما أن كل الاسماء البجاوية ذات طبيعة وصفية وبالتالي هناك امكانية لتفكيكها لاصلها وهي مهمة سهلة لاي متحدث بلغة البداوييت. ساحاول الاشارة الي بعض هذه المفردات الشائعة:

اولاً: الكلمات التي تنتهي بحروف ( ييب) او (ييت ) ومنها كلمات مثل همبريب، وعنقريب، ودوبيت، وآبرييت،  مشعليب، اتنييت.

ثانياً: اداة النسب البجاوية ( آب) وهي اداة مستخدمة في الدارجية السودانية لاسيما في اسماء القبائل و الاسر مثل الحماداب والفتيحاب.

ثالثاً: بعض اسماء الحيوانات مثل المرفعين ونطقها بالبجاوية مرآفعيب وتعني صاحب البطن الكبير، كلمة قعونج وتنطق بالبجاوية قعوي وترجمتها شراب المياه بتشديد الراء، وبعشوم التي تعني الثعلب وتنطق بالبدواييت بعشوت. كما نجد الاسماء ذات العلاقة بالطبيعة مثل الهمبريب وتعني الهواء البارد ، وفي البجاوية مقصود بالهواء الرطب الذي يعقب سقوط المطر، كلمة بريب وتعني المطر في البجاوية، وكلمة دعاش وتنطق بالبجاوية اودعاش وتلفظ الدال بنطقها الثقيل وليس بالدال الخفيفة العادية في النطق العربي، كما تظهر في اسماء الاشجار مثل كلمة اللالوبة وهي تحريف للكلمة البجاوية للو التي تطلق على ثمار تلك الشجرة، ونجد استخدام مسمي اكلاموي لنوع من الذرة والكلمة هي دمج لكلمتين اكلا وتعني المتين وموي تعني قمة الرأس. 

رابعاً: كلمات مثل شفقان بمعني التسرع، كلمة بجاوية دخلت الدارجية السودانية لتستخدم في ذات المعني المستخدمة به في البداوييت ( اشقا اي اسرع) . فكلمة الشفقة والشفق العربيتان يقدمان معني مختلف تماماً عن معني كلمة شفقان بالدارجية السودانية. ومن الكلمات البجاوية الشائعة كلمة طلس وتعني الغش والاستهبال وهي بذات المعني والنطق بالبداوييت، وكلمة كجر التي تعني البوليس في البداوييت والتي ظلت تستخدم بذات المعني، ونجد ايضاً مسمى الجبنة ( وعاء لصنع القهوة)، وهي تحريف لكلمة البدواييت( دبنا) اي الحافظة .

لقد لاحظت بعض حالات استخدام مفردات من البداوييت دون معرفة ذلك والتجارب كثيرة وطريفة في بعض الأحيان. وجدت احدهم ينتقد الشيخ البرعي في قصيدته التي يقول فيها ( اذكر الهك يوت) ولتبرير مواقفه المعادي للشيخ البرعي ذهب بعيدا الي حد القول أن للبرعي إله يعبده إسمه يوت رامياً الشيخ بعبادة غير الله. وصححت له المعلومة إن يوت ليس إله لأحد، فهي فقط النطق البجاوي لكلمة يومياً بالعربية حيث تنطق بالبجاوية ( يوييتي) ، وسبق أن نبهني احد الاخوة عن استخدام البرعي لهذه الكلمة البجاوية. قرأت ايضاً قصة كتبها الاستاذ الصحفي عبد الله شريف في موقع جسور النمساوي عن قصته مع أحد اشقائنا المصريين وهم شعب مشهور بالطرافة واللطف حيث حاول محدثه المصري تأكيد معرفته بالسودان معدداً المدن التي زارها فما كان من استاذ عبد الله ان سأله إن كان زار مدينة براك فرد بالإيجاب مع التأكيد، الأمر الذي أثار الضحك من قبل استاذ عبد الله الذي عرف فهلوة محدثه لان براك كلمة سودانية صرفة ولا وجود لها في اللهجات العربية وتعني أنت لوحدك وهي كلمة بجاوية الأصل، وقد ذكرت ذلك للاستاذ عبد الله. نبهني لهذه الكلمة الاستاذ عماد الباشا وهو مهتم بمسائل الثقافة قائلاً أن هذه الكلمة هي إنعكاس لكلمة بروك بالبداوييت التي تعني انت لتنطق براي اي لوحدي او براك لوحدك.

كما نجد اثراً كبيراً للاسماء البجاوية في مسميات المدن والاودية والجبال في منطقة الوسط النيلي، رغم أن بعض هذه الكلمات تعرضت للتحريف لكن يسهل لمتحدثي البداوييت إكتشافها. لقد ابدى لي أحد اصدقائى من الذين عملوا في أرياف البطانة استغرابه من غلبة الاسماء البجاوية على مسميات الاودية والجبال في تلك المنطقة فاسماء مثل ريرة وصفيا والهواد وغيرها لا شك انها كلمات بجاوية، بل تشمل القائمة اسماء مناطق في نهر النيل مثل العوتيب وقباتي وتبورا وتلواب وميلكيت،وسركاب، وبادوبا وهي اسماء بجاوية صرفة ومنها ايضاً اسم أتبرا وهو الاسم البجاوي لنهر عطبرة ( آتبهراي)، وكذلك مفردات مثل الدامر وتعني الحضر او المقر الرئيس. في حلقة خاصة عن منطقة الهوبجي بولاية نهر النيل في البرنامج التلفزيوني رحيق الأمكنة على قناة الشروق تمت استضافة السيد الدكتور على محمد عبد الله، وهو استاذ جامعي بجامعة البحر الأحمر للحدث عن تاريخ المنطقة وذكر الرجل أن الكثير من المناطق شمال شندى تحمل أسماء بجاوية بحكم أنها كانت جزء من منطقة البجا، وأشار الى حديث بروفيسور يوسف فضل أستاذ التاريخ المعروف في هذا السياق. كما نجد انتشار لاسماء بجاوية في اسماء الافراد والمجموعات والاجداد مثل باسبار، وشنتير، كرف، ودبلوك، بروي، بري ( بكسر الباء)، وبرير، وبلول، وبلولة، وعمسيب، وبيفادني، وهمرور، وعكود، ونابري، وحدربي وهي نسبة الى جبل حدربة بالبحر الأحمر وتعني الجبل الوعر، واستخدمت الكلمة للدلالة للتجار السواكنية في العهد قبل التركي، كما لا زالت تستخدم في ارتريا ككلمة مرادفة لمعني بدواييت. أذكر إنني التقيت بأحد الاشخاص من قبيلة الفادنية بوسط السودان وعندما عرف انتمائي للبجا سألني عن إسم بيفادني، ورديت له انه اسم بجاوي فخم يطلق للكبار، وقلت له أعرف أن جدكم يحمل هذا الاسم، ورد بالايجاب لكن يبدو ان الرجل لم يكن متأكداً من بجاوية الإسم او كان يحمل شكوك حول ذلك. يقود عدم المعرفة والرغبة في تفسير الاسماء الى محاولات غير موفقة وغير منضبطة للتفسير. اذكر انني قرأت في كتاب طبقات ود ضيف محاولة تفسير لإسم باسبار ولكن الاسم المذكور هو إسم بجاوي حي وكثير الاستخدام. اذكر إنني لاحظت في كتاب السير دونالد هولي نقوش الخطى على رمال السودان الذي ترجمه الدكتور موسى عبد الله حامد وصفه  لفرع العكيكاب من قبيلة الشكرية بانهم نصف شكرية نصف هدندوة، وبالتأكيد ان ذلك التعليق صدر من ملاحظات وفراسة الخواجة ولكن بالتأكيد لم يكن يدرى معني اسم عكيك في البداوييت الذي يعني الفخور، ولا يدرى ان قبيلة كبيرة اخرى من الهدندوة تضع وسم الشكرية على جمالها الأمر الذي يقف دليلاً على التداخل الثقافي والاثني.   

فيما يلي مظاهر الثقافة الاخرى ومنها الموسيقي نجد للأثر البجاوي حضوراً ولكنه هو الآخر غير مرصود. في 2004، في برنامج ثقافي نظمته رابطة طلاب البجا بالجامعات والمعاهد العليا نظم الفنان البجاوي يحي أدروب محاضرة بعنوان الثراء اللحني عند البجا حيث استضاف عدد من الموسيقيين والاساتذة بمعهد الموسيقي وقد تمت  استعراض التنوع اللحني في اغاني البداوييت واذكر منها ايقاع الدليب المستخدم في كثير من الاغاني في الوسط النيلي، كما تم التطرق لتاريخ آلة الربابة ( الباسنكوب)، وقد أرجعها احد العلماء المتحدثين في ذلك الحدث الي السودان وبالتحديد الى البجا. لا خلاف ان آلة الباسكنوب او الربابة هي آلة شائعة  الاستخدام في القرن الافريقي كما تستخدم في مصر ولها اسماء مختلفة وهناك جدل في اصلها، لكن أذكر ان الأستاذ جعفر بامكار في برنامج اذاعي في اذاعة بورتسودان ذكر ان شعوب كثيرة تستخدم الآلة المذكورة لكن البجا  لهم مقطوعات موسيقية عليها وانهم لا يستخدمها فقط للعزف الغنائي ويشير الي مقطوعات دبسياي، ومقدداي، وواندوب وشآب قليل وغيرها، واستدل بوجود هذه المقطوعات على أصالة هذه الآلة في هذه المنطقة .

هذا المقال هو تجميع لرؤوس مواضيع ولتسليط الاضواء على التكوين الثقافي السوداني ولكنه بالتأكيد لا يحتوي كل المعلومات المتصلة بالعنوان الذي يستحق مشروع بحثي أكثر اتساعاً وتركيزاً، ومن المؤكد أن ذلك التأثير الثقافي البجاوي سيقودنا الى أسئلة عديدة منها هل الاستلاف اللغوي هذا يرجع الى التبادل التجاري والتفاعل الحياتي ام يرجع الي انتشار تاريخي اوسع لقبائل البجا في الوسط النيلي، وعن حجم تأثير العنصر البجاوي في تكوين الكل الثقافي السوداني الحالي، و عن طبيعة العلاقات بين القبائل السودانية في اصولها وجذورها، وعن الإنتماءات الحقيقية والمتخيلة والرغائبية سواء كانت للمجموعات الاثنية او الانتماء الوطني ككل.

السبت، 20 مايو 2023

إنشاء مدينة في العصر الحالي: الغردقة المصرية

  

كلنا مررنا بقصص إنشاء مدن في التاريخ وإرتباط هذه المدن بأسماء مؤسسيها الأوائل حتي تاريخ اليوم . فنجد إرتباط إسم القاهرة بالقائد الفاطمي المعز لدين الله، وإرتباط بغداد بأبي جعفر المنصور، وسان بطرسبيرج بالقيصر الروسي بطرس الأكبر. أغلب هذه المدن كان إختيارها في لحظات تاريخية محددة، ولأغراض سياسية او عسكرية او تجارية لكن الحالة التي نحن بصددها وهي مدينة الغردقة المصرية، فقد نشأت وتطورت في أخريات القرن الماضي. بالطبع لا يمكن مقارنتها بالمدن العواصم التي  إنشأت بغرض جعلها مركزاً للحكم والقيادة ولكن لها اكتسبت الغردقة قيمتها المركزية في السياحة العالمية القائمة على الغوص البحري.

مشهد من البحر من المدينة

مارينا اليخوت في الغردفة


     نشأت الغردقة كقرية للصياديين في بدايات القرن العشرين، ومرت بفترة طويلة من النمو البطيء ثم انتعشت بفضل إستخراج النفط في منطقة البحر الاحمر المصرية، لكن التطور الأكبر كان بفعل التطور السياحي الذي شهدته المنطقة بعد إنتهاء الحرب المصرية الإسرائيلية بعد توقيع إتفاق كامب ديفيد 1978. وقاد هذا التطور لدخول عدد من المستثمرين الوطنيين والدوليين في مجال سياحة الغوص البحري.

     الراغب في التعرف على طبيعة المنطقة قبل الإزدهار الذي تعيشه بإمكانه الرجوع الي المشاهد التي عكسها كتاب "في بلاد العبابدة" الذي ألفه الجيولوجي المصري الدكتور سمير محمد خواسك الذي عمل بمنطقة البحر الأحمر المصرية في ستينيات القرن الماضي. عكس الجيولوجي خواسك بطريقة سردية وقصصية جميلة صعوبة الحياة في هذه المنطقة بما في ذلك جفاف البيئة، وندرة المياه، وفقر المراعي، والعزلة عن المراكز الحضرية. لقد نقل الكثير من المشاهد الحياتية في هذه المنطقة في قوالب شيقة وجاذبة عبر تعليقات لا تخلو من روح الفكاهة والسخرية اللطيفة المعروفة لدى الأشقاء المصريين.  كانت هذه المنطقة تشهد الكثير من العزلة من وادي النيل الذي يحتضن الجزء الأغلب من سكان مصر، كما كانت تعاني من التخلف التنموي وغياب الخدمات الضروية وضعفها لا سيما المياه. ربما كان النشاط الجيولوجي هو أحد أهم الأنشطة المحدودة بالإضافة الى صيد الأسماك في تلك الفترة. أما الرعي الذي يعتبر الحرفة التقليدية للسكان الأصليين لمناطق البحر الأحمر، فأهميته لا تتجاوز ضمان إستمرار المعيشة لمجموعات الرعاة الصغيرة لكن من الصعب القول انه يمثل نشاطاً إقتصادياً حياً. اقول ذك من واقع المعرفة بحكم انتمائي لمنطقة البحر الاحمر السودانية التي لا تختلف كثيرا عن منطقة البحر الاحمر المصرية من النواحي الطبيعية والجغرافية حيث تجمعهما ثلاثية الصحراء والجبال والبحر (المالح)، كما تربطهما الكثير من الصلات الثقافية والاجتماعية. لقد عبر عن ذلك الباحث النرويجي الدكتور كنوت كريفنسكي في كتابه القيم " تصحر التصحر: المشهد الثقافي المهدد بين النيل والبحر الاحمر" الذي ركز فيه على العلاقة بين الطبيعة والإنسان في المنطقة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر في السودان ومصر التي تعاني من درجة عالية من القحولة وندرة المياه مع قدرات عالية لقاطنيها على التكيف مع هذه الظروف. تبدو الحالة أفضل من ناحية حجم تساقط الأمطار كلما اتجهنا جنوباً بالتالي فأن الظروف الطبيعية في السودان أفضل من نظيرتها في مصر، وفي أرتريا أفضل من نظيرتها في السودان وتنطبق ذات الحالة بين السعودية واليمن في الساحل الآسيوي للبحر الأحمر او بر العرب كلما درجت العادة على تسميته عند البحارة التقليديين في البحر الاحمر مقابل بر العجم ( الساحل الإفريقي).

     تحتضن الغردقة مجموعة من أهم المنتجعات السياحية على البحر الاحمر، وتستفيد من قربها من شبه جزيرة سيناء حيث توجد عدد من المحميات الطبيعية والمناطق ذات القيمة الكبيرة في السياحة الدينية، وسياحة السفاري، وسياحة الغوص مثل محمية رأس محمد البحرية التي تقع قبالة الغردقة في الرأس الجنوبي لشبه جزيرة سيناء، ومنطقة سانت كاترين التاريخية التي تحتضن المواقع المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث (الإسلام، والمسيحية، واليهودية) حيث جبل موسي ودير سانت كاترين. من أهم المعالم السياحية في الغردقة جزيرة الجفتون التي تقع قبالة المدينة ومواقع الغوص المتربطة بها، كما ترتبط الغردقة ايضاً بجبال البحر الأحمر التي تشكل أساسا لنوع فريد من السياحة التي تعتمد على الرحلات وتجربة حياة البدو وتسمي سياحة السفاري والليالي البدوية.

     ويمتد التطور الحضري والسياحي الذي تشهده مدينة الغردقة الي شقيقاتها الاخرى من المراكز الحضرية على ساحل البحر الاحمر المصري مثل سفاجا، ومرسي علم، ورأس غارب حيث شهدت كلها نشاطاً وازدهاراً متسارعا منذ العقود الاخيرة من القرن العشرين ساهم في ترقية حياة المجتمعات من اقتصاد البداوة والصيد البحري  الى اقتصاد السياحة والخدمات، كما ساهم في توفير الخدمات لا سيما المياه التي تشكل واحدة من أكبر المشكلات التي يواجهها سكان تلك المناطق.

     كانت زيارتي الاولى والاخيرة لمدينة الغردقة في اواخر العام 2018، وكانت من أمتع الزيارات. ربما كنت محظوظاً في إختيار التوقيت المناسب لزيارتها حيث تشهد المدينة مناخاً معتدلاً في فصل الشتاء. لم تتجاوز اقامتي المنطقة المركزية في المدنية الصغيرة وهي المنطقة القريبة من السقالة، التي تقع فيها مارينا اليخوت وسوق الاسماك وتحتوى على عدد من الفنادق والمراكز الخدمية المقامة بشكل اساس لخدمة السائحين. ولكن كانت فرصة للتجول في مركز المدنية والتحرك نحو قطاعات المدينة الاخرى مثل حي الدهار وسهل حشيش ومنطقة المطار.

    اعجبتني صناعة المنتج السياحي وتسويقه في المدينة، وهي تجارب تستحق التقدير والتشجيع. ولعل اهم النماذج التي استرهت انتباهي معرض التماثيل الترابية في متحف الرمال. ويبدو انه متحف خاص حيث يقع على مساحة محدودة، ويعرض تماثيل ترابية لمشاهير وشخصيات عالمية. الفكرة يبدو انها مستوحاه من متاحف الشمع في مواقع اخرى في العالم مثل لندن . كما نجد نموذج آخر لمتحف فريد وهو الحديقة الصغرى لمصر ( ميني ايجيبت بارك) التي تحتوى على نماذج محاكاة لمعالم مصر السياحية مثل الاهرامات ومعبد الكرنك وبعض المباني التاريخية. وفكرة المتحف المفتوح هذه تقدم صورة تعريفية للسائحين عن اهم المعالم وتقديم فكرة عنها، كما تمثل موقعاً للاسر والاطفال بما يشير الي الغرض التربوي والتعليمي للفكرة.

متحف مدينة الرمال لوحة تعريفية

مشهد من مدينة الرمال




مشهد من مدينة الرمال

     للبحر حضوره الكبير في المشهد السياحي للمدينة التي تأخذ كل جمالها منه. ونجد متحف الأحياء المائية في غرب المدينة، ويحتوى على اكواريوم لعرض الاسماء الحية، ومعارض تعريفية عن أسماك البحر الأحمر، كما يتضمن المتحف عرضاً للبيئات البحرية خارج الماء مثل مواقع تعشيش الطيور البحرية والسلاحف البحرية. كان بودى إتخاذ العبارة البحرية التي تنقل الركاب بين الغردقة وشرم الشيخ ولكن لم أتمكن من ذلك بسبب الإيقاف المؤقت للعبارة لاغراض الصيانة في الفترة التي زرت فيها المدينة. 

اكواريوم الغردقة من الخارج

 
اكواريوم الغردقة

مشهد من الاكواريوم- طيور الفلامينجو البحرية في بيئتها المصنوعة في الاكواريوم

إذا كنت ترغب في قضاء عطلة قصيرة في مدينة هادئة وجميلة، لا تتردد في التوجه الى الغردقة، وإذا كنت مهتماً بإنشاء الحواضر وتاريخها في عصرنا الحالي فعليك بالغردقة وتاريخها فهي مدينة أنشأها الإنسان في العقود الأخيرة. والملفت للإنتباه أيضاً أن هناك مدينة قيد الإنشاء في الجانب المقابل للغردقة من البحر الأحمر في الساحل السعودي وهي نيوم، الأمر الذي يشير الى أن اقليم البحر الأحمر في إنتظار حاضرة جديدة ستعقبها حواضر أخرى، فلا زالت جغرافية البحر الأحمر بكر بإمكانها قبول التطور العمراني.

السبت، 16 يوليو 2022

الإنسان وظلم الكلاب: أمراض الإنسانية في أوضح صورها

في برنامج تلفزيوني في أواخر العام 2020،  أفتى فضيلة الشيخ شوقي علام مفتي الديار المصرية بنفي صفة النجاسة عن حيوان الكلب وألحقه ببقية الحيوانات الأخرى التي لا يبطل ملامستها الوضوء. بنى فضيلته تلك الفتوي على آراء فقهية قديمة ترجع الي مذهب الإمام مالك السائد في مصر وبلدان افريقيا الاخرى ومنها بلادى السودان. بالتأكيد أن هناك الكثيرين الذين يحملون آراء مخالفة لرأى هذا الشيخ لكن العبرة في الحجج التي يستخدمونها. رغم أنني متواضع المعرفة في الفقة الديني، كانت تراودني الشكوك حول صحة الآراء المعادية للكلاب والداعية الى تكريه الناس في ملامستها او تربيتها او الإحسان عليها من منظور ديني نظراً لعدم تناسب المزاج المسيطر على أصحاب هذه الآراء مع قصص القران وأحاديث الرسول الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم . ففي قصة أهل الكهف مجد الله جل وعلا الكلب المرافق لهذه الجماعة من المؤمنين بذكره في القرآن ولم يتحاشي ذلك، هذا فيما يخص القران ـ اما فيما يتعلق بالسنة، فقد جاء في الحديث ان الله كافأ رجلاً من بني اسرائيل بدخول الجنة لتسببه في إنقاذ حياة كلب عطشان بعد أن استخدم الخف الذي كان يلبسه في نقل الماء من البئر الي سطح الارض لسقاية الكلب.

 لا أعتقد بأن ثمة حيوان تعرض لظلم البشر أكثر من الكلب. تأتي مرارة الظلم هنا لعدم توفر عنصر العداوة المتبادلة. فالكلب من أكثر الحيوانات إرتباطاً بالناس. فهو الذي يحرس منازلهم، ويساعد الرعاة منهم في حماية بهائمهم من الدواب الضارة، والمزارعين منهم في حماية مزروعاتهم من الحيوانات، كما تمتد خدماته الي الأجهزة الأمنية والشرطية في المساعدة في الكشف عن الجرائم والمجرمين. إلا ان كل هذه الخدمات الجليلة لم تشفع له لدي البشر الذين يبادلون وفاءه بالجحود ونكران الجميل، ويواجهون إخلاصه بالإحتقار، والتشويه وعدم التقدير وإلحاق الصفات السيئة، ويتمادون أكثر من ذلك في إستخدام اسمه مثالاً كريهاً في مهاجمة وتشويه بعضهم البعض ( انت كلب ، انت إبن كلب.... ).

هناك عدد من الأسئلة التي تفرض نفسها في حالة علاقة الإنسان بالكلب. هل الإنسان بطبعه مخلوق جاحد للجميل؟ هل لا يقدر الإنسان سوى الشخص الذي يخشي منه او الذي يحتاج له؟ او الذي يملك القدرة على رد الإهانة او الذي يعاقبه بمسك يد المساعدة والخدمة؟  هل هناك بعض المبررات التي خلقت هذه الذهنية العدائية ضد هذا الحيوان الوفي اللطيف ؟.  بالطبع أن الأمر كله لا يمكن تفسيره فقط بسوء البشر وعدوانيتهم. هناك عبارات عدائية سمعتها من أحد كبار السن تجاه الكلب. قال لي في سياق حديثه أن الكلب من أشجع الحيوانات لكنه يفتقد للهيبة والإحترام من الآخرين لعدة أسباب وهي:

1-      يفتقد النخوة والوفاء  والإنتماء لبني جلدته من ملة الكلاب، فهو يتساهل مع كل الحيوانات الأخرى ويتفادي أحيانا مهاجمتها فيما تزداد شراسته ضد إخوانه من ملة الكلاب.

2-      لا يبني لنفسه او لإبنائه مقاماً او بيتاً فهو دائماً يسكن أمام منازل اسياده ويكتفي بما يقدمونه له من طعام ويتصدى للمخاطر نيابة عنهم نظير ما يجودون به من فتات.

3-      يبادر بالدخول في معارك غير ضرورية يستخدم فيها إزعاج صوته وإستعراض أسنانه ثم ينسحب بسهولة بمجرد الضرب او الطرد دون ان يحقق  هدفاً او نصيباً من المعركة.

4-      أماكن العورة في جسده غير مستورة كحال بعض الحيوانات، كما يقضي وقتاً كثيراً في مطاردة لانهائية لأناث الكلاب لإشباع حاجاته الجنسية الزائدة.

يزخر الأدب العربي بكثير من القصص والأشعار المتعلقة بالكلاب والتي تترواح بين المدح والذم. في قصيدة مشهورة  عن حب الناس لأهل الغنى ونفورهم من الفقراء يقول الشاعر العربي:

حتي الكلاب اذا رأت رجل الغني                حنت اليه وحركت أذيالها

وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً                         نبحت عليه وكشرت أنيابها

في الجانب الآخر، هناك الكثير من القصص التي تمجد الكلب وتحترمه، وتعدد محاسنه الكثيرة. شاركني أحد الأخوة تعليقاً مستخلصاً من قصة واردة في كتاب حكايات الصالحين للسيد عبد الحليم خفاجي تعدد المزايا الطيبة للكلب. تقول القصة انه كان لأحد الصالحين صديقاً وكان يدعو هذا الصديق الي منزله، فكلما يذهب اليه الصديق رده بعذر مختلق وكأنه يقصد إمتحانه (تحدث مثل هذه القصص في حياة الصوفية). بعد أن تكررت المسألة وتطاولت سأل الرجل الصالح صديقه قائلاً: أنك تعرف أنني أتعمد ردك ولكنك لم تتبرم من ذلك او تغضب او تقاطعني. ما هو السبب وراء هذا الصبر. فرد الصديق قائلاً: لا تستغرب وجود صفة من صفات الكلاب في شخصي ، فالكلب لا يغضب عندما يتم طرده فيعود لصاحبه مره أخرى. ومضى معدداً صفات الصالحين التي يتمتع بها الكلب حيث قال:

1-       يكون الكلب دائماً في حالة جوع..... وذلك من آداب الصالحين.

2-      لا يكون له مكاناً معروفاً.... وذلك من صفات المتوكلين.

3-      لا ينام من الليل الا قليلاً....... وذلك من صفات المحبين.

4-      إذا مات لا يترك ميراثاً...... وذلك من صفات الزاهدين.

5-      لا يترك صاحبه و إن جفاه او ضربه..... ذلك من علامات المريدين الصادقين.

6-      يرضى من الأرض باي موضع ( يكفيه مكان ضيق وصغير)...... ذلك من علامات المتواضعين.

7-      إذا غلبه أحدهم علي مكانه او طرده منه .... ترك له المكان وإنصرف الي مكان آخر ينوم فيه..... ذلك من علامات الراضين.

8-      اذا طرده صاحبه ثم قدم اليه طعاماً، أكل ذلك الطعام دون أن يمنعه الكبرياء او الحقد .... ذلك من علامات الخاشعين.

9-      اذا جلس الناس للطعام يجلس بعيداً عنهم ولا يزاحمهم...... ذلك من علامات المساكين.

10-  اذا رحل اصحابه من مكان الي آخر لا يلتفت الى ذلك المكان.... وذلك من علامات المحزونين.

عليه ، أختتم المقال بإرسال التحايا العذبة لجماهير الكلاب في بقاع الأرض المختلفة.

Source of the photo

https://www.freepik.com/free-photo/group-portrait-adorable-puppies_3532149.htm#query=dogs&position=0&from_view=search

 

 

السبت، 3 أبريل 2021

أبوجلمبو: أحد دروس الطبيعة في الطرافة والقدرات الأكروباتية

      أبوجلمبو حيوان برمائي طريف الشكل والملامح والقدرات. يتكون هيكله من شكل صندوق تحيط به عدد من الأرجل وهي 8 ارجل بالإضافة إلي مخالب يستخدمها كأيدي لنقل الطعام الي فمه المخبوء وفي الصيد والإقتناص والدفاع. تمكنه تعددية الأرجل بالتحرك في الاتجاهات الأربعة يميناً وشمالاً واماماً وخلفاً. تتكون أسرة ابوجلمبو من أنواع عديدة بعضها تعيش في المياه الضحلة، وبعضها في المياه الأعمق، بعضها في المياه المالحة وبعضها في العذبة، بعضها تقطن في الأعماق وبعضها تتخذ بيوتا جحورية في الرمال الشاطئية والساحلية التي تعود إليها بعد اصابة أرزاقها من خيرات البحر. تعيش مجموعات ابوجلمبو في تجمعات أسرية تتحرك معاً على الشواطيء في منظر ظريف وطريف.  لا تتوقف قدرات ابوجلبمو  الأكروباتية على التحرك في الاتجاهات الاربعة بل قدرته على السباحة في البحر جنبا الي جنب قدرته على الجري في اليابسة، فاذا داهمته كائنات البر يلجأ الي مياه البحر واذا داهمته كائنات البحر يجري غافلاً الي حيث الارض. ولا تنقضي عجائب صاحبنا هذا في الحياة البرمائية، والحياة في المياة العذبة والمالحة معاً  وسهولة الحركة بل يمتاز ايضاً بميزة أخرى لا تشاركها فيه أغلب كائنات البحر، فبعض كائنات البحر تعيش على لحوم بعضها البعض حيث يتغذي القوي على لحوم ودماء الضعفاء فيما تتغذي الصغيرة منها على الأعشاب وأما الأكثر ضعفاً فتتغذي على الطين، أما صاحبنا العجيب هذا فهو يتغذي على سلسلة طويلة من الاغذية التي تشمل اللحوم، والديدان، والقواقع، والأعشاب البحرية وربما الطين والتراب الذي يدفن نفسه فيه، ويستخدم في هذه المعارك مخالبة التي تساعده في القبض على الضحية وقتلها وتفتيتها وأكلها. أثناء بحثي عن صاحبنا في الإنترنت وجدت تعليقاً ظريفاً عن قدرات أبوجلمبو في مدونة زيزو زكريا بعنوان ابوجلمبو نايم على جانبو: ( هو كائن ظريف ولطيف له فوايد هامة للإنسان ولكن الذكر عينه زايغة لا تكفيه أنثى واحدة بل يضرب به المثل في تعدد الزوجات فتصل عدد زوجاته إلى 300-400 كابوراياية والأنثي تعلم جيداً  بأن أبوجلمبو  دائم الطواف على جحور الإناث ولذلك تحتفظ بجزء ليس بهين من حبوب لقاح الذكر في بطنها تقوم بإستخدامها عندما ينشغل  عنها (البيه) في رحلته اليومية للبحث عن الأناث فتقوم بتلقيح نفسها تلقيحاً ذاتياً (ولا الحوجة لابوجلمبو ولا اللي خلفوه). بغض النظر عن صحة التعليقات الواردة في هذا الإقتباس الذي لا يخلو من ظرافة إلا أنني لا أستغرب في اي قدرات إستثنائية لأبوجلبمو، ويمكن أن تشمل تلك الإمكانات القدرات الرجولية الزائدة او تصرفات الأنثي الجلمبوية في تجميد لقاحات الذكر لإستخدامها عند الحاجة. هؤلاء القوم بإمكانهم فعل كل الغرائب. على كل لقد ظل ابوجلمبو يعاني من من إستهداف البشر الباحثين عن الفحولة، مثله مثل بقية أنواع الحيوانات (المسكينة) التي إستهدفها الإنسان لهذا الغرض وهنا قائمة طويلة تشمل الكافيار، والجمبري، وبعض انواع القرش، وذكر الغنم ( التيس). أخشي ان يتجه البشر يوماً ما نحو الكلاب في  سعيهم نحو تعزيز قدراتهم الشهوانية . 

a href='https://www.freepik.com/photos/beach'>Beach photo created by wirestock - www.freepik.com</a

     تطلق على أنواع أبوجلمبو عدد من الأسماء منها سرطان البحر، السلطعون، أبومقص، كابوريا ويعتقد على نطاق واسع بأن لحومه تتميز بمزايا صحية عديدة نظراً لما تتضمنه من كميات مقدرة من الغذاء، والمعادن، والفيتامينات. في مناطق كثيرة من العالم تشكل أنواع أبوجلمبو وجبة شهية ومطلوبة من قبل البشر. لكن الحال يختلف في السودان حيث يعيش أبوجلمبو حياة آمنة الي حد كبير. هنا لا يشكل ركناً أساسياً في موائد الأطعمة، حيث ذهب إهتمام السودانيين الي الأسماك دون غيرها من الأحياء البحرية و بالتالي لا يشكل جلمبو هدفاً للصيادين. هذه الميزة لا يجدها في البيئات الأخرى. عندما كنت أشاهد الضحايا من قبيلة أبوجلبمو في أسواق بيع الأسماك في الدول التي زرتها أتذكر أشقائهم في السودان الذين يعيشون عيشة الحرية والأمان. كنت أفكر أحياناً في مخاطبتهم قائلاً: يامعشر أبوجلمبو أذهبوا الى بلاد السودان فإن هناك شعباً لا يتغذى على لحومكم، وبإمكاناهم على الأقل تأمين أنفسكم من الإبادة الجماعية وتعديات الإنسان وظلمه. في الساحل السوداني، يتخذ الناس عدداً من الأساطير الشعبية والقصص لحماية بعض أنواع الحيوانات. بعض هذه الأساطير تربط بعض الأنواع بالجن وحمل أرواح الموتي ، بعضها يتشائم من قتلها بحجة ان ذلك يتسبب في حدوث كارثة طبيعية او سوء الطالع للمعتدي. قصص قطط سواكن (الجنيات) ليست بعيدة عن هذه الخلفية التراثية، فالقصد من هذه الأساطير التربوية تأمين الحيوان من الإعتداء . ذكر الرحالة إبن بطوطة في رحلته الي الحجاز التي مر فيها بالساحل السوداني في 1325 م ( قبل اكثر من 690 عاما) أن الغزلان في ساحل سواكن لا تخشى من البشر فهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه لأن البجاة لا يأكلونها. في حالة أبوجلمبو، تقول الأسطورة الشعبية أن قتله يتسبب في حدوث أهوية وعواصف في البحر مما يهدد حياة الصيادين في البحر او تتسبب هذه العواصف في منعهم من العمل. بالتالي، يتحاشي الصياديون الإعتداء علي أبوجلمبو حرصاً على سلامتهم ومصالحهم. عندما يعلق ابوجلمبو بسبب  (شلاقته) في شباك الصيد التي ينشرها أصحابها لصيد الاسماك،  يضطر الصياديون لبذل جهود إضافية لانقاذ حياته، وهي مهمة عسيرة نظراً لتعدد أرجله، وعدوانيته، وإستخدام مخالبه في العض، وقدرته على الحياة في المياة وخارج المياة. عندما تجتذب طرافة أبوجلمبو وقدارته وطريقه حركته الأطفال ويحاولون مطاردته يتدخل الكبار لحمايته من  تلاعب الأطفال.

     في حياتنا العادية، تذكرني بعض تصرفات البشر بحالة صاحبنا، فبعضنا لديهم القدرة للجري في كل الإتجاهات وأكل كل أنواع الأطعمة، والحياة في كل الظروف لكنهم بالتأكيد لا يمتلكون براءة أبوجلمبو ولا يسابقونه في مهاراته وقدراته.