السبت، 13 أبريل 2024

ملوك كوش في ضيافة باريس: استعراض معرض فراعين الأرضين: القصة الإفريقية لملوك نبتة بمتحف اللوفر

تشرفت بزيارة باريس خلال الفترة 11 الي 14 يوليو 2022 خصيصاً لمشاهدة معرض فراعين الارضين: القصة الإفريقية لملوك نبتة الذي نظمه معرض اللوفر الباريسي خلال الفترة 28 ابريل الى 25 يوليو 2022. لقد كان واضحاً حجم الجهد الكبير الذي بذلته إدارة متحف اللوفر في الإعداد لهذا الحدث الثقافي الكبير حيث تم نقل العديد من الآثار الكوشية الموزعة في متاحف مختلفة في العالم مثل متحف الآثار المصرية ببرلين، ومتحف اوغسطين كيستر بهانوفر بالمانيا، ومتحف مدينة نيويورك، ومتحف بروكلي بنيويورك، ومتحف الآثار الشرقية بشيكاغو بالولايات المتحدة الإمريكية، ومتحف كوبنهاجن بالدنمارك، والمتحف البريطاني، ومتحف شامليون باكسفورد ببريطانيا، بالاضافة الى الآثار الموجودة اصلاً بقسم المصريات في متحف اللوفر، وآثار أخرى نقلت من متحف السودان القومي بالخرطوم ( 16 قطعة أثرية عن الأسرة 25)، كما صاحب المعرض عدد من الانشطة الثقافية والمحاضرات التي للأسف لم أتشرف بحضورها.


الاعلان الدعائي  للمعرض على سور المتحف 

المدخل الي المعرض بقاعة نابليون

تمثال  الملك الكوشي تهراقا 
 كانت هي زيارتي الثانية لمدينة النور باريس ولكنها كانت لغرض محدد حيث تحركت من محل إقامتي الحالى بجنيف السويسرية نحو باريس بالقطار، وهي رحلة لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات بالقطار المباشر. نظراً لضيق الوقت الذي ساقضيه ومحاولة السماح لأسرتي واطفالي بزيارة أكبر قدر من المعالم الرئيسة لا سيما وأنهم يزورون باريس للمرة الأولى، فقد حجزت الاقامة لثلاث ليال في فندق يقع بالقرب من متحف اللوفر، حتي نتمكن من زيارة المتحف وبقية المعالم التي تقع بالقرب منه مثل شارع الشانزلزيه وقوس النصر وبرج ايفل وساحة الكونكورد والحي اللاتيني والسوربون، وكنيسة نوتردام، ونهر السين، ومسجد باريس والحديقة النباتية وغيرها من المعالم التي تقع في المنطقة السياحية الرئيسة.  بالطبع كنت سعيداً بمطالعة الإعلان الدعائي للمعرض على الواجهة الخارجية الشرقية للمتحف من ناحية شارع ريفولي حيث تضمن الإعلان صورة الملك الكوشي تهراقا مع إسم الحدث. وشغل المعرض واحدة من أهم قاعات متحف اللوفر وهي قاعة نابليون، و على جانبي المدخل المؤدي الى القاعة، تم وضع صورة الملك تهراقا في وضعية الجلوس على ركبتيه يحمل بكلتا يديه قرباناً ويقود ذلك المدخل الى تمثال ضخم للملك تهارقا، مصنوع من حجر الجرانيت ينتصب واقفاً بشكل يحي الزوار، وتم توزيع المعروضات التي تشمل مشغولات، وتمائم، وآثار، وتماثيل، وادوات وخرائط توضيحية، وصور بشكل متسلسل في قاعات فرعية متصلة ببعضها البعض. 

رسم يوضح الفترة الزمنية للاسرة الفرعونية 25

خريطة لموقع مملكة كوش

صورة لجبل البركل

المعرض يركز على فترة الأسرة المعروفة في تاريخ المصريات بالأسرة الفرعونية الخامسة والعشرين، وهي الأسرة الكوشية التي مدت نفوذها من مقرها الرئيس في نبتة بشمال السودان الحالي الى مصر بقيادة اشهر ملوكها المعروف بعانخي. تقول المصادر التاريخية إن الاسرة الفرعونية 25 حكمت وادي النيل من مقرن النيلين بالسودان الحالي الى مصب البحر المتوسط بشمال مصر خلال الفترة من 713 الي 655 قبل الميلاد قبل انهزامها على يد الاشوريين وتراجع نفوذها الي السودان الحالي،  ومن ملوكها تهارقا، وتنوتماني، سنكماسكن، والماني واسبلتا والارا، وشباتكا، وشابكا. وإن عبارة الأرضين الواردة في اعلان المعرض يقصد بها سيطرة هذه الأسرة على مصر بالإضافة الى نبتة وتوحيدهما في مملكة واحدة تشمل اجزاء واسعة مما وادي النيل الحالي.

مجموعة من الفراعنة الكوشيين

تمثال في هيئة ابوالهول


تمثال في شكل الالة الفرعوني حورس

لقد أثارت انتباه الدارسين والمتابعين لتاريخ الفترة الفرعونية الكوشية درجة الانضباط القيمي والتدين في سلوك الملك بعانخي وابناءه. تشير الوقائع المسجلة في الألواح الأثرية، إن انطلاق بعانخي الى مصر لم يكن بعيداً عن تقديسه لمعابد الإله آمون في طيبة، ويتضح ذلك من وصاياه لجنوده بالتطهر في مياه النهر بعد وصولهم الى طيبة وعدم محاربة العدو في الليل واختيار النهار في المواجهة، ربما يتضمن ذلك حكماً قيمياً يتحاشي اتباع أساليب الخداع في الحروب، كما يتضح من طريقة تعامل بعانخي مع نساء الأمير المستسلم نمرود حيث ذكر بعانخي إنه تحاشي النظر اليهن بما يؤكد القيم الرفيعة التي يحملها وترفعه عن سفاسف الأمور. كما يتضح التدين في رفض بعانخي كما كتب مقابلة حكام مصر الذين أدانوا له بالطاعة لأنهم كانوا غير مختونين ويأكلون السمك عدا واحداً منهم وهو المذكور نمرود، وهنا تثار تساؤلات عن منطق حرمة أكل السمك في دين بعانخي وهل كانت الحرمة متصلة بعدم الاقتراب من المواقع المقدسة في حالة أكل السمك ام كان محظوراً ويتضح من تعبير بعانخي إن التحريم كان نهائياً وهنا محور الاستغراب في مجتمع كان يقيم حضارته على نهر النيل في الوقت الذي يحرم فيه نفسه من أكل السمك؟ اما مسألة الختان فهي مسألة دينية ، ومن الملاحظ إن عادة الختان بشقيها الذكوري والانثوي لا زالت تمارس في جغرافية ذات المنطقة الممتدة من مصر وصولاً الى الصومال الحالي، وقد يتصل ذلك بجذور تاريخية فرعونية.  ثم نجد مظهراً آخر لتدين بعانخي هو تألمه الشديد لحالة الخيول الجائعة في طيبة، وقد عبر عن ذلك. ويبدو أن الخيول كانت تتمتع بوضعية رفيعة في الدين الذي كان يعتنقه بعانخي حيث كانت تحظي بمعاملة خاصة و يتم دفنها بطريقة كريمة مثلها مثل الحكام وتقف مقابر الخيول القائمة في المواقع الأثرية دليلاً على ذلك. القاريء لوصايا خاليوت بن بعانخي يلاحظ درجة عالية من القيمية الأخلاقية التى تتطابق الى حد كبير من القيم التي تدعو لها الأديان الابراهيمية وغيرها من الأديان التي تدعو الي كريم الاخلاق والمعتقدات مما يثير تساؤلات عن طبيعة ونوع ذلك الدين الذين كان متبعاً من قبل الكوشيين.

لوحة بعانخي

 
تمثال للالة الفرعوني آمون

اهرامات كوش في السودان

لوحة لتوثيق انتصارات وعليها رسومات وكتابة 

مشهد من المعرض

الجانب الأخر الذي يثير دوماً التساؤل في دراسة حقبة الاسرة الفرعونية رقم 25 ، هو طبيعة العلاقات بين السودان ومصر في بعدها التاريخي، وقد يكون لذلك ظلال على التصورات المتخيلة والحقيقية للعلاقات بين البلدين او الشعبين في عصرنا الراهن. شخصياً لا اعتقد أن ثمة بلدين في منطقتنا يرتبطان بكم هائل من العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخ المشترك كما هو الحال بين شطري وادي النيل ولكن في ذات الوقت تطفح بين الحين والآخر اشكاليات سرعان ما يتم تجاوزها او منع تفاقمها بشكل يتسبب في تجميد انسياب التفاعل او استمرار العلاقات التي اتسمت في بعض مراحلها التاريخية بالحدة والنزاع، كما ظلت على الدوام منذ العهد الفرعوني حالة من السيولة تتسم بها حدود البلدين في ظل عدم وجود حواجز طبيعية مع محاولات متكررة من الشمال لإخضاع الجنوب او محاولات من الجنوب لإخضاع الشمال كما هو الحال في تجربة الأسرة 25 او بعدها بمئات القرون من محاولة فاشلة قادها الخليفة التعايشي لفتح مصر وضمها لدولته الدينية. بالرجوع الي تاريخ الأسرة 25 نجد ان العقيدة الدينية بغض النظر عن طبيعتها كانت متقاربة وفق ما يظهر من تقديس بعانخي للإله الفرعوني آمون والمعابد الفرعونية وتشابه او تطابق الرموز الفرعونية مثل رأس الكبش او الأفعى على التاج، وهذا يثير تساؤل آخر عن طبيعة الجذور العرقية لأهل نبتة، هل كان التأثير الفرعوني عليهم ثقافياً ام كانوا جزءا من المجتمع المصري القديم؟ وهي أسئلة مشروعة ولكن الإجابة عليها قد تتضمن تفسيرات متعددة، الرأى الاكثر شيوعاً أن فراعنة الأسرة 25 كانوا كوشيين من الناحية العرقية وقد يكونوا تأثروا في فترات أسبق بالحضارة الفرعونية المصرية، الناظر للملامح الواضحة في التماثيل الكوشية يؤكد فرضية اصلهم الكوشي حيث تتخذ الملامح الافريقية شكلاً واضحاً في هذه التماثيل، كما ينظر الاثاريين والتاريخيين والاكاديميين المصريين الى تاريخ تلك الأسرة كمظهر من مظاهر التعدد الذي يجلب الفخر في التاريخ المصري القديم، و أذكر هنا أن أستاذنا في كورسات الدراسات العليا بجامعة القاهرة الراحل الدكتور محمود ابو العينين كان يقول بفخر واضح أن لمصر فراعنة من كل لون منهم البيض ومنهم السود وكلهم كانوا فراعنة لمصر.

في خاتمة هذا المقال، أجدد شكري وتقديري ومعزتي لإدارة متحف اللوفر الباريسي التي سنحت لنا وللعالم والمهتمين بالآثار السودانية فرصة مشاهدتها، وكم كنت سعيداً وانا أرى جموع الزائرين الذين كانوا يتدافعون لمشاهدة هذه الآثار، وهذا المقال هو محاولة متواضعة مني في توثيق هذا الحدث المهم.