كلنا مررنا بقصص إنشاء مدن في التاريخ وإرتباط هذه
المدن بأسماء مؤسسيها الأوائل حتي تاريخ اليوم . فنجد إرتباط إسم القاهرة بالقائد
الفاطمي المعز لدين الله، وإرتباط بغداد بأبي جعفر المنصور، وسان بطرسبيرج بالقيصر
الروسي بطرس الأكبر. أغلب هذه المدن كان إختيارها في لحظات تاريخية محددة، ولأغراض سياسية او
عسكرية او تجارية لكن الحالة التي نحن بصددها وهي مدينة الغردقة المصرية، فقد نشأت
وتطورت في أخريات القرن الماضي. بالطبع لا يمكن مقارنتها بالمدن العواصم التي إنشأت بغرض جعلها مركزاً للحكم والقيادة ولكن
لها اكتسبت الغردقة قيمتها المركزية في السياحة العالمية القائمة على الغوص البحري.
![]() |
مشهد من البحر من المدينة |
![]() |
مارينا اليخوت في الغردفة |
نشأت
الغردقة كقرية للصياديين في بدايات القرن العشرين، ومرت بفترة طويلة من النمو
البطيء ثم انتعشت بفضل إستخراج النفط في منطقة البحر الاحمر المصرية، لكن التطور
الأكبر كان بفعل التطور السياحي الذي شهدته المنطقة بعد إنتهاء الحرب المصرية
الإسرائيلية بعد توقيع إتفاق كامب ديفيد 1978. وقاد هذا التطور لدخول عدد من المستثمرين
الوطنيين والدوليين في مجال سياحة الغوص البحري.
الراغب في
التعرف على طبيعة المنطقة قبل الإزدهار الذي تعيشه بإمكانه الرجوع الي المشاهد
التي عكسها كتاب "في بلاد العبابدة" الذي ألفه الجيولوجي المصري الدكتور
سمير محمد خواسك الذي عمل بمنطقة البحر الأحمر المصرية في ستينيات القرن الماضي.
عكس الجيولوجي خواسك بطريقة سردية وقصصية جميلة صعوبة الحياة في هذه المنطقة بما
في ذلك جفاف البيئة، وندرة المياه، وفقر المراعي، والعزلة عن المراكز الحضرية. لقد
نقل الكثير من المشاهد الحياتية في هذه المنطقة في قوالب شيقة وجاذبة عبر تعليقات
لا تخلو من روح الفكاهة والسخرية اللطيفة المعروفة لدى الأشقاء المصريين. كانت هذه المنطقة تشهد الكثير من العزلة من
وادي النيل الذي يحتضن الجزء الأغلب من سكان مصر، كما كانت تعاني من التخلف
التنموي وغياب الخدمات الضروية وضعفها لا سيما المياه. ربما كان النشاط الجيولوجي
هو أحد أهم الأنشطة المحدودة بالإضافة الى صيد الأسماك في تلك الفترة. أما الرعي
الذي يعتبر الحرفة التقليدية للسكان الأصليين لمناطق البحر الأحمر، فأهميته لا
تتجاوز ضمان إستمرار المعيشة لمجموعات الرعاة الصغيرة لكن من الصعب القول انه يمثل
نشاطاً إقتصادياً حياً. اقول ذك من واقع المعرفة بحكم انتمائي لمنطقة البحر الاحمر
السودانية التي لا تختلف كثيرا عن منطقة البحر الاحمر المصرية من النواحي الطبيعية
والجغرافية حيث تجمعهما ثلاثية الصحراء والجبال والبحر (المالح)، كما تربطهما
الكثير من الصلات الثقافية والاجتماعية. لقد عبر عن ذلك الباحث النرويجي الدكتور
كنوت كريفنسكي في كتابه القيم " تصحر التصحر: المشهد الثقافي المهدد بين
النيل والبحر الاحمر" الذي ركز فيه على العلاقة بين الطبيعة والإنسان في
المنطقة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر في السودان ومصر التي تعاني من درجة عالية
من القحولة وندرة المياه مع قدرات عالية لقاطنيها على التكيف مع هذه الظروف. تبدو
الحالة أفضل من ناحية حجم تساقط الأمطار كلما اتجهنا جنوباً بالتالي فأن الظروف
الطبيعية في السودان أفضل من نظيرتها في مصر، وفي أرتريا أفضل من نظيرتها في
السودان وتنطبق ذات الحالة بين السعودية واليمن في الساحل الآسيوي للبحر الأحمر او
بر العرب كلما درجت العادة على تسميته عند البحارة التقليديين في البحر الاحمر
مقابل بر العجم ( الساحل الإفريقي).
تحتضن
الغردقة مجموعة من أهم المنتجعات السياحية على البحر الاحمر، وتستفيد من قربها من
شبه جزيرة سيناء حيث توجد عدد من المحميات الطبيعية والمناطق ذات القيمة الكبيرة
في السياحة الدينية، وسياحة السفاري، وسياحة الغوص مثل محمية رأس محمد البحرية
التي تقع قبالة الغردقة في الرأس الجنوبي لشبه جزيرة سيناء، ومنطقة سانت كاترين
التاريخية التي تحتضن المواقع المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث (الإسلام،
والمسيحية، واليهودية) حيث جبل موسي ودير سانت كاترين. من أهم المعالم السياحية في
الغردقة جزيرة الجفتون التي تقع قبالة المدينة ومواقع الغوص المتربطة بها، كما
ترتبط الغردقة ايضاً بجبال البحر الأحمر التي تشكل أساسا لنوع فريد من السياحة
التي تعتمد على الرحلات وتجربة حياة البدو وتسمي سياحة السفاري والليالي البدوية.
ويمتد
التطور الحضري والسياحي الذي تشهده مدينة الغردقة الي شقيقاتها الاخرى من المراكز
الحضرية على ساحل البحر الاحمر المصري مثل سفاجا، ومرسي علم، ورأس غارب حيث شهدت
كلها نشاطاً وازدهاراً متسارعا منذ العقود الاخيرة من القرن العشرين ساهم في ترقية
حياة المجتمعات من اقتصاد البداوة والصيد البحري
الى اقتصاد السياحة والخدمات، كما ساهم في توفير الخدمات لا سيما المياه
التي تشكل واحدة من أكبر المشكلات التي يواجهها سكان تلك المناطق.
كانت
زيارتي الاولى والاخيرة لمدينة الغردقة في اواخر العام 2018، وكانت من أمتع
الزيارات. ربما كنت محظوظاً في إختيار التوقيت المناسب لزيارتها حيث تشهد المدينة
مناخاً معتدلاً في فصل الشتاء. لم تتجاوز اقامتي المنطقة المركزية في المدنية
الصغيرة وهي المنطقة القريبة من السقالة، التي تقع فيها مارينا اليخوت وسوق
الاسماك وتحتوى على عدد من الفنادق والمراكز الخدمية المقامة بشكل اساس لخدمة
السائحين. ولكن كانت فرصة للتجول في مركز المدنية والتحرك نحو قطاعات المدينة
الاخرى مثل حي الدهار وسهل حشيش ومنطقة المطار.
اعجبتني
صناعة المنتج السياحي وتسويقه في المدينة، وهي تجارب تستحق التقدير والتشجيع. ولعل
اهم النماذج التي استرهت انتباهي معرض التماثيل الترابية في متحف الرمال. ويبدو
انه متحف خاص حيث يقع على مساحة محدودة، ويعرض تماثيل ترابية لمشاهير وشخصيات
عالمية. الفكرة يبدو انها مستوحاه من متاحف الشمع في مواقع اخرى في العالم مثل
لندن . كما نجد نموذج آخر لمتحف فريد وهو الحديقة الصغرى لمصر ( ميني ايجيبت بارك)
التي تحتوى على نماذج محاكاة لمعالم مصر السياحية مثل الاهرامات ومعبد الكرنك وبعض
المباني التاريخية. وفكرة المتحف المفتوح هذه تقدم صورة تعريفية للسائحين عن اهم
المعالم وتقديم فكرة عنها، كما تمثل موقعاً للاسر والاطفال بما يشير الي الغرض
التربوي والتعليمي للفكرة.
متحف مدينة الرمال لوحة تعريفية |
مشهد من مدينة الرمال |
مشهد من مدينة الرمال |
للبحر حضوره الكبير في المشهد السياحي للمدينة التي تأخذ كل جمالها منه. ونجد متحف الأحياء المائية في غرب المدينة، ويحتوى على اكواريوم لعرض الاسماء الحية، ومعارض تعريفية عن أسماك البحر الأحمر، كما يتضمن المتحف عرضاً للبيئات البحرية خارج الماء مثل مواقع تعشيش الطيور البحرية والسلاحف البحرية. كان بودى إتخاذ العبارة البحرية التي تنقل الركاب بين الغردقة وشرم الشيخ ولكن لم أتمكن من ذلك بسبب الإيقاف المؤقت للعبارة لاغراض الصيانة في الفترة التي زرت فيها المدينة.
اكواريوم الغردقة من الخارج
اكواريوم الغردقة مشهد من الاكواريوم- طيور الفلامينجو البحرية في بيئتها المصنوعة في الاكواريوم
إذا كنت ترغب في قضاء عطلة قصيرة في مدينة هادئة
وجميلة، لا تتردد في التوجه الى الغردقة، وإذا كنت مهتماً بإنشاء الحواضر وتاريخها
في عصرنا الحالي فعليك بالغردقة وتاريخها فهي مدينة أنشأها الإنسان في العقود
الأخيرة. والملفت للإنتباه أيضاً أن هناك مدينة قيد الإنشاء في الجانب المقابل للغردقة
من البحر الأحمر في الساحل السعودي وهي نيوم، الأمر الذي يشير الى أن اقليم البحر
الأحمر في إنتظار حاضرة جديدة ستعقبها حواضر أخرى، فلا زالت جغرافية البحر الأحمر
بكر بإمكانها قبول التطور العمراني.