الأحد، 19 أبريل 2020

الفساد وآثارة على الدولة والسياسة والإقتصاد والإدارة والمجتمع


      تجد كلمة الفساد حظها الكبير في الأدبيات السياسية والدراسات المتعلقة بالحكم الرشيد والبحوث الإجتماعية وغيرها. يتفق الكل بأن الفساد شيء سيء، ويتبارون في إنتقاء الكلمات السيئة لوصف هذه الظاهرة ، فنسمع عبارات من شاكلة آفة الفساد ومرض الفساد وكارثة الفساد وغول الفساد. في الواقع لا أدرى أي الكلمات هي الأنسب لوصفه. فالفساد غول لانه يلتهم كل شيء ولا يشبع ( الجدير بالذكر بأن الغول هو حيوان خرافي يتردد ذكره في الأساطير الشعبية العربية يسكن في الخلاء ويعترض سير المسافرين ويلتهمهم مع الأشياء التي يحملونها). فالفساد مرض لأنه ينتشر بسرعة، فالفاسدون يفسدون بعضهم والآخرين، وكثير منهم أفسدوا بفساد البيئة التي يعيشون فيها. فالفساد ايضاً كارثة لأنه يتسبب في دمار الدول، وفي هز الثقة في مؤسسات الحكم، ويساهم في إساءة إستغلال  السلطات والصلاحيات كأداة للظلم والإفساد. كما تصح تسميته بإسم الآفة لأنه يفسد الأشياء الأخرى فالآفة تطلق على اي شيء يسبب كارثة فنسمع آفة الجفاف التي تسبب التصحر والفقر، وآفة الفقر التي تسبب الجريمة والإنهيار الأخلاقي، وآفة المرض التي تهلك الأبدان وتسبب الموت. 
للفساد آثار ممتدة لا تتوقف عند سقف محدد او في مدي معين. سوف نركز هما علي الأبعاد السياسية والاقتصادية على المترتبة على الفساد او بالاحري تاثيره على الدولة والنظام وحكم القانون.
فيما يخص الآثار السياسية للفساد فهو يتسبب في جملة من الآثار المباشرة وغير المباشرة التي يمكن إيجازها في الآتي:
1-      إرباك عملية البناء الوطني وإعاقة تغذية روح الإنتماء القومي عبر هز ثقة المجموعات قليلة الحظ من النفوذ و الفرص في الحصول على الموارد العامة في النظام السياسي وحياد مؤسسات الحكم. فعبر الفساد، تهيمن مجموعات محددة بخلفيات ثقافية او أثنية او تعليمية او مهنية محددة على موارد الدولة بأساليب ملتوية تشمل تطويع القوانين لمصالحها، ويترتب علي ذلك حرمان المجموعات الأخرى من الوصول إلى مراكز النفوذ . بالتالي فأن عملية الفساد بمجملها تؤدي الي فقدان الإحترام للأجهزة العدلية والإدارية والنيابية بما يقود الي تصاعد السخط  ضدها ومن ثم التمرد والعصيان والخروج عليها.
2-       إفساد العملية الإنتخابية والتمثيلية النيابية وتشويه الممارسة الديمقراطية عبر عمليات شراء الأصوات والولاءات بصور غير مشروعة.
من ناحية الإقتصاد، يتسبب الفساد في جملة من الأضرار منها:
1-       تدمير إقتصاديات الدول عبر ضياع وإهدار مواردها المالية وغير المالية او إساءة إستخدام وإساءة توزيع هذه الموارد او التلاعب بها.
2-      تشويه سمعة الدولة المتهمة بالفساد بين الدول. ويترتب على ذلك حرمانها من فرص التعامل والتعاطي الإيجابي والدعم من قبل مؤسسات التمويل والهيئات الإقتصادية.
3-      هروب الإستثمار الوطني للخارج وعزوف الإستثمار الأجنبى عن دخول البلاد لإرتفاع تكلفة الإستثمارات نتيجة الرشوة وإرتفاع المخاطر.
4-      إعاقة النمو الطبيعي للقطاع الخاص الوطني عبر زيادة كلفة العمل وتعطيل فرص المنافسة الحرة والنزيهة علي أسس الكفاءة وتقديم الخدمات الأفضل . ففي ظل إنتشار ممارسات الفساد يرتبك نمو القطاع الخاص وتنتشر فيه الممارسات الفاسدة.
5-      إستشراء ممارسات تهريب الموارد المالية للبلد للخارج بغرض إخفائها وإبعادها من الولاية القضائية للدولة وهي عملية حرمت الكثير من بلدان العالم الثالث من الإستفادة من موارد ضخمة جمدت في بنوك وملاذات ضريبية في بلدان أخرى،  فوفقاً لبعض التقديرات فإن أموال الرشاوي المهربة من القارة الافريقية سنوياً لملاذات ضريبية آمنة تصل الى حوالي 30 مليار دولار.
6-       توريط المسؤولين للدولة في عمليات مالية كبيرة ومشروعات غير ضرورية وديون ضخمة مع مؤسسات تمويلية داخلية وخارجية بغرض الإستفادة من العمولات التي يتحصلون عليها او الإستفادة من الأموال التي يتم إستلامها عبر عمليات الدين وهدر الموارد في تنفيذ مشروعات ضخمة جديدة او تجديد إنفاق علي مشروعات فاشلة بغرض الحصول علي مكاسب مالية غير مشروعة.
7-      فوضى الأسواق وإرتفاع أسعار السلع والخدمات نسبة لزيادة تكلفة العمل او المنتجات التجارية نتيجة زيادة المدفوعات غير المشروعة.
فيما يخص العملية التنموية، فللفساد أضرار ممتدة منها:
1-                    إعاقة وعرقلة التنمية والنموء و التسبب في إستدامة التخلف الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وسوء العدالة في توزيع الدخل، وزيادة معدلات الفقر.
2-                   ضياع كثير من الموارد المالية التي يمكن إستغلالها في عمليات التنمية والترقية الإجتماعية مثل نشر التعليم، والرعاية الصحية، ومشروعات الدخل . ويمكن أن تضيع هذه الموارد قبل دخولها للخزينة العامة عبر الفساد والتهرب الضريبي، كما يمكن أن تضيع بعد دخولها الخزينة العامة بسبب سوء الإستغلال والإختلاس والرشوة.
3-                  ترسيخ التفاوت الإجتماعي والطبقي بين فئات المجتمع  بسبب عدم المساواة في المعاملة والتسهيلات التي تجدها مجموعة دون أخرى نسبة لإرتباطات أسرية او عرقبة او طبقية او لقدرتهم علي دفع الرشوة .
4-                  حرمان  الكثير من المواطنين لا سيما من الطبقات الدنيا والفقيرة من الحصول علي حقوقهم بما في ذلك حقهم في الترقي الإجتماعي والمنافسة علي الوظائف والحصول عليها والترقي الوظيفي في مساراتها، فالفساد عملية سلوكية تحابي المجموعات الأقوى في المجتمع وتمنحها حقوقاً أضافية علي حساب المجموعات الأضعف وبالتالي يساهم في تزايد وإستمرار التفاوت الطبقي وما قد يقود إليه من تحديات قد تهدد السلام الإجتماعي والتعايش.
5-                  إحجام الدول والجهات المانحة عن تقديم المعونات والمساعدات التنموية نتيجة الخوف من إساءة إستغلال الأموال الممنوحة وتحويلها للأغراض الخاصة.
ويتسبب الفساد في عرقلة العمل الإداري وتطوير كوادره ويتسبب في إعاقة التنمية الإدارية، يمكن تلخيص أهم الأضرار في النقاط التالية:
1-                    عرقلة عمل المؤسسات الحكومية وأداء مسؤولياتها في إنجاز الوظائف والخدمات .
2-                  إضعاف وخلخلة الأجهزة الادارية للدولة وتدجينها حتي لا تتسبب في كبح جماح الفساد وتحجيمه. وهذا يحدث عندما يتمكن الفساد في عصب النظام السياسي.
3-                  بث روح الأنانية وعدم الإخلاص لدي المستخدمين.
4-                  تعطيل مشروعات التطوير المهني والاداري في المؤسسات عبر قيام المسؤولين الفاسدين بمقاومة مطلوبات تطوير النظم القانونية والإدارية بهدف الرغبة في الحفاظ علي مصالحهم عبر النظم التي تسمح لهم ذلك، وينعكس ذلك سلباً علي النمو والتطوير المطلوب والأخذ بأسباب التكنولوجيات.
5-                  إضعاف الكادر الإداري .
6-                   التلاعب بالقوانين والنظم واللوائح الادارية والتنظيمية والتراخي في تنفيذها. ومن نماذج التلاعب و التراخي التلاعب في اجراءات المشتريات العامة ، وضعف رقابة الدولة علي الأسواق و الإنتاج الإقتصادي والواردات عبر التساهل في المواصفات والمعايير والمطلوبات، وضعف حماية حقوق الملكية وتسيب الموظفين وتفريطههم في أداء مهامهم ومسؤولياتهم.
7-                  نزيف العقول وتشريد الكفاءات المهنية المقتدرة العمل في القطاع العام بسبب محاربتها من قبل عصابات الفساد نتيجة رفضها لممارسة ألاعيب الفساد. ويتسبب ذلك في  ضياع الكوادر البشرية المقتدرة و لايبقي في المؤسسات العامة الا ضعاف الموظفين او الفاسدين او المتصالحين مع الفساد.
8-                  ضياع الكثير من وقت المراجعين من المواطنين وغير المواطنين نسبة لتعمد الموظفين والمسؤولين الفاسدين علي تعقيد الإجراءات والتلاعب بالوقت لإجبار طالبي الخدمة لتقديم الرشاوي لهم نظير الإسراع في إنهاء المعاملات.
لا تتوقف آثار الفساد على الدولة والإقتصاد والسياسة فتذهب ايضاً لإفساد قطاعات أخري مهمة مثل الإعلام والمجتمع المدني . ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:
1-                  إلحاق الأضرار بنسيج المجتمع وسلوكيات الأفراد عبر إنتشار الأنانية وضعف الإنتماء الجماعي، والإحساس بالمسؤولية العامة، وإنتشار روح الإحباط مما يؤثر سلباً على الإنتاج والمبادرات.
2-                  بث ثقافة متساهلة مع الفساد وعدم الإنضباط بأخلاقيات العمل والقيم السمحة وشيوع حالة ذهنية تبرر الفساد.
3-                  إفساد وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية عبر تكوين شبكات علاقات مصالح بين المسؤولين والسياسيين ورجال الأعمال الفاسدين وقادة وكوادر هذه المؤسسات وإستغلالهم في تغبيش وعي المجتمعات، وتبييض أعمال المسؤولين ورجال الأعمال الفاسدين وتقديمهم في ثوب رجال صالحين للمجتمعات.



الاثنين، 9 مارس 2020

تعليقات على نظرية تشريح العقل الرعوى للدكتور النور حمد

كتب الدكتور النور حمد ، وهو من أميز الكتاب السودانيين ومن أكثرهم غزارة في الإنتاج المعرفي، مقالاً متميزاً بعنوان تشريح العقل الرعوي، أرجع فيه الكثير من الأخطاء والسلبيات في السياسة والمجتمع السوداني الي الطبيعة الرعوية. وجد المقال إحتفاء الذين رأوا فيه تفسيراً لكثير من الإشكالات التي واجهت الدولة والمجتمع في السودان فيما رأى فيه البعض محاولة تفسير غير موفقة ويعتبر شخصي الضعيف من الفئة الأخيرة.  كان الأولون أكثر سعادة بحكم كونهم إكتشفوا تبريراً منطقياً ومعقولاً وعدواً مخًفياً تسبب في كثير من إشكالات الفشل الإداري والتخبط  السياسي وغياب البصيرة وعجز القادرين عن التمام في سلوك النخبة السودانية وأثر ذلك على عملية التحديث، وبناء الدولة، والدمقرطة، والنمو الاقتصادي والمعرفي ،والإندماج القومي بالبلاد. ومن حق هؤلاء الفرح وهم يكتشفون الداء والعدو الذي أقعد بالبلاد وتسبب في مرارات أهلها وفق ما أشار الدكتور حمد.  
إتهم الدكتور في سياق كتابته المجتمع الرعوي بعدم النظام، والجنوح نحو الفوضى، وعدم الإلتزام بالنظم والقوانين، والقسوة ضد الخصوم، ومناصرة القريب على الغريب، والإنكفاء الذاتي ورفض الآخر. وحاول إرجاع الكثير من السلوكيات المتصلة بالسياسة والحكم الى تأثيرات العقل الرعوي ومنها ممارسة السياسة بأساليب المؤامرات، والقهر، والصراعات مشيراً الى الطبيعة الرعوية في تكوين المجتمع السوداني الذي تكون نتيجة هجرة مجموعات عربية إختلطت مع المجموعات الرعوية والبدائية المحلية. لدعم وجهة نظره، إستدعى الدكتور الكثير من الأدلة بما في ذلك القران الكريم الذي إقتبس بعض آياته التي توصف الأعراب بالكفر والنفاق. لا أدرى إن كان الإستدلال القراني في هذه الحالات مصيباً لان آيات القران تحتاج لمعرفة السياق الذي نزلت فيه وأسباب نزول تلك الآيات.
يبدو ان الدكتور ظلم بطريقة مقصودة او غير مقصودة فئة مهمة من قطاعات المجتمع، وهي فئة الرعاة حين وصفهم بالفوضى وعدم النظام. لست هنا بصدد الدفاع عن البدو او تمجيد البداوة رغم أننى حفيد أبالة وأنتمي لمجتمع رعوي في المقام الأول وهو مجتمع شرق السودان او بالاحرى قبائل البجا، لكن أرجو إبراز بعض الملاحظات:
اولاً: المجتمع البدوي ليس مجتمعا فوضوياً كما حاول إظهاره السيد الدكتور، ففي حياة البداوة قدر كبير من النظم التي لا تقل صرامة عن تلك التي في حياة المدن. ففي مجتمع البجا على سبيل المثال، يتضمن القانون العرفي قدراً كبيراً من التفاصيل التنظيمية المهمة للعلاقات الإجتماعية و إدارة الموارد الطبيعية. رغم تخلف هذه النظم الا أنها بحكم كونها مبادرات مجتمعية إيجابية ساهمت في المحافظة علي بقاء مجتمع البجا وإستمرار الحياة الإجتماعية في بيئهم وهكذا دواليك في المجتمعات الاخرى في السودان.  فقد ظللنا نسمع عن نجاح الجودية والأعراف المحلية في إحتواء صراعات المزارعين والرعاة بدارفور لعقود مضت دون تطور التنافس الطبيعي بين مجتمعات الرعاة والمزارعين الي صراع دموي كما جرى الحال فيما بعد عقب تراجع دور زعماء الجودية وحكماء القبائل وتصدر الافندية والتجار والشباب للمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ثانياً : عانت المجتمعات البدوية على مر التاريخ من ظلم وإستغلال المجتمعات الحضرية عبر توجيه آليات السلطة وإستغلالها لإخضاعهم. لقد ظلت نخبة المدن تنظر للرعاة كمجموعات خارج النظام وخارج سيطرة الأجهزة الرسمية تقتضي الحضارة والحداثة إخضاعهم للسيطرة وتصفية نمطهم المعيشي وهنا تدخل سياسات أحياناً تبدو تنموية في ظاهرها لكن تهدف في جوهرها ومدى تأثيرها لزيادة سيطرة قوى الحضر على المجتمعات البدوية. وكان تأثير البدو على مر التاريخ في تكوين السلطة وممارستها ضعيفاً حيث كانت السلطة حكراً لسكان الحضر دون غيرهم، وبذلك فقد ظل البدو بعيدين عن دائرة صناعة السياسة وإتخاذ القرار. فمن الطبيعي أن يجد البدو أنفسهم في ظل هذه الظروف في وضع يقلل درجة ثقتهم في قرارات السلطة لا سيما لو كان لهذه القرارات مردوداً سلبياً على نمط حياتهم او سبل كسب العيش في بيئاتهم.
ثالثاً عانت مجتمعات البدو والريف من تبعات التعالي النفسي والإنطباعات السالبة المصنوعة من قبل الحضريين. هذه الإنطباعات تتحول الي مواقف ساخرة من  البدو في أشياء كثيرة مثل طريقة الحديث او اللبس وخلافه. هذه الإنطباعات ومواقف السخرية لا تتوقف عند التعليقات العابرة بل تساهم في تشكيل مواقف اكثر تشدداً ضد كل ما هو بدوي او ريفي لدرجة تؤدي الي إستحلال ظلم البدوي والتعدى عليه.
رابعاً: لم تخلو العلاقة بين المجتمعين الحضري والبدوي من إستغلال اقتصادي ممنهج يميل لصالح المجتمعات الحضرية عبر استغلال موارد الريف لصالح الحضر وتسخير الانسان الريفي نفسه لخدمة إحتياجات المجتمعات الحضرية مثل توفير المنتجات الزراعية او الحيوانية التي تذهب بشكل مباشر لصالح الحضريين ورفاهيتهم.وهنا نجد أنفسنا أمام حالة تجسيدية لجدلية المركز والهامش في تجلياتها الكونية والمحلية بكل ما تمثله من ظلم وإخضاع الأضعف لخدمة الاقوى. في المستوي الكوني تذهب المنتجات الاولية للبلدان الفقيرة الي دول العالم المتقدم ليعاد تصنيعها وترجع لتباع مرة اخرى للدول الفقيرة بقيمة اكبر وذات العلاقة تمارس في مستوى البلد الواحد عبر نقل المنتجات الاولية من المناطق الريفية للمراكز الحضرية لضمان استمرار الصناعة في تلك المراكز وتعاد مرة اخرى. وتنطوى علاقة الانتاج بين قوي الحضر وسكان الريف من خلل وظلم من حيث العائد ومن حيث المجهود المبذول. من النماذج الحية لهذه العلاقة المختلة للانتاج في السودان المقارنة بين مساهمات قطاع الثروة الحيوانية في الميزان التجاري والاقتصاد الوطني وحجم المردود الفعلي العائد لرعاة ومنتجي هذه الحيوانات في مراعيها الطبيعية في كردفان ودارفور والبطانة وغيرها من سهول السودان. فالعائد من العملة الصعبة لصادر هذا الانتاج يذهب للوسطاء وكبار التجار ولا يذهب لفئات الرعاة الذين تقع عليهم ايضاً مسؤولية تغذية المدن باحتياجاتها من الانتاج الحيواني.
ونعود مرة أخرى الى مسألة المؤامرات والقسوة في الحياة السياسية وربطها بالتراث الرعوي كما تفضل الدكتور. فهذه الأخيرة بشكل عام ترجع الي أمراض النفس الإنسانية في المقام الاول وقد ترجع الي جذور تربوية وهي لا ترتبط بمجتمع دون آخر. فلو نظرنا الى بعض الأمراض النفسية مثل النفاق والكذب نجدها أكثر حضوراً في سلوكيات المجتمع الحضري وتظهر بصورة أقل في المجتمعات البدوية التي يتسم أفرادها بالوضوح والصفاء النفسي والتحرر من الخوف وتبعاته.
ولو عدنا لمسألة الإنكفاء الذاتي، فان إنكفاء اهل البادية يقابله إنكفاء آخر في المجتمعات الحضرية. فأهل البادية غير مرغوبين في المجتمعات الحضرية. فالبدوي في المنظور السائد في الحضر، هو إنسان غير حصيف في الكلام، ويعوزه الإنضباط السلوكي السليم، ويفتقد الأناقة في الملبس والإلتزام بالشروط الصحية في المسكن، والقدرة على الوفاء بالتقيد المطلوب في المجاملات الإجتماعية، وضوابط تناول الطعام ، كما هو إنسان عدواني ووقح، وهي إنطباعات سيئة لا يمكن تعميمها على كل البدو.
إن الحديث عن سوء البداوة وتخلف البدو وجلافتهم يمنعنا من تلمس الجوانب الايجابية في تلك المجتمعات. بالطبع لا تخلو مجتمعات البدو من سلبيات ولكن هكذا الحال ايضاً في مجتمعات الحضر المليئة هي الاخرى بصور غير محببة. الإنسان البدوي حريص على حريته ، وهي قيمة جيدة ، كما يتمتع بمستوي معقول من النباهة والذكاء الفطرى الذي تغذيه طبيعة البداوة ومخاطرها. وفي جانب البيان، فاهل البادية أكثر قدرة على التعبير عن ذواتهم عبر الشعر والسرد القصصي مقارنة باهل الحضر.
الأمر الآخر الاكثر أهمية والذي يشكك في صحة فرضية الدكتور النور حمد هو نجاح كثير من المجتمعات ذات الجذور الرعوية في تحقيق النجاح التنموي والسياسي،  وتمكنها من بناء دول يشار عليها بالبنان. من هذه النماذج نموذج راعي البقر الأمريكي المساهم الكبير في إقتصاد البلاد وفي الثقافة الامريكية،  والنموذج الهولندي الذي تمكن من تطوير دولة صغيرة الي مزرعة عالمية تنافس كبريات الدول في إنتاج الألبان والأجبان واللحوم. وهكذا البوير الهولنديين الذين ذهبوا بأبقارهم الى جنوب افريقيا ونجحوا في خلق كيان متقدم اقتصادياً، بغض النظر عن المظالم التاريخية التي أوقعوها بالسكان الاصليين، فلازالت هذه الفئة تفضل السكن في مناطق المراعي الريفية في العمق الجنوب الافريقي، وتتحكم من مضاربها الرعوية في توجيه إقتصاد البلاد. ودعنا لا نذهب بعيداً، ونركز على أشقائنا العرب الخليجيين الذين يشاركونا ذات الجذور الثقافية الرعوية، ولكنهم رغم حداثة تجربتهم تمكنوا من بناء نظم مستقرة وإقتصاديات تنحو بثبات نحو التطور، وفوق ذلك قدرتهم على بناء علاقات إستراتيجية مع دول محورية في النظام الكوني، والمهارة الكبيرة في إستغلال القدرات البشرية للدول الأخرى في تطوير إقتصاديات بلدانهم، وهي مهمة ليست هينة تحتاج الى قدر كبير من المرونة النفسية لتقبل الآخر المختلف ثقافياً وعرقياً. فأهل الكويت نجحوا في إرساء نموذج متطور في ادارة الدولة في السياسة والاقتصاد، وهكذا أهل الأمارات الذي يستعدون لغزو الفضاء بعد أن تمكنوا من بناء نموذج دولة عصرية، ومدن تجارية مثل دبي إستوعبت بكثير من المرونة كل تناقضات البشر، وهكذا أهل قطر  بكل مهاراتهم في الحياة بين التناقضات والتجاذبات الاقليمية والدولية وفرض انفسهم كلاعب، وأهل عمان الذي نجحوا في إستمرار نموذج حكم إمتد لمئات السنين مع قدر كبير من الحكمة والتوازن، وأهل السعودية الذين  نجحوا في المحافظة على وحدة بلاد واسعة لا يجمعها تاريخ سياسي مشترك وقدرتهم غير العادية في الموازنة بين مطلوبات المرجعية الدينية والثقافية لبلادهم ومقتضيات الدولة العصرية والحاجة الملحة لمواكبة التطور العالمي والتفاعل مع العالم الخارجي. وبالتالي يمكن القول بعدم دقة فرضية تناقض الجذور الثقافية الرعوية مع حسن ادارة الدولة كما ذهب الدكتور.     

الخميس، 6 فبراير 2020

بحيرة كونستانس : عندما تفرض الجغرافية قوانينها الوحدوية على الدول


كونستانس او بوندسي بحيرة واسعة في منطقة إلتقاء لثلاث دول وهي المانيا والنمسا وسويسرا. تشغل المانيا الأجزاء الشمالية والشرقية من البحيرة حيث تتوسط هذه المنطقة مدينة كونستانس الالمانية التي أخذت البحيرة إسمها منها. أما الجزء الجنوبي الشرقي، وهو الأصغر فتشغله النمسا حيث تقع مدينة بريغنز عاصمة إقليم فوراربيرج النمساوي وهي مدينة رائعة. أما الجزء السويسري، فتشغله عدد من القري المتراصة علي الساحلين الجنوبي والغربي من البحيرة وهي قرى رورشا، واشتايناخ، سالمساخ، رومانشورن وغيرها من القري التي تقع في إطار كانتوني تورغاو و سانت غالين السويسريين. لكن الطريف في وضعية البحيرة وقاطنيها هو تناقض إعتبارات السياسة التي خلقت ثلاث دول في منطقة جغرافية واحدة مع حقائق العرق والثقافة، فلا يمكن أن تلاحظ اي نقاط للإختلاف بين سكان هذه المنطقة. فهم رغم إختلاف البلدان والنظم السياسية يعتبرون شعب واحد من ناحية الإعتبارات الثقافية والعرقية. فكلهم يتحدثون الألمانية ويعيشون في إقليم جغرافي واحد وتجمعهم قواسم مشتركة عديدة. وبذلك فقد نجحت حكوماتهم في إبراز هذه الروابط في علاقات الدول الثلاث، وفي عدم تحويل الحدود السياسية كحواجز مادية أمام حركة الشعوب وإعاقة تواصلها. فعند التحرك  حول البحيرة بالسيارات والقطارات او عبرها بالعبارات المائية لا تجد ما يعكر صفوك من حواجز وقيود ، فالحياة تسير كأنما هؤلاء جميعا يعيشون في بلد واحد. هذه الوضعية بلاشك تمثل بمثابة درس يمكن الاستفادة منه في الدول التي رسمت حدودها دون اعتبار لحقائق الواقع الديمغرافي لا سيما في افريقيا حيث تم تقسيم القبيلة او القومية الواحدة في دولتين او اكثر من دولة ، وتسبب هذا الوضع في تعكير صفو هذه المجموعات، وفي إنسياب ممارستها لحياتها بشكل طبيعي في ظل وجود حدود سياسية غير مرنة.
مرسي اليخوت في المدينة

مشهد من مرسي اليخوت والقوارب في المدينة

اطفال يشاهدون مشاهد من الحياة البحرية في اكواريوم مدينة كونستانس

صورة من المخلوق البحري مانتا ري في الاكواريوم

مشهد من اكواريوم كونستنانس

صغار السلحفاة البحرية - اكواريوم كونستانس
مشهد من بحيرة كونستنانس

تقع البحيرة ضمن السفوح الشمالية لجبال الألب التي تتوسط القارة الاوروبية، وتمنحها الكثير من الجمال والخصب، فالألب بلاشك تعتبر المعلم الأبرز في خارطة اوروبا الطبيعية. فالبحيرة هي بنت الألب حيث تتجمع فيها عدد من الأودية ويمر عبرها نهر الراين في مساره الأبدي بين جبال الالب و بحر الشمال. المساحة الكلية للبحيرة هي أكثر من 500 كلم متر وعرضها 13 كلم وطولها اكثر من 60 كلم وتتفاوت حجم أعماقها من منطقة لأخرى.
تظل كونستانس وجهة سياحية مميزة وجاذبة لعدد كبير من السياح الذين يتوافدون عليها على مدار العام. بالطبع هناك الكثير من الجواذب التي تجلبهم الي هذا المكان. لعل أكثرها هو زيارة موقع تتمكن من خلاله زيارة ثلاث دول في وقت واحد. هذا الجاذب قد يبدو طريفاً ولكنه بالفعل يشكل دافعاً لكثيرين لرؤية هكذا مكان. فالناس يحبون رؤية المناطق اللافتة للإنتباه. يزور البحيرة ايضاً الراغبين في التمتع بجبال الالب بخضرتها وهدوئها وهواة الرياضات المائية.
في مدينة كونستناس الألمانية يمكنك قضاء وقت جميل. فهي مدينة صغيرة الحجم لكنها مليئة بالجواذب الثقافية والتراثية وأماكن الترفيه العائلي ومنها الحدائق والمتاحف والأسواق المفتوحة والمراكز التجارية، ومرسي كبير لليخوت.
يمكن الوصول للبحيرة عبر الطيران سواء عبر مطاري ميونيخ و فرانكفورت بالمانيا او مطار سانت غالين السويسري الذي يقع في حرم البحيرة من الناحية السويسرية، كما يمكن الوصول عبر النمسا عبر مطار إنسبروك. أما الطرق البرية وطرق السكك الحديدية فهي متوفرة من كل الإتجاهات فيمكن الوصول من المانيا او النمسا او سويسرا او حتي فرنسا عبر مدينة استراسبورج التي لا تبعد كثيراً عن كونستنانس.
مركز تجاري في مدخل مدينة كونستناس الالمانية

مشهد من مدينة كونستانس