الخميس، 25 يناير 2018

في تخوم إمبراطورية تيتو: سلوفينيا بين عبقرية الجغرافية والحضارة



سلوفينيا دولة اوروبية صغيرة تقع في موقع ذكي منحها قيمة إضافية ، كما جلب لها الكثير من الأعباء طوال تاريخها مثلما هو الحال في كل البلدان التي تتمتع بمزايا الجغرافيا. يمكن إعتبار سلوفينيا دولة متوسطية بحكم إطلالتها الصغيرة على البحر الادرياتيكي المتصل بالمتوسط ، كما يمكن إعتبارها دولة من شرق اوروبا وإقليم البلقان وهكذا دولة من وسط اوروبا وغربها ودولة من جمهوريات الألب ، فهي منطقة للتداخل الثقافي بين تيارات الثقافات الألمانية والإيطالية والسلافية. عاشت سلوفينيا جزء من تاريخها وهي تتبع للإمبراطورية النمساوية المجرية قبل إنهيار الاخيرة بعد الحرب الكونية الاولي في العام 1918 ، كما اصبحت جزءاً من يوغسلافيا الذي قامت على الاقليم البلقاني من الامبراطورية المنهارة ، وهو كيان سياسي إرتبط معظم تاريخه بشخصية قيادية فذة نجحت في المحافظة عليه وإستمراره وبدأ هذا الكيان في الإنهيار بمجرد وفاة الأب المؤسس في ظاهرة غريبة في تكوين الدول وانهيارها وقد إكتمل هذا الإنهيار بالتزامن مع إنهيار الكتلة الشرقية في بدايات العقد الاخير من القرن العشرين. هذا الشخص هو جوزيف بروز تيتو وهو بالتأكيد شخص غير عادي ظهر في فترات تحول تاريخي وساهم بشكل فعلي في صناعة الإحداث وقيادتها . بدأ حياته جندياً في جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية ثم هاجر للإتحاد السوفيتي وإعتنق بعض أفكاره وليس كلها وعاد قائداً شعبياً قاد حرب التحرير ضد الوجود الألماني وتمكن من تأسيس الإتحاد اليوغسلافي الذي إستمر على قيادته حتي وفاته في بداية ثمانينيات القرن العشرين . نجح تيتو في تجميع عدد من القوميات في كيان واحد كما تمكن من صنع سياسية متوازنة في عالم فترة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي ، فهو من أهم رموز حركة عدم الانحياز . ونجح في تأسيس دولة تجمع بين ملامح الشرق والغرب في أوج فترات الصراع حيث أخذت يوغسلافيا ببعض إقتصاد السوق وبعض من نفوذ الدولة على التجارة والسوق ، كما إعترفت بنقاط التقاطع بين الشعوب ومنحتها قدر من الإستقلال الذاتي في إطار كيان إتحادي صارم .  ربما كان ذلك سبباً في تسهيل تقاسم الورثة ، فذهب كل بما تحت يديه .
تعتبر مدينة ليوبيليانا مركز الدولة السلوفينية وعاصمتها السياسية والإدارية ، وهي مدينة صغيرة حالها كدولة سلوفينيا ولكنها منظمة بالشكل المطلوب والسليم . قلعة ليوبيلينا تستقبلك بطلتها الملفتة للعيان وانت داخل للمدينة وهي صورة تتكرر في أغلب المدن الاوروبية حيث كانت هذه القلاع بمثابة مراكز للحكم وقيادة للجيوش فأغلبها مبنية فوق رؤوس جبال تمنحها موقعاً مركزياً ومتحكما في المدن وقد اصبحت في عصرنا الحاضر مواقع سياحية تستقطب السياح وتدر الدخل كما تمثل مكاناً لإستشراف التاريخ والتعلم من الماضي . وقد زرت عدد من هذا القلاع في المدن الاوروبية التي تشرفت بزيارتها مثل سالزبورج وغراتس.
يلاحظ السائر في شوارع ليبوبليانا بعض من الحيوية والحراك الذي يقوده الشباب المقبل على الحياه في شكل حفلات موسيقية في الشارع او تجمعات شبابية وقد لاحظت ذلك اثناء مروري بمواقع المدينة مثل ساحة الجمهورية او على ضفاف نهر ليبوبيانكا الذي يشق المدينة في مسار ضيق ولكن يعج بالحياة من كل نوع حيث تنتشر المقاهي والمطاعم . 
صورة لقلعة ليوبيليانا من ادني

مدينة ليوبيليانا من قمة القلة

 
جانب من نهر ليوبيليانكا الذي يشق المدينة

شجرة الميلاد بكامل زينتها في في وسط المدينة على ضفاف نهر ليوبيليانكا إحتفالاً ببدء العام 2018

ليبويليانا مدينة خضراء تشغل المساحات الخضراء حيزا معتبرا من مساحتها وقد أهلها ذلك للفوز بالجائزة الاوربية للمدن الخضراء في العام 2016 وتلاحظ الحجم الذي تشغله بعض الحدائق العامة المفتوحة مثل حديقة  تيفولي بارك التي تشغل حيزاً واسعا من مساحة المدينة وهكذا حديقة كروجنسكي.
للحب نصيب من التقدير في المعمار السلوفيني ، فعلي ضفاف نهر ليوبيلينكا خصص جسر صغير لمرور المشاة تحت مسمي جسر العشاق ( Butchers’ Bridge –Mosarki most ) في  تقليد اشبه الي حد ما بجسور العشاق في مدن اوروبية اخري مثل باريس او سالزبورج وغراتس وغيرها لكن في الجسر السلوفيني يطالعك عند المدخل تمثال لادم وحواء ، ربما قصد به تجسيد لمفهوم الحب الانساني وقيمته كرابط بين الذكر والانثي ، كما تجد الاقفال المعلقة موضوعة بشكل منتظم علي اعمدة الجسر ومكتوب عليها اسماء العشاق من الذكور والاناث وقد اعلنوا هنا ربطاهم الابدي والقوا المفاتيح في قاع النهر حتي لا يفتح هذا القفل مرة اخرى. ومن الجسور المهمة في المدينة جسر التنين والذي يقع بالقرن من جسر العشاق ، كما يمكن الانعطاف على سوق الفاكهة والخضر ، بالقرب من الجسر، حيث يتباري المزارعين في عرض بضاعتهم الطازجة والقادمة من المزارع مباشرة.
جانب من جسر العشاق

تمثال التنين في مدخل الجسر المسمي باسمه

اسواق المزارعين تقليد اوروبي جميل

تلاحظ إهتمام سلوفينيا بالفن والموسيقي والاداب في أكثر من ملمح ومنه العدد الملفت للمؤسسات التي تهتم بذلك في مركز مدينة ليبوبيليانا مثل دار الاوبرا السلوفينية والمرسم القومي والمركز الموسيقي فضلا عن العدد المقدر من المتاحف مثل المتحف الوطني ومتحف التاريخ الطبيعي . كما تجد هذا الاهتمام في التوثيق لرموز الابداع الثقافي في صور أخرى ، ففي منطقة مهمة في وسط المدينة علي ضفاف نهر ليوبيلانكا غير بعيد من مبني البلدية والقلعة التاريخية وأمام واحدة من أهم الكنائس التاريخية يقف تمثال كبير لاحد الشعراء السلوفينيين وهو بيرزنا (Perseren ) وتجد العشرات من الرجال والنساء المحيطين بالتمثال بغرض التقاط الصور التذكارية . وتسمى الساحة التي يقف فيها التمثال باسبومنيك فرانسيتا ( Spomenk Franceta) وهو اسم الكنيسة المواجهة للساحة. 
تمثال الشاعر السلوفيني بريزيرن

المتحف الوطني السلوفيني
 
المبنى الرئيس لجامعة ليوبيليانا

ساحة باسبومنيك فرانسيتا


عند زيارتي لاي عاصمة، أحرص عل زيارة البرلمان الوطني لما يمثله من قيمة ، ففي معظم الدول تجد البرلمانات حظها من التميز العمراني فضلاً عن قيمتها المعنوية كرمز لشرعية الحكم وسلطة  الشعب . ذهبت لإلتقاط صور من مبني البرلمان وهو مبني لا يخلو من بساطة ولكن جميل وأخاذ وتقع أمامه ساحة الجمهورية ( Trag Republike ) وهي الساحة التي شهدت إعلان ميلاد الجمهورية السلوفينية المستقلة في العام 1991 مما أعطي المنطقة التي تحتضن البرلمان زخماً إضافيا على قيمة البرلمان نفسه .     
مبنى البرلمان السلوفيني

ساحة الجمهورية بليوبيليانا

مبني بلدية ليوبيليانا

ساحة ليوبيليانا في وسط المدينة وتظهر القلعة في الخلف
   

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

بين قمم الألب الشرقية : زيلامسي وما حولها



ساحاول عكس إنطباعاتي عن رحلة جد مميزة واستثنائبة قادتني لغرب النمسا وبالتحديد لمنطقة زيلامسي وما حولها وبالتحديد الي مناطق كابرون وسالباخ وهنترقليم . زيلامسي مكان له قيمته الذهبية  في السياحة النمساوية والاوروبية بشكل عام ، فهي من اهم المقاصد التي تجذب الزائرين للنمسا حيث يتم تصنيفها كثاني مقصد سياحي نمساوي بعد العاصمة فيينا. يذهب بعض الزوار مباشرة لزيلامسي دون عبور فيينا حيث يصلون اليها بالطرق الاقرب عبر ميونيخ الالمانية او زيورخ السويسرية او ميلانو الايطالية حيث تستغرق الرحلة من فيينا ضعفي الرحلة اليها من ميونيخ الالمانية. زوار هذه المنطقة التي تتوسطها زيلامسي يتنوعون في اهتماماتهم واسباب زياتهم ، فهم نوعين بشكل رئيس. الفئة الاولي هم هواة التسلق ورياضات التزلج فهؤلاء يأتون في فصل الشتاء بحثاً عن الثلوج التي تغطي المنطقة ليمارسوا فيها هواياتهم المحببة اما الفئة الثانية فهم من يبحثون عن الهدوء والخضرة وهؤلاء يصلونها في فصل الصيف عندما تذوب الثلوج وتتحول الالب الي جنة الله في الارض، وغالبية هؤلاء من الاشقاء الخليجيين وتجد تأثيرهم في المدينة في شكل الاستخدام الواضح للغة العربية في المحلات التجارية والمطاعم التي ترفع بعضها عبارات تعريفية باللغة العربية كما تجد اصدارات إرشادية باللغة العربية صادرة من مكتب السياحة والشركات العاملة في مجالات السياحة . 
مشهد بانورامي رائع في الطريق الي زيلامسي حيث تستريح السحاب على قمم الجبال

مشهد لمدينة زيلامسي من بحيرة زيل
تعتبر زيلامسي ملتقي طرق يربط بين مناطق تيرول في غرب النمسا ومناطق وسط النمسا وشمالها وشرقها . المسافة بين زيلامسي وانسبروك عاصمة اقليم تيرول حوال المائة كليومترات  . اما المسافة بينها وبين  سالزبورج عاصمة اقليم سالزبورج الذي تقع ضمنه زيلامسي لا تتجاوز الخمسين كليومتر، وهكذا المسافة التي تربطها بولايتي ستيريا وكيرينتن بجنوب النمسا.  من حيث عدد السكان يمكن القول، ان زيلامسي مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد قاطنيها الخمسون الف واغلبهم يتوزعون على القري المثتنائرة على سفوح الجبال وشواطيء الوديان. لعل زيلامسي تعتبر اكبر مركز حضري وياتي بعده التجمعات الاخرى مثل سليفدين وكابرون وسالباخ وهنترقليم وغيرها.

بحيرة زيل هي الملمح الجغرافي الاكثر بروزا في خريطة المنطقة، وتقع مدينة زيلامسي علي ضفافها  وتستمد أسمها من اسم البحيرة  . فالبحيرة التي تشكل مستجمع للمياه الواردة من المرتفعات التي تحيط بالمنطقة ليست واسعة فهي لا تتجاوز الاربعة كيلومترات لكن عظيمة الاهمية في المنطقة حيث ترتبط العديد من الانشطة السياحية في المدينة عليها ، فمعظم الفنادق او ارقاها تقع على شواطيء البحيرة ، وكذلك المطاعم كما يتم تنظيم رحلات بقوارب صغيرة واخرى كبيرة في البحيرة حيث تستغرق رحلة اليخت الكبير حوالي ال 45 دقيقة يتحرك خلالها في اطراف البحيرة بحيث يتمكن الزوار من مشاهدة مناظر البحيرة والجبال المحيطة بالمنطقة كما يتمكنوا من التقاط الصور ، كما يتم تقديم برنامج تعريفي عن المنطقة والبحيرة باللغتين الانجليزية والالمانية. 
 
احدى المراكب التي توفر رحلات في داخل البحيرة

من البحيرة في اتجاه كابرون حيث يمكن ملاحظة القمة الثلجية من بعيد

في مدينة زيلامسي ويظهر القراند هوتيل الواقع على ضفاف البحيرة


 
نبذة تعريفية عن رحلة الامبراطورة اليزابيث لزيلامسي في 1885
من البرامج الشيقة في زيلامسي  التجوال داخل المدينة القديمة بأزقتها ومقاهيها التي تشم منها عبق التاريخ والحضارة النمساوية . كما يمكنك صعود قمة جبل شميتنهوه الواقف خلف المدينة والذي يوفر مشاهد بانورامية في غاية الروعة للمدينة الصغيرة والبحيرة. ويمكن الصعود اليه عبر تلفريك محطته في داخل المدينة . كما توجد هناك معالم اخري يمكن زيارتها وهي مبني بلدية زيلامسي وهو معلم تاريخي تمت اعادة استخدامه كمقر للسلطة المحلية وكذلك حديقة اليزابيث على ضفاف بحيرة زيل التي توفر مساحة للتجوال وسميت باسم الامبراطورة النمساوية المشهورة اليزابيث الملقبة سي سي زوجة الامبراطور فرانس جوزيف التي زارت زيلامسي في العام 1885 لكن تجد اثر زيارتها التاريخية باقيا حتي اليوم في المدينة، ففي المركب الذي صعدنا اليه لاخذ جولة في المدينة وجدنا صورتها ونبذة عن زيارتها لزيلامسي. كما توجد معالم اخري يمكن زيارتها في المنطقة الخارجية لزيلامسي مثل الحديقة الوطنية هوه تاورن التي تبعد عن زيلامسي حوالي النصف ساعة وتعتبر جاذب سياحي كبير يستقطب السياح خاصة المهتمين بالبيئة والحياة البرية حيث يمكن مشاهدة نماذج من بيئة الالب المتميزة . كما توجد شلالات كريمل التي تقع على مسافة غير بعيدة من زيلامسي وتوفر مشاهد طبيعية رائعة من طبيعة الالب ومساقط المياه المنهمرة من الجبال. وكذلك زيارة مدينة الملاعب المشهورة بفاميلي لاند اي ارض الاسرة على مسافة قريبة من زيلامسي وتوفر فرصة للاسر والاطفال للاستمتاع بالملاعب المختلفة.
يرتبط اسم زيلامسي باسم قرية أخرى وهي كابرون وهي قرية صغيرة وادعة تفصلها عن زيلامسي مسافة قصيرة تقطعها السيارة في حوالي العشرين دقيقة . ميزة كابرون وقوعها في ظل جبل كيبزيشيتهون المعروف بقمته الثلجية التي تجذب هواه تسلق الجبال في الشتاء والصيف تظل القمة تحتفظ بالثلوج في فصل الصيف بعد ذوبان الثلوج في السهول والجبال الاخرى. ويمكن الوصول للقمة عبر تلفريك مخصص. كما تحتضن القرية قلعة كابرون التاريخية التي يرجع تاريخها للقرن الثاني عشر الميلادي وبعض المنتزهات العائلية  كما يمكن زيارة متحف كابرون ومتحف السيارات القديمة.
صورة لكابرون من المدخل

بحيرة كالم في كابرون

القمة الثلجية في كابرون

كابرون

التلفريك في كابرون

مبني البانورما الذي يتحرك منه التلفريك في كابرون

اما قريتي سالباخ وهنترقليم اللتان  تبعدان عن زيلامسي لمسافة النصف ساعة يوفران بيئة مشابهة كالتي في زيلامسي وكابرون لكن تنحصر شهرتهما اكثر كاماكن لممارسة رياضة التزلج وتسلق الجبال وتحتضن القريتين عدد من الفنادق التي تخدم الزائرين كما تجد عدد من قطارات الصعود للجبال والممرات المخصصة للراجلين وسائقي الدراجات بل حتي السيارات التي تجد بعضها في مناطق عالية في سفوح الجبال في منظر ملفت للانتباه. 
يمكن مشاهدة قرية سالباخ من بعيد

محطة تلفريك ريتركوقل في هنترقليم فوق راس الجبل

مشهد من قرية هنترقليم من عل

ممرات المشاه فوق الجبل

قرية هنترقليم
 الطبيعة هنا اكثر من رائعة ولا يمكن وصفها بغير ذلك فهي احدي الجنان التي خلقها الله في ارضه. فلو اردت التعرف على ذلك فلا تتردد في زيارة هذه البقعة من الارض مهما كلفت من مال او وقت .  

الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

تحت اضواء باريس



لباريس شهرة فنية وأدبية لا تضاهيها فيها اي عاصمة أخرى . هذا رغم ان مدناً اخرى مثل روما وفيينا وسان بطرسبورج لا يقلون أهمية عن باريس من حيث حجم وقيمة التراث الثقافي و الادبي و الإهتمام بالفنون ، لكن هذا هو قانون الشهرة الذي يطغي على كل الإعتبارات. هكذا تعلم الناس أن باريس هي مدينة الفن، والحرية، والحب، والجمال، والنور ولن يقبلون لها بديلاً حتي حين. قديماً قيل أن الحب هو إحدى الارزاق التي يهبها الله لمن شاء فيجعل قلوب الناس تتعلق به،  وقيل ايضاً أن الحب أعمي وغير قابل للتبرير وغير خاضع للتفسير ومنطقه ، فهكذا احب الناس باريس وتعلقوا بها واسبغوا عليها القاب النور والجمال والفن والحب.  حتي لا نتجاوز الواقع والحقيقة يجب ان نقر ببعض المبرررات لهذا الحب . ربما يكون للغة الفرنسية بكل ما تمثله من ذوق وصوت جميل وعطاء أدبي ثر دوراً محورياً وراء هذا الحب ، ربما كان للثورة الفرنسية التي شكلت إحدى نقاط التحول الجوهرية في التاريخ الأوروبي او العالمي أثر في ذلك، فالثورة الفرنسية لم تكن ردة إحتجاجية عابرة بل ألهمت الشعوب في كل بقاع الارض قيم الحرية والمساواة في الممارسة السياسية ، وانهت الاقطاع بكل ما يمثله من ظلم إجتماعي وإقتصادي مركب للمجتمعات لصالح أقلية مترفة ، ورسمت معالم النظم الجمهورية كبديل للجيل القديم من الملكيات المطلقة، وكانت للثورة الفرنسية فلسفتها وادبياتها . هناك جانب آخر من مزايا فرنسا والتي قد تكون سببا في دفع الناس لحب هذا البلد ، وهو الكم الهائل من التراث الثقافي والعدد الكبير من  رموز الفن والادب والفلاسفة الفرنسيين الذين اورثوا البشرية عطاء ادبياً غزيراً ، فكل الانسانية تعرف جاك جان روسو وفيكتور هيجو وغيرهم . كل هذه العوامل بالطبع تضافرت في ترسيخ الصورة الجميلة والزاهية لفرنسا الدولة ولباريس العاصمة .
سافرت الي باريس محمولاً بكل  هذه الصور الذهنية الجميلة . لأرى الفن في كل ركن وأرى الجمال في اي مكان، ليس فى وجوه الناس وملامحهم فقط لكن في معاملاتهم، ممارساتهم ، ولارى الحرية في معانيها السامية . أعترف ان زيارتي كانت مختصرة حيث لم تستغرق اليومين ، وهي كافية لأخذ إنطباعات ولكن بالتاكيد ليست كافية للحكم على مدينة معقدة وثرية كحال باريس . كان بودي زيارة كل معالمها ومتاحفها وحدائقها ومعالمها لكن لم استطع.
المدينة مكتظة الي حد كبير ، هذا ما تلاحظه عندما تسير في الشوارع او عند إستغلال وسائل المواصلات العامة او حتي عندما تستغل سيارة او تاكسياً في الشارع . يتجاوز عدد قاطني منطقة باريس الكبرى التي تشمل المدينة وضواحيها حوالي 12 مليون نسمة وبالتالي تعتبر من أكبر الحواضر الاوروبية اكتظاظاً بالسكان . ربما تكون هذه نقطة تنتقص من جمال المدينة ورونقها. جانب آخر هو التنوع الكبير الذي تلاحظه على سكان باريس ، ان ظل الكل يتحدث الفرنسية بصوتها الفريد الا انهم من اصقاع شتي من الارض ، منهم الافارقة والعرب واللاتينو والاسيويين، فهي تعتبر نقطة ايجابية لصالح المدينة التي احتفظت لنفسها بابناء من كل الالوان والاشكال . 
برج ايفل
 يحرص اي زائر لباريس على زيارة برج ايفل ، فهو المعلم الباريسي الاشهر والابرز بامتياز. هالني العدد الكبير من السواح المتجمهرين تحت البرج وهم يلتقطتون الصور ومنهم من يقف في صف طويل لصعود البرج.  يقع البرج الذي يرتفع الي اكثر من 300 متر ويمكن رؤيته من اماكن متفرقة من المدينة، على ضفاف نهر السين الذي يشق المدينة في مسارة الابدي نحو القنال الانجليزي او بحر المانش الذي يفصل بين الجارين المتنافسين دوماً بريطانيا وفرنسا. نهر السين يعطي باريس بعضاً من أهميتها، وبعضاً من جمالها فهو الذي يربطها باجزاء مهمة من اقاليم فرنسا كما يعتبر مساراً لنقل البضائع عبر السفن النهرية .
شارع الشانزلزية يشغل أهمية خاصة في حياة المدينة الثقافية والسياحية ، هذا الشارع المقترن بقوس النصر الفرنسي ، هو منطقة تعج بالحيوية والحياة، فمقاهيه وفنادقة ومتاجره العديدة تستقبل الزوار في كل لحظة ، لا سيما في فترة احتفالات راس السنة الميلادية حيث  يكون الشارع في قمة انتعاشه ويتم تزيين جنبات الشارع بالأنوار المشعة  . 
قوس النصر معلم آخر يرتبط بطموحات الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الذي طبقت شهرته الآفاق و غطت معاركه كل الإتجاهات و كل الانظمة حيث شغل اوروبا والعالم حيناً من الزمان، وهو يسعي لنشر سلطته او نوره الفرنسي بالقوة والقهر في أرجاء المعمورة. بني هذا المعلم تخليداً لبعض هذه الانتصارات ففي داخل الصرح كتبت أسماء القادة العسكريين وأسماء المعارك التي خاضوها . يقع المبني الرمزي في منطقة في وسط باريس تعتبر ملتقي لعدد يفوق العشرة طريقاً .واحدي هذه الطرق شارع الشانزلزيه الشهير . 
شارع الشانزلزيه

قوس النصر الفرنسي
 اذا كنت زائر لباريس، أحرص على زيارة متحف اللوفر فهو أهم المتاحف العالمية، ويحتضن عدداً كبيراً من التحف والرسومات والموروثات ومن كل أنحاء العالم . سيوفر لك المتحف رحلة عميقة عبر التاريخ ، ستعرف عن فرنسا وعن اي مكان وعن بلادك احياناً . بعض هذه الموروثات فرنسية، وبعضها مجلوب من بلدان بعيدة منها  بلاد الشرق عبر فترات زمنية متعددة . ونسمع بين الحين والآخر من يدعو لارجاع هذه الآثار الي بلدانها الاصلية. هي في المقام الاول قضية قانونية يجب ان تحل في إطارها القانوني ، فبعض هذه الاثار خرجت بموافقة البلدان الاصلية وفق قوانينها التي منحت البعثات الاستكشافية الأجنبية جزء من هذه الآثار ، كما توجد حجة اخرى قد يحتج بها الذين تقع هذه الاثار في حوزتهم، وهي انطباق مبدأ الملكية العامة على الموروثات الثقافية القديمة مثل الكتب التاريخية القديمة على الآثار بحيث يتم التعامل معها كإرث كوني إنساني . على كل يمكن القول أن هذه الاثار في أيدي أمينة، وستبقي إرثاً كونياً يشاهده الناس كموروثات تعبر عن حضارتها الأصلية  . في مدخل اللوفر يطالعك هرم زجاجي في إشارة واضحة لتقدير الحضارة المصرية، وهي لفتة ربما حرص القائمين على أمر اللوفر على  إبرازها ليقولوا أن متحفهم يشكل محوراً ثقافياً كونياً، وقد تكون ايضا تقديرا للاثار الفرعونية في المتحف .
مكان اخر لابد من الوقوف عنده لو سمح لك الوقت بزيارته وهو قصر فيرساي الواقع  في ضواحي باريس. يعتبر فيرساي من أهم القصور الملكية الاوروبية، ويجسد صورة حقيقة عن حياة الأباطرة الاوروبيين بكل ما كانت تمثله من ترف وإنفاق ضخم على حياتهم وراحتهم.  كما يرتبط بأحداث تاريخية منها الثورة الفرنسية ومقتل الإمبراطور لويس السادس عشر وزوجته مارى انطوانيت، وكذلك بحدث تاريخي كبير في عالمنا المعاصر وهو توقيع الإتفاقية التي أعقبت الحرب العالمية الاولي والتي تم بموجبها إعادة تقسيم القارة العجوز وتحديد مناطق النفوذ للقوي المنتصرة في الحرب .
هناك العديد من المعالم الرئيسية والمسارح ودور الموسيقي والمتاحف والكنائس الأثرية التي يمكن زيارتها في باريس ، فهي مدينة لن تتحقق من زيارتك لها فعلاً الا بقضاء أيام وليال تجول فيها متفحصاً ودراساً لهذه المعالم ، ومنقباً في خبايا تاريخها وفي رمزيتها .