الجمعة، 8 سبتمبر 2017

لاكسمبيرج النمسا: ضاحية فينيية تستحق الزيارة



لكل المدن الحواضر عدد من المراكز الحضرية الصغيرة التي تحيط بها وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً في حال اشبه بحال شتول النخيل التي تزهر حول النخلة الكبيرة . لمدينة فيينا نصيب من هذه الضواحي البراعم ولعل لاكسمبيرج تعتبر من أهمها .  لا تبعد لاكسمبيرج اكثر من 20 كيلومتر من مدينة فيينا وهي تقع في اتجاه الجنوب على الطريق المؤدي للمجر والمدن النمساوية في شرق وجنوب شرق النمسا مثل ايسن اشتاد . دائما يخلط الناس اسم لاكسمبيرج باسم لوكسموبرج وهى الدولة الاوروبية الصغيرة والمؤثرة في ذات الوقت . لاكسمبيرج التي نحن بصددها قرية صغيرة لا يتجاوز عدد قاطنيها الثلاثة الف وكذلك مبانيها التي تقل عن ذلك بكثير الا انه تبدو عليها الفخامة والنظام غير ان مساحات الغابات والحدائق تشغل الجزء الاكبر من المنطقة.  ارتبطت القرية بالحديقة الكبيرة التي يتوسطها احد قصور اباطرة اسرة هابسبورج التي حكمت الامبراطورية النمساوية المجرية لعقود حيث اتخذت الاسرة هذه القرية كواحد من مقارها في فترة الصيف  . شهدت قصورهم في لاكسبيرج ميلاد عدد من الامراء كما ارتبطت ببعض الاحداث المهمة  في الحياة الملكية.
قصر فرانسبيرج والبحيرة

البحيرة التي تتوسط الحديقة الرئيسية

مؤخرا حاولت الحكومة النمساوية توسيع مهام هذه القرية عبر اتخاذها كمقر لعدد من المؤسسات الدولية والوطنية مثل الاكاديمية الدولية لمكافحة الفساد وهي هيئة دولية تستضيفها النمسا وتعمل بشكل رئيس في مجالات البحوث والتدريب المتعلق بمكافحة الفساد وقدمت الحكومة النمساوية احد القصور التاريخية كمقر للاكاديمية. وكذلك المعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية وهو ايضا مؤسسة اكاديمية بحثية تتخذ من القرية مقرا لها.
عند زيارة القرية تجد عدد كبير من السياح والزائرين سواء القادمين من مدينة فيينا لا سيما في عطلات نهاية الاسبوع او القادمين من المناطق الاخرى في العالم الذين يزورون النمسا ويقودهم منظمو الرحلات السياحية في فيينا لزيارة لاكسمبيرج ضمن الجولات السياحية المعتادة .
تحتضن الحديقة الرئيسية أهم المعالم التاريخية في القرية مثل قصر فرانسنبيرج الذي يتوسطها و القلعة القديمة ( Altes schlos )  التي يقع مبناها في مدخل الحديقة في إتجاه اليمين وهي المبني الاول الذي بني في القرن الثالث عشر الميلادي  في داخل الحديقة كمقر لممارسة الصيد البرى لاحد اباطرة النمسا . كما تجد عدد من التماثيل والنصب. يعتبر قصر فرانسبيرج الذي سمي للامبراطور فرانس من اهم معالم الحديقة وبإمكان الزائر التجول في المتحف الذي يحتويه والذي يؤرخ لتاريخ الامبراطورية النمساوية وبامكان الزائر الاستمتاع بتناول وجبات شهية في المطعم الملحق بالقصر او استئجار قارب صغير للتجول به في البحيرة الكبيرة المتصلة بالقصر . 
شلال صناعي يتوسط الحديقة

مدخل الحديقة ويظهر من على البعد مبني القصر القديم او القلعة القديمة

توجد اماكن متفرقة للاستراحة والجلوس وملاعب للاطفال في الحديقة




الأربعاء، 16 أغسطس 2017

المتحف العسكرى النمساوي: قصص ودروس



التاريخ قصة رائعة السرد ، وحكاية جميلة التسلسل وموضوع جيد للبحث والدراسة لكن في واقع الحال هو الأحداث ومايرتبط بها من موت ودمار . هذه هى صورة التاريخ الزاهية التى نفاخر به دون وعى بما تمثله الحروب من مأساة . هذه الحقيقة تدركها بكل صورها في المتاحف العسكرية التي تجمع الصورة الكاملة لنشوة الفخر المقرونة بالمآساة والهزيمة المرتبطة بالندم والخجل . متحف فييينا العسكرى يكتسب موقعاً خاصاً من بين المتاحف العسكرية في العالم نسبة لما يمثله البلد من موقع في خريطة الأحداث التاريخية الإقليمية والعالمية. من هنا بدأت الحرب العالمية الأولي التي راح ضحيتها ملايين البشر وهي ذات الحرب التي شكلت الأساس والبذرة للحرب المدمرة الأخرى والتي ايضاً توقفت عند إقتحام الحلفاء لمواقع دول المحور الأساسية ومنها فيينا في العام 1945. كما إرتبطت النمسا بأحداث مركزية اخرى في اوروبا والعالم مثل مؤتمر فيينا في 1814 – 1815 المنعقد بعد الحروب النابليونية وانهيار الامبراطورية الرومانية والذي تولي رسم الخارطة السياسية لاوروبا  ، كما ارتبطت ايضا بصراع الإمبراطورية العثمانية مع القوي الغربية في اوروبا الشرقية .
يقع المتحف في وسط مدينة فيينا في منطقة سهلة الوصول بالقرب من محطة القطارات الرئيسية بالمدينة ( هاوبت بان هووف) ، وغير بعيد من معالم سياحية أخرى مثل قصر البلفيدير . ويعرض التاريخ العسكري النمساوي في فتراته المختلفة وفق التسلسل التاريخي للأحداث. المتحف هو أحد الافكار والمبادرات المقدرة التي قام بها القيصر فرانس جوزيف امبراطور النمسا والمجر الذي تجد له حضوراً مقدراً في النمسا حيث أن الكثير من المباني والأماكن العامة بنيت في عهده . بنى المتحف خلال الفترة 1850-1856 ، وينقسم الي عدد من الصالات التي تعرض صور تاريخية ونماذج من الاسلحة .
في باحة المتحف ، يطالعك تمثال لجندي مدجج بزيه وأسلحته ولكنه مطرق الرأس ويبدو عليه الحزن . ربما قصد صانع التمثال وواضعيه في بهو المتحف وصف الحالة التي يعيشها الجنود الذين وضعتهم أقدارهم في هذه المهنة الصعبة . الجنود يدفعون ثمن الحروب قبل الآخرين، ويدفعون ثمن أخطاء الساسة وطموحاتهم. يدفعون هذه الأخطاء ارواحهم واجسادهم وصحتهم  وهي بلاشك أغلى مقتنيات الإنسان . كما تحتضن الساحة التي تسمي بحديقة الدبابات وفق التسمية الالمانية عدد من الدبابات والطائرات التي أستخدمت في الحروب النمساوية.
تمثال لجندي في مدخل المتحف

القسم الخاص بتوثيق مرحلة الحرب العالمية الأولي (2014-2018 ) الذي يقع في الطابق الارضي ،يشغل حيزاً مقدراً في معروضات المتحف ويجد اهتماماً من الزائرين خصوصاً السيارة التي أغتيل فيها ولي عهد النمسا الارشيدوق فرانز فرديناند وزوجته صوفي في مدينة سراييفو البوسنوية في 28/6/1914 على يد شاب صربي يدعي غافيرلو برنزيب،  وبعض المقتنيات التي تخص الأمير وزوجته. ويمكن ملاحظة أثر الرصاص على السيارة. وقد تسببت الحادثة في إندلاع الحرب العاليمة الاولي التي بدأت بين النمسا وصربيا ومن ثم تطورت بدخول شركاء آخرين، وإنتهت بنتيجة مؤلمة للنمسا وحلفاؤها  حيث إنهارت الامبراطورية النمساوية المجرية ، وتحولت النمسا الي بلد صغير بعد ما كانت إمبراطورية مترامية الأطراف تشمل اغلب مناطق وسط وشرق اوربا. ونصت معاهدة فرساى الشهيرة التي وقعت بعد إنتهاء الحرب على شروط قاسية ومذلة  لالمانيا ، وتركيا،  والنمسا. ويتضمن المعرض صور ومقتنيات ومعدات عسكرية وأدوات واسلحة تخص فترة الحرب العالمية الاولي. 
السيارة التي اغتيل فيها السيد ولى عهد النمسا في سراييفو 1914
 
مدفع من ادوات الحرب العالمية الثانية

شعار الحقبة النازية
سيارة عسكرية تابعة للجيش الامريكي وعليها اعلام الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية

صورة لجندي يستعد لرمي قنبلة من طائرة خلال الحرب العالمية الثانية

طائرة عسكرية من الجيل الاول

دبابة من الاجيال الاولى

تم تخصيص قاعات محددة لحروب بعينها اذا خصصت الصالة الأولي للحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت والتي تعود الي ما قبل 350 عاما و، كذلك الحروب بين العثمانيين والامبراطورية النمساوية ومنها حصار فيينا الاول من قبل الاتراك ما بين 27 سبتمبر الي 14 اكتوبر 1529 والثاني ما بين 15 يوليو الي 15 سبتمبر 1683 ، ويضم المعرض أسلحة وتجهيزات عثمانية وسيوف شرقية وأدوات تركها العثمانيين بعد فك الحصار وإنسحابهم في عام 1683 بعد هزيمتهم من قبل النمساويين المدعومين من قبل البولنديين. تجد أحد الأعلام العثمانية مكتوب عليها قوله تعالى: ( نصر من الله وفتح قريب ) . وتقع القاعة الخاصة بالفترة العثمانية في الطابق الأول من المبنى.
علم من مخلفات الجيش العثماني بعد فشل حصار فيينا
كما يتضمن المتحف مخلفات جيش نابليون التي تركها في معركة لا يبتزيع أمام النمسا وبروسيا والتي تبعها إنعقاد مؤتمر فيينا (1814-1815 ) الذي أعاد رسم الخارطة الاوروبية بشكل يحقق مصالح الحلفاء.
الملفت للنظر هو وجود القاعة المخصصة للقوات البحرية النمساوية ، والمعارك البحرية التي قادها النمساويين ضد خصومهم وأهمها معركة ليسا في البحر الادرياتيكي التي إنتصر فيها الاسطول النمساوى على القوات البحرية الايطالية في 1866 . بالطبع هذا يثير إستغراب كثير من الزوار الذين يدركون حقيقة ان النمسا دولة حبيسة لا ساحل لها الا ان المتحف يعكس التاريخ النمساوي بمراحله المختلفة بما فيها فترة إمتداد نفوذ الامبراطورية النمساوية المجرية لاقاليم ساحلية على الادرياتيكي والمتوسط مثل كرواتيا وايطاليا وسلوفينيا.
ترتبط الاحداث التاريخية في الغالب بشخصيات لها تأثير كبير في حدوثها وتطورها سواء عبر طموحاتها وتصوراتها ورغباتها وبحكم مواقعها القيادية او الفكرية سواء كانوا حكام او قادة عسكريين او مفكريين ودبلوماسيين يقودون المعارك في الجبهات الفكرية والتفاوضية المصاحبة للمعارك. ومن الشخصيات البارزة التي يعكسها المتحف قياصرة أسرة الهابسبورج الذين حكموا الامبراطورية النمساوية المجرية . ومن أهم رموز هذه الاسرة الامبراطورة ماريا تيريزا التي تعتبر من أهم ملوك العائلة وهي ابنه الملك شارلس السادس الذي لم يكن له وريث من الذكور وقد خلفته في الحكم ونجحت في إعادة تنظيم الجيش النمساوي وتسليحه حتى أصبح قوة عظيمة لا يستهان بها في اوروبا وبل لاعب رئيس في الأحداث في تلك الفترة. إحتفي النمساويون قبل أشهر قليلة بالعيد الثلاثمائة لميلاد الإمبراطورة ماريا تيريزيا ، ويوجد لها تمثال ضخم في مربع المتاحف في وسط فيينا . والشخصية الأخرى التي لها أهميتها في التاريخ النمساوي هو الامبراطور فرانس جوزيف الذي يرجع له الفضل في تطوير فيينا وفي تأسيس كثير من الانشاءات ومنها المتحف العسكري ويلاحظ زائر فيينا وجوده القوي في الذاكرة الشعبية وفي مواقع المدينة حيث حكم الإمبراطورية لفترة طويلة إمتدت من ديسمبر 1848 حتي وفاته في نوفمبر 1916 ويعتبر أطول الحكام النمساويين بقاء في السلطة . من الملاحظات التي لفتت نظرى غياب شخصية الزعيم الالماني ادولف هتلر في المتحف رغم الحضور القوي في عكس احداث الحرب العالمية الثانية . هتلر كما هو معروف فهو من مواليد النمسا ، وعاش فترة من حياته بها كما قام بضم النمسا بالقوة لالمانيا خلال فترة حكمه  . ربما تمنع القوانين النمساوية التي سنت بعد الحرب العالمية الثانية  اي اعمال لتمجيد هتلر وتاريخه وقد يكون ذلك السبب في غياب صورته واعماله في المتحف. لكن يمكن القول ايضا ان للنجاح الاف الاباء والهزيمة لا والد لها كما يقول المثل ، فالرموز المرتبطة بالمغامرات التي تقود للهزيمة لا تجد تقدير شعوبها وحبهم وان انقضت السنون والعقود وفي ذلك رسالة للساسة في اخذ الحكم من هذه النماذج من التاريخ.
لوحة للامبراطور فراس جوزيف

تمثال للامبراطور فرانس جوزيف
اود تسجيل إعجابي  بالمتحف وتقديرى لادارته على التنظيم الرائع ، وادعو اي زائر لمدينة فيينا للوقوف على هذا الصرح الكبير والإستمتاع بمحتوياته.


الثلاثاء، 20 يونيو 2017

أحزان سودانيي النمسا: رب تقبل ابراهيم ونجيب عندك في هذا الشهر الفضيل



فقد المجتمع السوداني في النمسا مؤخراً اثنين من اعلامه وركائزه وهما الدكتور ابراهيم عوض يوسف الذي لبى نداء ربه قبل الشهر الفضيل بايام والدكتور محمد نجيب عيسي الذي إنتقل للرفيق الاعلى في الأسبوع الاول من رمضان.
 تعرفت علي الدكتور ابراهيم في أيام مقدمي الأول لمدينة فيينا  في منتصف العام 2014، و توثقت صلتي به عبر العديد من اللقاءات التي جمعتنا فضلاً عن الإتصالات الهاتفية بيننا التي لم تنقطع طيلة فترة تعارفنا . كان من الشخصيات التي أحب الجلوس اليها والنقاش معها. يتحفك دوما بكلماته المهذبة وذكرياته  وآرائه المتعددة في قضايا السياسة والمجتمع . جاء الي النمسا طالباً للدراسات العليا الطبية في جامعة فيينا في ثمانينيات القرن الماضي وطاب به المقام بها . رغم بقائه في النمسا طوال عقود الا ان الرجل كان محافظاً علي السمت السوداني في كل شيء. في حديثه وإهتماماته وهمومه وتقاليده  . العمة والجلابية كانت ثوبه المميز ولا يشعر بأدنى إحساس انها زي غريب في شوارع فيينا وهو يجوبها بعمته الكبيرة وجلابيته الفضفاضة . كل ابراهيم رجلاً إجتماعياً من الطراز الاول حيث ظل يشكل حضوراً فى كل مناسبات الإفراح والاتراح التي تجمع مجتمعنا الصغير في فيينا سواء في بيت السودان او مقر اقامة السيد السفير او الأنشطة التي درج على تنظيمها صندوق المراة السودانية بفيينا.  وكان يحظي بالتقدير من الكل الذين يعاملونه بإحترام وتقدير وأبوية يستحقها. كثيرين ممن نلتقيهم نشعر بين كلماتهم نفحات مرارات وبعض أحقاد او قسوة  حتي لو حاولوا اخفائها الا انها كعادة المشاعر فهي لا تخفي فمهما حاول صاحبها إخفائها فهي تظهر معبرة عن نفسها بشكل او بآخر ، ويتفاوت الناس في ملاحظة هذه المشاعر السلبية . يمكنني القول أن ابراهيم كان مبرءاً من ذلك وأحسبه كان صافي السريرة ، حسن الاخلاق وكان نباتاً صالحاً من بيت كريم . فلا تجد ابداً في كلماته اي أثر لهذه المشاعر السلبية.  كان ابراهيم يحرص على مد الصلات مع الآخرين والتعرف عليهم . أذكر انني عرفته بصديق لي زارنا في فيينا وما كان منه الا أن إتخذ الفرصة لدعوتنا بمنزله بروح شيخ العرب الكريم الذي لا يكترث لتكلفة الدعوة والإستضافة،  فقضينا معه وقتا جميلاً . الحرص على دعوة الاخرين لمنزله عادة معروفة عنه ، فكم مرة دعاني الي منزله لتناول الشاي او الإفطار في شهر رمضان ، وكان له وعد لي بزيارتي في منزلي ولكن أخذته المنية قبل ان يفي بوعده. لم تبعده همومه الخاصة او بعده الجسدي عن السودان من الاهتمام بهموم البلد ، فقد كان يحتفظ بمودة خاصة لجيل الاستقلال والآباء المؤسسين للدولة السودانية المستقلة لا سيما الزعيم اسماعيل الازهرى ، كما لم يتردد في الإستجابة لاي دعوات تخص العمل الوطني العام، وقد شارك قبل وفاته بأشهر في مؤتمر عقده جهاز السودانيين العاملين بالخارج في الخرطوم للخبراء السودانيين المغتربين في الخارج بغرض نقل الخبرات والمعرفة والاستفادة من آرائهم وتجاربهم ، وقد عقد بعد عودته من الخرطوم جلسة نقاشية في بيت السودان بفيينا تحدث فيها عن تجربته في المؤتمر والخبراء السودانيين الذين التقى بهم وإنطباعاته الايجابية عن الحدث والمبادرة.
الدكتور ابراهيم عوض يوسف ( يمين) يقدم هدية للاعلامي القدير الاستاذ حسن عبد الوهاب ( وسط) بعد جلسة دردشة ببيت السودان بفيينا، ويظهر في يسار الصورة الاستاذ عبد الله شريف رئيس جمعية صحفيي الامم المتحدة بفيينا

قصة سمعتها منه جعلتني أفكر أكثر من مرة ، ما هذا الرجل الملاك؟ ، وهي قبل وفاته بأسبوع او اسبوعين حيث إجتمعنا في بيت السودان بفيينا في مناسبة عزاء تخص أحد الاخوان، وبعد أداء صلاة المغرب التي تولي فيها إمامتنا ، دعا للمغفور له بالرحمة والثواب وذكرنا ان الميت يحتاج لدعاء الحي وقال أن ذلك لا يتطلب وجود صلة رحم او قرابة وقال انه شخصياً لسنوات عديدة يدعو يومياً لسيدة مصرية كان يعرفها في مدينة الزقازيق في مصر التي درس الطب في جامعتها، وقال ان علاقة طيبة ربطته بتلك السيدة الكبيرة في السن التي إستأجر منها شقة ضمن طلاب سودانيين وقد إنتقلت فيما بعد الي ربها،  الا انه حافظ علي مودته لها بالدعاء لها يومياً بالرحمة والمغفرة. توقفت كثيراً عند هذه القصة وهي بالتأكيد قصة مؤثرة ، تعكس في الأول أصالة معدن هذا الرجل ، فقليل من البشر يحافظون على مودة الموتي، حيث تلعب المصالح الدور الأكبر في تحديد نشوء علاقات البشر وإستمرارها . فبما انه لا مصلحة ترجي من ميت فأن الموتي هم الأكثر عرضة للنسيان والتجاهل،  ربما تستمر الذكري والدعوات  لفترات بسيطة لكن في الغالب تتراجع تلك الذكرى او تموت وتنقطع المودة والدعوات للموتى. فحتي الآباء والأقربين تتحول الدعوات لهم بعد مرور السنوات الاولى الي المواسم، من الجمعة الي الجمعة ومن ثم من العيد الي العيد وهكذا الا من رحم ربي .

الراحل الدكتور محمد نجيب عيسى

اما الرجل الآخر وهو المهندس الدكتور محمد نجيب عيسي ، فهو واحد من رموز السودان وابنائه البررة الذين حملو إسمه في الأوساط العلمية الدولية. كان من قلائل السودانيين الذي تبوؤا مناصب قيادية في الأمم المتحدة حيث ترأس المكتب الاقليمي لمنظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية في إقليم الجنوب الافريقي في بريتوريا، كما شغل مواقع قيادية في رئاسة المنظمة في فيينا كان اخرها منصب مساعد المدير العام . كان علماً في تخصصه ، حيث كان يحمل شهادات عليا في الهندسة الكيميائية وإدارة البيئة وتصفية البترول في جامعات بريطانيا وفرنسا، كما منحته جامعة ستراتكلايد الاسكتدلنية درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم تقديرا لمساهماته في نشر ثقافة الإنتاج الصناعي المحافظ على البيئة في الدول النامية كما كان استاذاً زائراً في جامعات غربية متقدمة   .
لم التق الدكتور نجيب الا في منتصف العام 2016 ، حيث كان خلال فترتي الأولى في النمسا مقيماً في جنوب افريقيا الا أنني سمعت عنه الكثير الطيب الذي تحققت منه عند لقاءه . جمعتني به الفرصة  في مناسبة تعريفية عن السودان نظمها إتحاد السلام العالمي ووكالة القرن الافريقي تحت عنوان السودان حيث يلتقي النيلين الابيض والازرق وهي حلقة ضمن سلسلة تعريفية عن دول القرن الافريقي في فيينا يتم فيها التركيز على حقائق الجغرافية والسكان والثقافة والصلات الإقليمية ، و قدم فيها مداخلة تعريفية عن السودان وسكانه ومميزاته  . كانت مداخلته علمية ومهنية ومحايدة .  تجد فيه تواضع العلماء وحكمة الكبير . لقاءاتي به علي قلتها كانت مفيدة وكم كنت أتمنى ان أجد الوقت الكاف للجلوس اليه . ثم التقينا مرة اخرى ضمن حلقة تعريفية عن جنوب السودان ( الجزء الآخر من السودان الكبير) . كان الرجل مهموماً بقضايا بلده رغم مسؤوليات المنصب الدولي الذي يشغله ، فقد تحدث معي عن رغبته لزيارة البلاد واللقاء مع بعض المسؤولين للنقاش معهم في مسائل تخص البيئة والتنمية، غير ان ظروف المرض لم تمكنه من إنجاز تلك الزيارة، كما سمعت منه إهتمامه وتشجيعه لمبادرات بعض الشباب من جيل ابناء المغتربين بالخارج في نقل تجارب متعلقة بادارة النفايات وتدويرها الي السودان  .
يظل الكبير كبيراً في أهلك المواقف ، حتى في آلامه ، فالسيد نجيب رغم مرارة المرض الصعب الذي ألم به الا انه كان متماسكاً محافظاً على اتزانه وابتسامته وهدوءه لدرجة ان الكثيرين لم يكونوا يعرفون حقيقة مرضه وخضوعه للعلاج . ذهبنا لتعزيته في مناسبة وفاة شقيقته التي سبقته قبل اشهر ، فبالرغم ان الرجل كان نفسه يخضع للعلاج الا انه كان متماسكاً تبدو عليه علامات الرضا والسكينة والاطمئنان . 

اللهم تقبل ابراهيم ونجيب عندك وادخلهما الجنة  انك عفو كريم