التاريخ قصة رائعة السرد ، وحكاية جميلة
التسلسل وموضوع جيد للبحث والدراسة لكن في واقع الحال هو الأحداث ومايرتبط بها من
موت ودمار . هذه هى صورة التاريخ الزاهية التى نفاخر به دون وعى بما تمثله الحروب
من مأساة . هذه الحقيقة تدركها بكل صورها في المتاحف العسكرية التي تجمع الصورة
الكاملة لنشوة الفخر المقرونة بالمآساة والهزيمة المرتبطة بالندم والخجل . متحف
فييينا العسكرى يكتسب موقعاً خاصاً من بين المتاحف العسكرية في العالم نسبة لما
يمثله البلد من موقع في خريطة الأحداث التاريخية الإقليمية والعالمية. من هنا بدأت
الحرب العالمية الأولي التي راح ضحيتها ملايين البشر وهي ذات الحرب التي شكلت الأساس
والبذرة للحرب المدمرة الأخرى والتي ايضاً توقفت عند إقتحام الحلفاء لمواقع دول
المحور الأساسية ومنها فيينا في العام 1945. كما إرتبطت النمسا بأحداث مركزية اخرى
في اوروبا والعالم مثل مؤتمر فيينا في 1814 – 1815 المنعقد بعد الحروب النابليونية
وانهيار الامبراطورية الرومانية والذي تولي رسم الخارطة السياسية لاوروبا ، كما ارتبطت ايضا بصراع الإمبراطورية العثمانية
مع القوي الغربية في اوروبا الشرقية .
يقع المتحف في وسط مدينة فيينا في منطقة
سهلة الوصول بالقرب من محطة القطارات الرئيسية بالمدينة ( هاوبت بان هووف) ، وغير
بعيد من معالم سياحية أخرى مثل قصر البلفيدير . ويعرض التاريخ العسكري النمساوي في
فتراته المختلفة وفق التسلسل التاريخي للأحداث. المتحف هو أحد الافكار والمبادرات
المقدرة التي قام بها القيصر فرانس جوزيف امبراطور النمسا والمجر الذي تجد له
حضوراً مقدراً في النمسا حيث أن الكثير من المباني والأماكن العامة بنيت في عهده .
بنى المتحف خلال الفترة 1850-1856 ، وينقسم الي عدد من الصالات التي تعرض صور
تاريخية ونماذج من الاسلحة .
في باحة المتحف ، يطالعك تمثال لجندي مدجج
بزيه وأسلحته ولكنه مطرق الرأس ويبدو عليه الحزن . ربما قصد صانع التمثال وواضعيه
في بهو المتحف وصف الحالة التي يعيشها الجنود الذين وضعتهم أقدارهم في هذه المهنة
الصعبة . الجنود يدفعون ثمن الحروب قبل الآخرين، ويدفعون ثمن أخطاء الساسة
وطموحاتهم. يدفعون هذه الأخطاء ارواحهم واجسادهم وصحتهم وهي بلاشك أغلى مقتنيات الإنسان . كما تحتضن
الساحة التي تسمي بحديقة الدبابات وفق التسمية الالمانية عدد من الدبابات
والطائرات التي أستخدمت في الحروب النمساوية.
![]() |
تمثال لجندي في مدخل المتحف |
القسم الخاص بتوثيق مرحلة الحرب العالمية
الأولي (2014-2018 ) الذي يقع في الطابق الارضي ،يشغل حيزاً مقدراً في معروضات
المتحف ويجد اهتماماً من الزائرين خصوصاً السيارة التي أغتيل فيها ولي عهد النمسا
الارشيدوق فرانز فرديناند وزوجته صوفي في مدينة سراييفو البوسنوية في 28/6/1914
على يد شاب صربي يدعي غافيرلو برنزيب، وبعض المقتنيات التي تخص الأمير وزوجته. ويمكن
ملاحظة أثر الرصاص على السيارة. وقد تسببت الحادثة في إندلاع الحرب العاليمة
الاولي التي بدأت بين النمسا وصربيا ومن ثم تطورت بدخول شركاء آخرين، وإنتهت
بنتيجة مؤلمة للنمسا وحلفاؤها حيث إنهارت
الامبراطورية النمساوية المجرية ، وتحولت النمسا الي بلد صغير بعد ما كانت إمبراطورية
مترامية الأطراف تشمل اغلب مناطق وسط وشرق اوربا. ونصت معاهدة فرساى الشهيرة التي
وقعت بعد إنتهاء الحرب على شروط قاسية ومذلة
لالمانيا ، وتركيا، والنمسا. ويتضمن
المعرض صور ومقتنيات ومعدات عسكرية وأدوات واسلحة تخص فترة الحرب العالمية الاولي.
![]() |
السيارة التي اغتيل فيها السيد ولى عهد النمسا في سراييفو 1914 |
![]() |
شعار الحقبة النازية |
![]() |
صورة لجندي يستعد لرمي قنبلة من طائرة خلال الحرب العالمية الثانية |
![]() |
طائرة عسكرية من الجيل الاول |
![]() |
دبابة من الاجيال الاولى |
تم تخصيص قاعات محددة لحروب بعينها اذا
خصصت الصالة الأولي للحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت والتي تعود الي ما
قبل 350 عاما و، كذلك الحروب بين العثمانيين والامبراطورية النمساوية ومنها حصار
فيينا الاول من قبل الاتراك ما بين 27 سبتمبر الي 14 اكتوبر 1529 والثاني ما بين
15 يوليو الي 15 سبتمبر 1683 ، ويضم المعرض أسلحة وتجهيزات عثمانية وسيوف شرقية وأدوات
تركها العثمانيين بعد فك الحصار وإنسحابهم في عام 1683 بعد هزيمتهم من قبل
النمساويين المدعومين من قبل البولنديين. تجد أحد الأعلام العثمانية مكتوب عليها قوله
تعالى: ( نصر من الله وفتح قريب ) . وتقع القاعة الخاصة بالفترة العثمانية في
الطابق الأول من المبنى.
![]() |
علم من مخلفات الجيش العثماني بعد فشل حصار فيينا |
كما يتضمن المتحف مخلفات جيش نابليون التي
تركها في معركة لا يبتزيع أمام النمسا وبروسيا والتي تبعها إنعقاد مؤتمر فيينا
(1814-1815 ) الذي أعاد رسم الخارطة الاوروبية بشكل يحقق مصالح الحلفاء.
الملفت للنظر هو وجود القاعة المخصصة
للقوات البحرية النمساوية ، والمعارك البحرية التي قادها النمساويين ضد خصومهم وأهمها
معركة ليسا في البحر الادرياتيكي التي إنتصر فيها الاسطول النمساوى على القوات
البحرية الايطالية في 1866 . بالطبع هذا يثير إستغراب كثير من الزوار الذين يدركون
حقيقة ان النمسا دولة حبيسة لا ساحل لها الا ان المتحف يعكس التاريخ النمساوي
بمراحله المختلفة بما فيها فترة إمتداد نفوذ الامبراطورية النمساوية المجرية لاقاليم
ساحلية على الادرياتيكي والمتوسط مثل كرواتيا وايطاليا وسلوفينيا.
ترتبط الاحداث التاريخية في الغالب بشخصيات
لها تأثير كبير في حدوثها وتطورها سواء عبر طموحاتها وتصوراتها ورغباتها وبحكم
مواقعها القيادية او الفكرية سواء كانوا حكام او قادة عسكريين او مفكريين
ودبلوماسيين يقودون المعارك في الجبهات الفكرية والتفاوضية المصاحبة للمعارك. ومن
الشخصيات البارزة التي يعكسها المتحف قياصرة أسرة الهابسبورج الذين حكموا
الامبراطورية النمساوية المجرية . ومن أهم رموز هذه الاسرة الامبراطورة ماريا
تيريزا التي تعتبر من أهم ملوك العائلة وهي ابنه الملك شارلس السادس الذي لم يكن
له وريث من الذكور وقد خلفته في الحكم ونجحت في إعادة تنظيم الجيش النمساوي
وتسليحه حتى أصبح قوة عظيمة لا يستهان بها في اوروبا وبل لاعب رئيس في الأحداث في
تلك الفترة. إحتفي النمساويون قبل أشهر قليلة بالعيد الثلاثمائة لميلاد الإمبراطورة
ماريا تيريزيا ، ويوجد لها تمثال ضخم في مربع المتاحف في وسط فيينا . والشخصية الأخرى
التي لها أهميتها في التاريخ النمساوي هو الامبراطور فرانس جوزيف الذي يرجع له
الفضل في تطوير فيينا وفي تأسيس كثير من الانشاءات ومنها المتحف العسكري ويلاحظ
زائر فيينا وجوده القوي في الذاكرة الشعبية وفي مواقع المدينة حيث حكم الإمبراطورية
لفترة طويلة إمتدت من ديسمبر 1848 حتي وفاته في نوفمبر 1916 ويعتبر أطول الحكام
النمساويين بقاء في السلطة . من الملاحظات التي لفتت نظرى غياب شخصية الزعيم
الالماني ادولف هتلر في المتحف رغم الحضور القوي في عكس احداث الحرب العالمية
الثانية . هتلر كما هو معروف فهو من مواليد النمسا ، وعاش فترة من حياته بها كما
قام بضم النمسا بالقوة لالمانيا خلال فترة حكمه . ربما تمنع القوانين النمساوية التي سنت بعد
الحرب العالمية الثانية اي اعمال لتمجيد
هتلر وتاريخه وقد يكون ذلك السبب في غياب صورته واعماله في المتحف. لكن يمكن القول
ايضا ان للنجاح الاف الاباء والهزيمة لا والد لها كما يقول المثل ، فالرموز
المرتبطة بالمغامرات التي تقود للهزيمة لا تجد تقدير شعوبها وحبهم وان انقضت
السنون والعقود وفي ذلك رسالة للساسة في اخذ الحكم من هذه النماذج من التاريخ.
![]() |
لوحة للامبراطور فراس جوزيف |
![]() |
تمثال للامبراطور فرانس جوزيف |
اود تسجيل إعجابي بالمتحف وتقديرى لادارته على التنظيم الرائع ،
وادعو اي زائر لمدينة فيينا للوقوف على هذا الصرح الكبير والإستمتاع بمحتوياته.