حسناً فعلت الأمم المتحدة بأن اختارت العام الجاري
2024 كسنة دولية للإبليات في محاولة لتسليط الضوء على هذه العائلة من الحيوانات التي
ظلت تقدم مساهمات مقدرة في حياة البشر الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية. وكانت المناسبة ايضاً فرصة للتعرف على الانواع الاخرى من
الابليات، فقد ظلت تسيطر على ذهنيتنا صورة الجمل العربي الصحراوي ذو السنام
الواحد او الجمل ذو السنامين وموطنه سهول وسط آسيا، لكن قادتني المناسبة للتعرف على وجود سلالات
اخرى من الابل مثل اللاما، والغوانكا، و الفيكونيا التي لا سنام لها وان كانت تتشابه مع الجمال الصحراوية في بقية الملامح وموطنها امريكا اللاتينية. وكان من الملفت للانتباه والتساؤل إن الدولة التي تقدمت
بقرار السنة الدولية للابليات في الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت بوليفيا وهي
احدى دول أمريكا الجنوبية. مبعث الغرابة ان موضوعات الابل ترتبط في ذهنيتنا بالعرب
ودولهم حيث نجد درجة كبيرة من الفخر الشعبي والثقافي بالابل.
لقد نظمت بعثة
المملكة العربية السعودية بالتعاون مع بعثة بوليفيا معرضاً عن السنة الدولية
للابليات بمقر الأمم المتحدة بجنيف في يونيو 2024، تم فيه عرص صور وملصقات ومواد
تعكس الدور التاريخي الذي لعبته الجمال في تاريخ المملكة العربية السعودية، وصور
اخرى عن البرامج الثقافية والرياضية المرتبطة بالجمل مثل سباق الهجن، وكذلك صور
ومواد عن الخدمات البيطرية التي يتم تقديمها للأبل، وعن اقتصاد الإبل وتسويق
البانها والسمن المستخرج منه. لقد كنت
سعيداً أن اكتشف هذا المجهود العظيم، فالذي يعجبني في الاشقاء السعوديين القدرة
غير العادية في المحافظة على اصالتهم وتراثهم العربي وكينونتهم الثقافية والفخر
بها بذات القدر الذي يتفاعلون فيه مع العالم مستفيدين من المعاصرة واوداتها بشكل
متوازن بعيداً عن التزيد والتعجل وبقدر من الوقار الذي تتطلبه طبيعة بلادهم ووزنها
وقيمتها المعنوية.
في الماضي كانت الجمال هي وسائل النقل في الصحاري والجبال حيث استخدمت في نقل البشر
و البضائع، كما استخدمت في الحروب لنقل الجنود والعتاد ودوننا تجربة قوات الهجانة
وقوات البادية في بعض البلدان العربية، وهي قوات تعتمد على الجمال، كما نجد فيلق
الجمال الامبراطوري الذي شارك في حروب الامبراطورية البريطانية في مناطق مختلفة
منها الشرق الاوسط. لقد ظلت الجمال بذكائها وصبرها وقوة تحملها تشارك الجنود
المقاتلين المعارك في كثير من المواقع وفي مناطق تاريخية خطيرة. سألت احد قدامى
الثوار الارتريين عن سر اختيارهم الجمل كشعار لدولتهم، وفي دواخلي بعض الشكوك عن
اشتراك كل القوميات الارترية في الإرث الرعوى المتعلق بالأبل، فقال لي الرجل: ( لقد
كان الجمل رفيقنا في معارك التحرير، حملنا عليه عتادنا وسلاحنا، وقوتنا وعبرنا به
الجبال والصحاري والسهول، وكل تلك المساهمة تعطيه الحق في أن يكون شعاراً لدولتنا
المستقلة). ما اروع الوفاء، عندما يذهب نحو حيوان وفي قام بمهمة عظيمة في خدمة من
يقدر تلك المهمة.
|
- الابل العربية الصحرواية - صورة من معرض السنة الدولية للإبليات بجنيف |
الجمل حيوان ذكي، فلديه قدرة غير عادية للتحرك في دروب الصحاري ومتاهاتها، وهو
حيوان قوي الذاكرة يستذكر الاشخاص، والأمكنة، ويتعرف عليها. وفي جانب أخلاق
الحيوان، فالجمل حيوان وفي، وهناك الكثير من قصص وفاء الجمال. من قصص وفاء الأبل
التي سمعتها من الأسرة، وهي متعلقة باحد اجدادي ( الابالة) بعد أن اشتد به المرض وتم نقله الى مدينة بورتسودان لتلقي العلاج، وكان ذلك مرضه الذي فارق بسببه الحياة.
و بعد أيام جاءته الاخبار، وهو على سرير المرض، التي تفيد بوصول الناقة التي كانت
تتقدم القطيع الى بورتسودان، وقد وجدها بعض اقاربنا من الأبالة في ضواحي المدينة،
وأتوا بها الى حيث مسكنه وكان تعليق الرجل (الكبير): انه الوداع ، لقد جاءت لتودعني
واضاف وصيته بان لا يفكروا في ذبحها ان حدث له المكروه، طالباً منهم البحث و عن ذبيحة
أخرى. القصة الاخرى التي سأرويها هي قصة شعبية تروى عن الجمل الاب لسلالة (كلاي
واو من الجمال البشارية) وهي اسم بجاوي يمكن ترجمته بالعربية بمعني (بكاء الطير ) كناية عن السرعة، وهي نوع من سلالات الجمال المشهورة بالسرعة والخفة، بعد أن اصابت الشيخوخة ذلك الجمل ولم يعد قادراً
على الحركة، ذهب ابناء صاحب الجمل الى ابيهم الذي كان هو الآخر قد بلغ من العمر عتياً
يستأذونه السماح لهم بذبح الجمل ( كلاي واو) وهي عادة يقوم بها الرعاة تجاه الحيوانات
التي ينهكها المرض حيث يتخلصون منها ويستفيدون من لحومها، او تتم في إطار أشبه
بالموت الرحيم للحيوانات الاليفة التي تعاني المرض حيث يتم انهاء حياتها وهي عادة
معروفة عند الفرنجة وغيرهم، وقد رفض الرجل ذلك رفضاً قاطعاً، فسألوه ماذا نفعل به،
فقال لهم: اطلبوا من احدي النساء أن تصيح بزغرودتين في كلتا أذنيه ثم انظروا ماذا
سيفعل، ، بالفعل فقد اختاروا من النساء من تقوم بتلك المهمة، وما كان من صاحبنا الا
أن انتفض واقفاً وثم جري لمسافة طويلة حتي وقع على وجهة مسلماً روحه الطاهرة الى
بارئها العظيم. ولا زال نسل ذلك الجمل الأصيل الكريم يقدم الكثير من المتعة لعشاق
سباق الهجن.
|
مشهد لسباق الهجن بالسعودية- معرض السنة الدولية للابليات بجنيف |
يصف البعض الجمل بأنه حيوان عنيد، ويضمر الشر ولا ينسى المعاملة السيئة التي قد ينتقم
بسببها آجلاً ام عاجلاً، وهذه ايضاً من
.الصفات التي تحمل بعض القيم، فرفض الظلم
وسوء المعاملة سلوك محمود
لقد عبر المستشرق الفرنسي جوستاف فلوبير الذي زار مصر
في القرن التاسع والعشرين عن اعجابه الشديد بالجمل الذي وصفه بجملة من الصفات منها
التقشف، والحزن، والصلابة والعناد، والنبل، ووصفه بالحيوان العجيب الذي يجمع ملامح
وتصرفات الحمار والنعام والبجعة مع صوت جد مميز، وقال إن للجمال جلال مهيب وهى
تمخر عباب الصحراء في صف مرصوص في مظهر اشبه بمظهر الجنود. لا غرابة في الصفات
التي الحقها عوستاف بالجمل لا سيما الصلابة والعناد والنبل، فالجمل حيوان مشهور
بالصلابة والتقشف ايضاً صفة مفهومة في سفينة الصحراء التي تعيش في بيئات قاحلة
قليلة الماء والعشب، ومن الطبيعي أن تقتصد وتطور امكاناتها للتعايش مع هذه البيئة،
وهذه الصفة تتشارك فيها مع الجمل حيوانات أخرى و نباتات لكن اثار انتباهي وصف
الجمل بالحزن، وما هو عنصر الجمال في الحزن؟. هذا جانب لا يراه الا الأدباء الذين
يقرأون ما بين التفاصيل والتصرفات، ولا شك أن
.هناك بعضاً من الحزن الجميل او الحزب
النبيل الناتج عن الصبر، وتحمل الأذى، والسكوت عليه
التحية للإبل في مشارق الأرض ومغاربها،والتحية لرعاتها ومحبيها وعارفي فضلها
|
الابليات الامريكية التي لا سنام لها- معرض السنة الدولية للابليات بجنيف |