التسول ظاهرة غير طبيعية، وتحمل درجة عالية من
التعقيد، الذي يشمل الابعاد النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. بغض النظر
عن الأسباب الموضوعية وراء انتشار الظاهرة لا سيما المتعلقة بالحاجة والفقر
والفاقة الا ان هناك حالات كثيرة ترتبط بالكسل، والاحتيال، والاستغلال السيء
للنوايا الحسنة وهي حالات لا يمكن تبريرها. لظاهرة التسول آثار اجتماعية ونفسية
مدمرة، فمن جهة، تجشع الاتكالية وعدم الإنتاج، وتساهم في خلق شخصية تفقد الكرامة
الشخصية تدريجياً، كما تساهم في خلق مجتمع يتسامح مع السؤال، والشحدة.
التسول ظاهرة عالمية، تنتشر في كل البلدان بغض النظر
عن مستوى المعيشة والتطور فيها، ففي البلدان الفقيرة تجد المتسولين في كل مكان، بل
يعتبرون ضمن مظاهر المشهد الحياتي في الشارع العام، اما في البلدان الأغنى، تجد
المتسولين الذين يتم جلبهم من دول أخرى بالإضافة الى المتسولين المحليين. يتخذ
التسول اشكالاً عدة، فنجد مثلاً في بعض البلدان الاوربية المتسول (الفنان) الذي
يحمل آلة موسيقية يعزف عليها في الأماكن العامة او في قطارات المواصلات العامة،
كما تجد المتسولين (البهلوانين) الذين تجدهم في الحدائق والأماكن العامة ويقومون
بحركات بهلوانية او يرتدون ملابس فضية او ذهبية او يقفون بطريقة ملفتة للأنظار
والانتباه.
لقد تبنت بعض
الدول خصوصاً الدول المتقدمة سياسات وخطط تحارب التسول لا سيما التسول المنظم، ومن
المعروف أن هذه الدول توفر ميزانيات كافية للرعاية الاجتماعية يستفيد منها الضعفاء
والعاطلين عن العمل. هناك صعوبة في بلدان كثيرة لا سيما في دول العالم الثالث في تبني
هذا النوع من القوانين لاعتبارات متعلقة بضعف قدرات الدول الاقتصادية والمالية
وفشلها في تخصيص ميزانيات كافية لإعالة ودعم الفقراء والمحتاجين فضلاً عن اعتبارات
دينية وثقافية تشجع على الاحسان الفردي، وتمنع القسوة حيال المتسولين. لكن بشكل
عام، هناك صعوبة تواجه كل الدول، حتى المتقدم منها في محاربة الظاهرة بشكل حاسم،
ونهائي في ظل تداخل اعتبارات حقوقية، وقيود قانونية وغيرها تعمل على حماية
المتسولين ومنظمات مجتمع مدني قوية تدافع عن المتسولين باعتبارهم من فئات المجتمع
الضعيفة. لكن ايضاً في المقابل هناك تفهم لخطورة التسول المنظم الذي يتخذ الطابع
الاجرامي ونشاط شبكات الاتجار في البشر التي تستغل ضحاياها الذين تنقلهم من بلدان
فقيرة الى دول متطورة بهدف توزيعهم في مناطق محددة لممارسة مهنة التسول، واخضاعهم
للابتزاز، والاستيلاء على محصولهم. هذه الشبكات الاجرامية وجدت اهتمام الدول
والمنظمات الدولية المعنية بمكافحة الجريمة المنظمة، وقد تم تفكيك عدد منها خصوصاً
في اوروبا.
في حياتي مررت بعدد من القصص المتصلة بظاهرة التسول، ولكن
استذكر قصتين، أولهما كانت بمسجد بمدينة بورتسودان، وهو مسجد كلية الهندسة المعروف
ايضاً بمسجد المدرسة المصرية حيث انبرى طفل صغير بعد انقضاء صلاة الجمعة ليبدأ في
ترتيل بعض آيات القران الكريم بصوت جميل لفت انتباه الحاضرين، فما كان من إمام
المسجد المرحوم الشيخ محجوب الحاج أن يطلب من الطفل الكف عن القراءة قائلاً بصوت
مسموع: حسبك،، حسبك، ثم مضي في تحذير استغلال الأطفال والقرآن في التسول، وكان
رحمه الله رجل يشجع على العمل والإنتاج، وملتزم بذلك. الموقف الثاني كان في مدينة
فيينا النمساوية، التي عشت فيها سنوات قليلة بحكم طبيعة عملي، ووقعت احداث الواقعة
في مطعم تديره سيدة من الاشقاء المصريين، وكنت من زبائن ذلك المطعم الذي اذهب اليه
بأسرتي في فترات الاجازات والعطلات لتذوق اطعمه شبيهة بالطعام السوداني. فجاءت
سيدة ترتدي زياً اسلامياً بغرض التسول من الزبائن واتجهت نحوي، وقبل أن استجيب
لها، سمعت سيدة المطعم تنادي بصوت عالي طالبة من المتسولة المغادرة فوراً، والتي
قامت بدورها بالاستجابة وغادرت مسرعة الى خارج المطعم. عندما لاحظت سيدة المطعم بعض
الامتعاض على وجهي قالت لي: إن الدولة هنا توفر الدعم الكاف للمعيشة الكريمة
للعاطلين عن العمل، وأن سؤال الناس في الشوارع والأماكن العامة هنا يعتبر جريمة
يعاقب عليها القانون، وان هذه السيدة وغيرها يمارسن التسول بغرض الحصول على أموال اضافية.
لم يكن إمامي الا قبول ما تفضلت به.
لعل الكثيرين
شاهدوا حادث متسولة الشارع الخامس بمنهاتن في نيويورك بالولايات المتحدة التي تم
رصدها ومتابعتها من قبل احدى القنوات التلفزيونية لفترة شهرين، وقد اعتادت السيدة
المحتالة على قيادة سيارتها يومياً الى مكان محدد لإيقافها، بعد ان تقوم بتغيير
ملابسها الطبيعية بأخرى للاحتيال تتكون من عباءة وحجاب يغطي جسدها، بالإضافة الى
عصى معاقين تتوكأ عليهما لتظهر بمظهر السيدة التي تعاني من الحركة، وعند السؤال عن
حالتها تقول انها تعرضت لحادث حركة تسبب في كسر عمودها الفقري وأعاق حركتها. وظلت
تمارس ممارسة التسول الاحتيالي في منطقة تجارية مركزية، حيث رصدت كاميرا القناة
حصولها في احدى الأيام على عطاءً من (خمسين) شخصاً في ساعة واحدة، وبإمكانك تخيل
حجم المبالغ التي تجنيها كل يوم أي بمبالغ لا تقل خمسمائة دولار في عشرة ساعات إذا
كانت تتلقي من أي شخص حوالى دولار واحد لتكون حصيلة الساعة خمسون دولاراً، هذه
المبالغ قد تتجاوز بكثير دخل كثير من العاملين. وبعد رصد دقيق تمت محاصرة المرأة ومواجهتها
بالحقيقة، وقد حاولت الهروب أمام الكاميرا، ويمكن مشاهدة الفيديو في موقع يوتيوب.
هذه الحالة هي نموذج واحد من الآلاف من حالات الاحتيال
التي تستغل تعاطف الناس مع المعاقين، او المساكين والضعفاء. إذا نظرنا الى نفسية
المتسول (المحتال) فهو بالفعل شخصية معقدة، قد تتمتع ببعض الذكاء الذي يعينها في
اختلاق القصص، او عرض نفسها في شكل الضحية لاستدرار العطف، وبشكل عام فهو كسول غير
منتج يحاول الحصول على المكاسب بدون جهد. من المخاطر المرتبطة بهذه الظاهرة هي تحول
التسول الاحتيالي الى حالة ثقافية. فيقال أن أحد الباحثين في العلوم الاجتماعية ولأغراض
بحثية قرر الانخراط في مجتمع المتسولين، وممارسة أسلوب حياتهم، وبعد فترة من
الوقت، قيل انه فشل في الانعتاق من مجتمع المتسولين ومفارقتهم وقد أصبح جزءاً
منهم.
تظل مسألة تجريم التسول قضية جدلية، يختلف الناس حولها، ولكن الحقيقة المؤلمة ان التسول ظاهرة غير طبيعية، ومن الأفضل لكل الشعوب التفكير في سبل وأدوات تحد منها وتقلل من انتشارها.






















