لا خلاف على تشكيل قومية البجا إحدى دعائم الكل
السوداني ثقافياً واجتماعياً وإثنياً. كل المصادر التاريخية تشير الى أنهم سكنوا
المنطقة الممتدة ما بين البحر الاحمر والنيل وهي ذات المنطقة التي يعيشون فيها حتي
اليوم، ولم يرصد التاريخ سكاناً آخرين لهذه المنطقة بل تذهب العديد من تلك المصادر
بأن وطنهم كان اكبر مما هو عليه اليوم. الذي يعنينا هنا هو دور ثقافتهم في تكوين
الثقافة السودانية، وهو الجانب الذي لم يجد اهتماماً يذكر من قبل الباحثين.
كسودانين، نعاني من ضعف توثيق حكمتنا الشعبية وتراثنا الثقافي و رصد التفاعل
الثقافي وتطوره، والاعتماد على النقل الشفاهي بكل ما يمثله من ارتباك وعدم دقة، مع استعداد لقبول الثقافات الوافدة من الخارج،
واعتماد كبير على مصادر كتبها كتاب من خارج الحدود بنيت في بعض الاحيان على
انطباعات سطحية ومنحازة. يظل الأثر البجاوي، في ظل الكسل التوثيقي، هو الاكثر
تعرضاً للاهمال لاعتبارات كثيرة منها الجهل بقيمة هذا
المكون الثقافي وحجم تأثيره، و ضعف معرفة الكثير من المثقفين والمهتمين بقضايا
الثقافة والتاريخ بالبلاد او القائمين عليها بالثقافة البجاوية، أضف على ذلك كسل
المتعلمين من ابناء البجا في الكتابة والتوثيق.
شخصي الضعيف
من جيل لا يعتبر نفسه مقتدراً في إجادة اللغة البجاوية ( تبداوي)، وهو جيل يتحدث
لغة هجين تغلب عليها العربية، وهو مؤشر على تراجع اللغة البجاوية بموت مفرداتها
وعباراتها في حال لم يتم تدارك ذلك بطرق منها التدوين والكتابة. فالبداوييت التي
تبدو مختلفة تماماً عن اللغة العربية في نظامها الصوتي وفي حروفها وتراكيبها
النحوية لكنها وثيقة الصلة بها من ناحية المفردات، حيث أكد الاستاذ محمد ادروب أوهاج
في لقاء تلفزيوني لقناة الجزيرة في مطلع الالفينات تشكيل المفردات العربية نسبة
النصف من كلمات البداوييت، وأعتقد في صحة حديثه لأن سبق له تأليف معجم عربي تبداوي
في اطار بحوثه بجامعة الخرطوم فضلاً عن معرفته العميقة للغة البداوييت.
ساحاول التركيز على نواحي المفردات و اسماء الافراد والمناطق
والقبائل، وهي ابعاد ستساعدنا في اكتشاف ورصد البعد البجاوي في التكوين الثقافي
السوداني. تتضمن العامية السودانية عدد من المفردات التي دخلتها عبر اللغات
المحلية مثل النوبية، والفوراية، والبجاوية وغيرها. يلاحظ السودانيون ذلك عند
التعامل مع العرب في الخليج او مصر ويكتشفون أن كثير من الكلمات المستخدمة في
عاميتهم لا صلة لها باللغة العربية، كما يكتشفون ذلك عند الرجوع الى القواميس
العربية، ويتصادم ذلك مع اتجاه يقوده بعض المثقفين السودانيين الذين يرغبون في
ارجاع كل شيء للتراث العربي، بل وتأكيد عروبة زائدة و أكثر اصالة للسودان وأهله، ويقود ذلك
الى مغالطات غير ضرورية. لقد أشار الدكتور عون الشريف قاسم في سفره القيم قاموس
اللهجة العامية في السودان الى هذا التركيب واستلاف المفردات وقد وصف المساهمة
البجاوية في تكوين الدارجية السودانية بالتيار البجاوي في العامية السودانية مركزاً
على المفردات والاسماء ذات الجذور البجاوية. وتجدر الاشارة هنا الى سهولة اكتشاف المفردات
البجاوية نسبة لاختلافها في التركيب عن الكلمات العربية، كما أن
كل الاسماء البجاوية ذات طبيعة وصفية وبالتالي هناك امكانية لتفكيكها لاصلها وهي
مهمة سهلة لاي متحدث بلغة البداوييت. ساحاول الاشارة الي بعض هذه المفردات الشائعة:
اولاً: الكلمات التي تنتهي بحروف ( ييب) او (ييت )
ومنها كلمات مثل همبريب، وعنقريب، ودوبيت، وآبرييت، مشعليب، اتنييت.
ثانياً: اداة النسب البجاوية ( آب) وهي اداة مستخدمة
في الدارجية السودانية لاسيما في اسماء القبائل و الاسر مثل الحماداب والفتيحاب.
ثالثاً: بعض اسماء الحيوانات مثل المرفعين ونطقها
بالبجاوية مرآفعيب وتعني صاحب البطن الكبير، كلمة قعونج وتنطق بالبجاوية قعوي
وترجمتها شراب المياه بتشديد الراء، وبعشوم التي تعني الثعلب وتنطق بالبدواييت بعشوت. كما نجد الاسماء ذات العلاقة بالطبيعة مثل
الهمبريب وتعني الهواء البارد ، وفي البجاوية مقصود بالهواء الرطب الذي يعقب سقوط
المطر، كلمة بريب وتعني المطر في البجاوية، وكلمة دعاش وتنطق بالبجاوية اودعاش
وتلفظ الدال بنطقها الثقيل وليس بالدال الخفيفة العادية في النطق العربي، كما تظهر في اسماء الاشجار مثل كلمة اللالوبة وهي تحريف للكلمة البجاوية للو التي تطلق على ثمار تلك الشجرة، ونجد استخدام مسمي اكلاموي لنوع من الذرة والكلمة هي دمج لكلمتين اكلا وتعني المتين وموي تعني قمة الرأس.
رابعاً: كلمات مثل شفقان بمعني التسرع، كلمة بجاوية
دخلت الدارجية السودانية لتستخدم في ذات المعني المستخدمة به في البداوييت ( اشقا
اي اسرع) . فكلمة الشفقة والشفق العربيتان يقدمان معني مختلف تماماً عن معني كلمة
شفقان بالدارجية السودانية.
لقد لاحظت بعض حالات استخدام مفردات من البداوييت دون معرفة
ذلك والتجارب كثيرة وطريفة في بعض الأحيان. وجدت احدهم ينتقد الشيخ البرعي في
قصيدته التي يقول فيها ( اذكر الهك يوت) ولتبرير مواقفه المعادي للشيخ البرعي ذهب
بعيدا الي حد القول أن للبرعي إله يعبده إسمه يوت رامياً الشيخ بعبادة غير الله.
وصححت له المعلومة إن يوت ليس إله لأحد، فهي فقط النطق البجاوي لكلمة يومياً
بالعربية حيث تنطق بالبجاوية ( يوييتي) ، وسبق أن نبهني احد الاخوة عن استخدام
البرعي لهذه الكلمة البجاوية. قرأت ايضاً قصة كتبها الاستاذ الصحفي عبد الله شريف في
موقع جسور النمساوي عن قصته مع أحد اشقائنا المصريين وهم شعب مشهور بالطرافة
واللطف حيث حاول محدثه المصري تأكيد معرفته بالسودان معدداً المدن التي زارها فما
كان من استاذ عبد الله ان سأله إن كان زار مدينة براك فرد بالإيجاب مع التأكيد، الأمر
الذي أثار الضحك من قبل استاذ عبد الله الذي عرف فهلوة محدثه لان براك كلمة
سودانية صرفة ولا وجود لها في اللهجات العربية وتعني أنت لوحدك وهي كلمة بجاوية الأصل،
وقد ذكرت ذلك للاستاذ عبد الله. نبهني لهذه الكلمة الاستاذ عماد الباشا وهو مهتم
بمسائل الثقافة قائلاً أن هذه الكلمة هي إنعكاس لكلمة بروك بالبداوييت التي تعني
انت لتنطق براي اي لوحدي او براك لوحدك.
كما نجد اثراً كبيراً للاسماء البجاوية في مسميات
المدن والاودية والجبال في منطقة الوسط النيلي، رغم أن بعض هذه الكلمات تعرضت
للتحريف لكن يسهل لمتحدثي البداوييت إكتشافها. لقد ابدى لي أحد اصدقائى من الذين
عملوا في أرياف البطانة استغرابه من غلبة الاسماء البجاوية على مسميات الاودية
والجبال في تلك المنطقة فاسماء مثل ريرة وصفيا والهواد وغيرها لا شك انها كلمات
بجاوية، بل تشمل القائمة اسماء مناطق في نهر النيل مثل العوتيب وقباتي وتبورا
وتلواب وميلكيت،وسركاب، وبادوبا وهي اسماء بجاوية صرفة ومنها ايضاً اسم أتبرا وهو الاسم البجاوي
لنهر عطبرة ( آتبهراي)، وكذلك مفردات مثل الدامر وتعني الحضر او المقر الرئيس. في حلقة
خاصة عن منطقة الهوبجي بولاية نهر النيل في البرنامج التلفزيوني رحيق الأمكنة على
قناة الشروق تمت استضافة السيد الدكتور على محمد عبد الله، وهو استاذ جامعي بجامعة
البحر الأحمر للحدث عن تاريخ المنطقة وذكر الرجل أن الكثير من المناطق شمال شندى
تحمل أسماء بجاوية بحكم أنها كانت جزء من منطقة البجا، وأشار الى حديث بروفيسور
يوسف فضل أستاذ التاريخ المعروف في هذا السياق. كما نجد انتشار لاسماء بجاوية في
اسماء الافراد والمجموعات والاجداد مثل باسبار، وشنتير، كرف، ودبلوك، بروي، بري (
بكسر الباء)، وبرير، وبلول، وبلولة، وعمسيب، وبيفادني، وهمرور، وعكود، ونابري، وحدربي وهي نسبة الى جبل حدربة بالبحر الأحمر وتعني الجبل الوعر، واستخدمت الكلمة للدلالة للتجار السواكنية في العهد قبل التركي، كما لا زالت تستخدم في ارتريا ككلمة مرادفة لمعني بدواييت. أذكر إنني التقيت بأحد الاشخاص من قبيلة الفادنية
بوسط السودان وعندما عرف انتمائي للبجا سألني عن إسم بيفادني، ورديت له انه اسم
بجاوي فخم يطلق للكبار، وقلت له أعرف أن جدكم يحمل هذا الاسم، ورد بالايجاب لكن يبدو ان الرجل لم يكن متأكداً من بجاوية الإسم او كان يحمل شكوك حول ذلك. يقود عدم المعرفة والرغبة
في تفسير الاسماء الى محاولات غير موفقة وغير منضبطة للتفسير. اذكر انني قرأت في
كتاب طبقات ود ضيف محاولة تفسير لإسم باسبار ولكن الاسم المذكور هو إسم بجاوي حي وكثير
الاستخدام. اذكر إنني لاحظت في كتاب السير دونالد هولي نقوش الخطى على رمال
السودان الذي ترجمه الدكتور موسى عبد الله حامد وصفه لفرع العكيكاب من قبيلة الشكرية بانهم نصف شكرية
نصف هدندوة، وبالتأكيد ان ذلك التعليق صدر من ملاحظات وفراسة الخواجة ولكن بالتأكيد
لم يكن يدرى معني اسم عكيك في البداوييت الذي يعني الفخور، ولا يدرى ان قبيلة كبيرة اخرى من الهدندوة تضع وسم الشكرية على جمالها الأمر الذي يقف دليلاً على التداخل الثقافي والاثني.
فيما يلي مظاهر الثقافة الاخرى ومنها الموسيقي نجد للأثر
البجاوي حضوراً ولكنه هو الآخر غير مرصود. في 2004، في برنامج ثقافي نظمته رابطة طلاب
البجا بالجامعات والمعاهد العليا نظم الفنان البجاوي يحي أدروب محاضرة بعنوان
الثراء اللحني عند البجا حيث استضاف عدد من الموسيقيين والاساتذة بمعهد الموسيقي وقد
تمت استعراض التنوع اللحني في اغاني
البداوييت واذكر منها ايقاع الدليب المستخدم في كثير من الاغاني في الوسط النيلي،
كما تم التطرق لتاريخ آلة الربابة ( الباسنكوب)، وقد أرجعها احد العلماء المتحدثين
في ذلك الحدث الي السودان وبالتحديد الى البجا. لا خلاف ان آلة الباسكنوب او
الربابة هي آلة شائعة الاستخدام في القرن
الافريقي كما تستخدم في مصر ولها اسماء مختلفة وهناك جدل في اصلها، لكن أذكر ان
الأستاذ جعفر بامكار في برنامج اذاعي في اذاعة بورتسودان ذكر ان شعوب كثيرة تستخدم
الآلة المذكورة لكن البجا لهم مقطوعات موسيقية عليها وانهم لا
يستخدمها فقط للعزف الغنائي ويشير الي مقطوعات دبسياي، ومقدداي، وواندوب وشآب قليل وغيرها، واستدل بوجود هذه المقطوعات على أصالة هذه الآلة في هذه المنطقة .
هذا المقال هو تجميع لرؤوس مواضيع ولتسليط الاضواء على التكوين الثقافي السوداني ولكنه بالتأكيد لا يحتوي كل المعلومات المتصلة بالعنوان الذي يستحق مشروع بحثي أكثر اتساعاً وتركيزاً، ومن المؤكد أن ذلك التأثير الثقافي البجاوي سيقودنا الى أسئلة عديدة منها هل الاستلاف اللغوي هذا يرجع الى التبادل التجاري والتفاعل الحياتي ام يرجع الي انتشار تاريخي اوسع لقبائل البجا في الوسط النيلي، وعن حجم تأثير العنصر البجاوي في تكوين الكل الثقافي السوداني الحالي، و عن طبيعة العلاقات بين القبائل السودانية في اصولها وجذورها، وعن الإنتماءات الحقيقية والمتخيلة والرغائبية سواء كانت للمجموعات الاثنية او الانتماء الوطني ككل.