قدم عالم البحار النمساوي الدكتور هانس هاس خدمات جليلة للسودان عبر إنتاجه لأول فيلم توثيقي عن الحياة البحرية في الساحل السوداني، وذلك قبل إستقلال البلاد وتحديداً في العام 1951. حقق الفيلم المشهور (مغامرات في البحر الاحمر ) شهرة عالمية أهلته للحصول على جائزة الأوسكار في مهرجان البندقية (فينسيا) السينمائي. كان الفلم نتيجة لرحلة إستكشافية وتوثيقية قام بها الدكتور هاس بصحبة عدد من المساعدين، قضوا فيها شهوراً في منطقة البحر الاحمر حيث تمت تغطية ملامح الحياة البحرية بالإضافة الي الحياة الحضرية والمجتمعية بمدينتي بورتسودان وسواكن. تم تمويل الفيلم من قبل شركات عالمية أمريكية ونمساوية، وعرضت النسخة الأولي منه باللغة الألمانية، ومن ثم تبعته أعمال باللغة الانجليزية منها برنامج تم بثه عبر هيئة الأذاعة البريطانية عن الرحلة الإستكشافية الى البحر الاحمر.
هناك شخصية محورية ساهمت بشكل كبير في إنجاح هذه الرحلة وفي إنتاج الفلم المذكور. هذه الشخصية هي الآنسة لوتي بايرل التي إكتسبت فيما بعد إسم زوجها هانس هاس. بدأت لوتي حياتها كعارضة أزياء وممثلة ومن ثم تحولت تماماً الى دعم زوجها في مساعيه المتعلقة بتوثيق الحياة الطبيعية البحرية،. إنضمت لوتي لمكتب السيد هانس هاس بمدينة فيينا كمساعدة في الأعمال الإدارية وذلك في العام 1947. عندما لاحت فرصة الذهاب الي السودان لتوثيق فيلم عن البحر الاحمر عرضت رغبتها في الإنضمام لفريق البعثة لكن ووجهت بإعترض السيد هانس بحجة صعوبة المنطقة ولعدم قناعته بمشاركة النساء في الأعمال البحرية لمتاعبها ولإرتفاع درجات المخاطر فيها . لكن تنازل فيما بعد عن موقفه ذاك لا سيما بعد ضغط من قبل الجهة الممولة للعمل التي رأت في وجود شابة جميلة ضمن فريق العمل فرصة لتعزيز فرص نجاح الفلم التوثيقي وزيادة جاذبيته ومقبوليته لدى الجمهور وفي تسريع تسويقه وإنتشاره، وقد كانوا بالفعل محقين في حججهم حيث أثبتت نتيجة التجربة ذلك، فأهل الإعلام والسوق لهم تقديراتهم الأكثر تفهماً وتلمساً لإتجاهات الناس وميولهم بالمقارنة لتقديرات العلماء. إنضمت لوتي للفريق الذاهب للسودان وبدأت في الإعداد للرحلة عبر تعلم الغوص في مسابح وبحيرات مدينة فيينا. لم تخذل لوتا الشركة الممولة التي توسمت فيها انجاح الفلم و زيادة جاذبيته ، فقد استخدمت شجاعتها وذكائها ومرحها وجمالها وأنوثتها وخبرتها كعارضة أزياء وممثلة في إنجاح الفلم، ففي كثير من مشاهد التصوير تحت الماء ظهرت مبدية بعض مفاتنها الجسدية متنازلة عن لبس بدلة الغوص الكاملة التي تغطي أغلب الجسد. حقق الفلم بعد اطلاقه نجاحا منقطع النظير وبسرعة فائقة، فالكل اشاروا الي دور لوتي في نجاحه. كان عالم خمسينيات القرن الماضي منبهراً بالفتاة الجميلة الشجاعة التي تسبح وسط الشعاب المرجانية والأسماك والتي إخترقت مجالاً ذكورياً من الدرجة الأولى. لم تحظ لوتي بنيل إعجاب الجمهور فقط، فقد إختطفت ايضاً قلب العالم دكتور هانس نفسه الذي أحبها وعرض عليها الزواج وهما في رحلة العودة من بورتسودان الي فيينا في نوفمبر 1950. بعض إطلاق الفلم، توالت عروض شركات الإنتاج السينمائي للوتي للرجوع الي عالم التمثيل لكنها رفضت وتمسكت بمواصلة المشوار مع زوجها هانس هاس في توثيق الحياة البحرية.
فارقت السيدة لوتي هاس الحياة في 14 يناير 2015 بمدينة فيينا بالنمسا بعد حياة حافلة بالعطاء، وذلك بعد أكثر من عام بعد رحيل زوجها الذي غادر الفانية في 2013. لكن إسمها لازال حياً بل سيظل حياً بجوار إسم زوجها، فلاتذكر مسائل توثيق الحياة البحرية والطبيعة البحرية إلا وتقفز إلي الأذهان أسمائهما وما يذكر إرتياد النساء لعالم البحار إلا ويذكر إسم لوتا التي تعتبر بلا منازع في صدارة النساء الرائدات في الغوص والتوثيق والتصوير تحت الماء. لقد إقتحمت السيدة لوتا بشجاعة مجالاً مهنياً شاقاً وأثبتت فيه جدارتها. إلتقيت بأحد المصورين الكبار في معرض بمدينة فيينا، وأثناء النقاش معه إستسفسرته عن وجود أعمال له عن توثيق الحياة في البحار او المحيطات او غابات افريقيا وصحاريها، وأفادني بقيامه ببعض الأعمال القليلة، وبعدها وفي إطار تشجيعه للذهاب للسودان لتوثيق الحياة البحرية والصحراء والجبال والحياة البرية، أشرت لتجربة دكتور هانس هاس وما قدمه لبلادي فقال الرجل ضاحكاً: لو كانت لي حبيبة مثل لوتي لوثقت الفضاء دعك عن أعماق البحار، وضحكنا معاً مقرين بدورها في حياة هانس هاس المهنية.
ظلت رحلة السودان تشغل حيزاً إستثنائياً في وجدان الثنائي هاس، فهي التي شهدت مولد حبهما والخطوات الأولي لبناء مصيرهما المشترك. في الفلم الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية، تلفت لوتي إنتباه زوجها إلى الهدية الكبرى التي تحصلوا عليها في السودان مشيرة الى الزواج وذلك بعد أن يعدد الدكتور هاس جمال وصفاء ونقاء وتفرد بيئة البحر الأحمر. بادل المجتمع المحلي بالبحر الأحمر الثتائي النمساوي أيضاً الحب والتقدير والإهتمام. ففي كثير من مشاهد الفلم يظهر هذا الإحتفاء خصوصاً في شوارع مدينة بورتسودان او من الصيادين المحليين او الذين ساعدوا البعثة في مهمتها. لعل من أهم دلائل هذا التقدير والحب ما ذكرته لوتي عن تلقيها في يوم من أيام وجودهم ببورتسودان هدية من شخص مجهول من مدينة طوكر، كانت الهدية المغلفة بإحكام مجموعة من أسورة وسلاسل الذهب التي تلبسها النساء بمنطقة البحر الأحمر، وقد كتب لها باللغة العربية أنه يقدم لها هذه الهدية تقديراً لها وإعجابا بشجاعتها بعد أن قرأ عنها وعن مجهوداتها في إحدى الإصدارات الصحفية. ترددت لوتي في قبول الهدية من رجل مجهول ولكن في النهاية إقتنعت بأخذها. تشير القصة إلي معاني عميقة منها الكرم السوداني، وتقدير السودانيين للمرأة، وقد قرأت من قبل في كتاب لمؤلف بريطاني يشير إلى إحترام السودانيين للنساء الغربيات المسافرات لوحدهن حيث يجدن الدعم من الكل ولا يتعرضن لاي شكل من أشكال الإعتداء او التحرش في طول البلاد وعرضها، كما تشير الحادثة الي الأدب والخلق الرفيع. و يبدو أن مقدم الهدية كان من كبار المجتمع الطوكراوي، وقدم هذه الهدية منفعلاً بمجهودات الفتاة النمساوية او قد يكون معجباً بجمالها، او قد يكون إلتقي بها ببورتسودان او سواكن ولكن لم يكن يرغب في إعلان إسمه. و هنا يمكننا القول، هكذا هي تصرفات الرجال العظام عندما يعجبون، وعندما يعشقون حيث تمنعهم كبريائهم من إعلان المشاعر، وأنهم يقدمون بلا ثمن، ويقتلون ميولهم العاطفية بالصمت النبيل، هذا في حال إفترضنا وجود ميول عاطفية وهي غير مستبعدة، فكثير من النجوم يتعرضون لحالات من الحب من قبل معجبيهم وإن كانت كلها او أكثرها حالات حب من طرف واحد. كما تشير الحادثة إلى مستوي الوعي والحياة المدنية بمدينة طوكر على تلك الأيام، فكانت المدينة تعيش أوج إزدهارها ورفاهيتها، نتيجة إرتفاع أسعار القطن، فاهل البحر الاحمر يذكرون أن طوكر هي المدينة الأولي التي دخلها التلغراف في السودان، وهي وسيلة الإتصال المتطورة حينها، كما كانت بورصة القطن بطوكر ترتبط بالبورصات العالمية. كما يبدو من الحادثة أن المدينة كانت تستقبل الصحف و المجلات والإصدارات بشكل مستمر، والكل في البحر الاحمر يأسف على حالة التدهور التي عانت منها هذه المدينة المتميزة فيما بعد.
لقد ساهمت الرحلة الإستكشافية والتوثيقية للبحر الاحمر في زيادة تسويق السيد هاس كعالم بحار وكناشط في التوثيق للحياة البحرية نسبة للكم الهائل من الصور والمعلومات عن الحياة البحرية مثل الشعاب المرجانية وأسماك القرش وغيرها من الأحياء البحرية. من جانبه قدم العالم هاس الكثير للبحر الأحمر عبر التوثيق. بالإضافة الى الأفلام والبرامج التلفزيونية، قدم السيد هانس كتباً عن البحر الاحمر مثل كتابه عن أسماك المانتا ري في البحر الاحمر، وكتابه عن العودة الي البحر الاحمر بعد ثلاثين عاماً.
هناك الكثير من المشاهد الجميلة والرائعة في فلم مغامرات في البحر الاحمر والبرنامج الخاص عنه الذي تم إعداده عبر هيئة الإذاعة البريطانية. من هذه المشاهد، تصوير قرش النمراوي حيث ينزل الفريق بسرعة من السنبوك للبحر لإلتقاط الصور من القرش النمراوي الذي ظهر قريباً من السنبوك، وهو بالمناسبة من الأنواع الكبيرة من أسماك القرش ويتصف بالقوة والجمال. وكذلك مشهد عمل الفريق لتشغيل الموسيقي في واحدة من الشعاب المرجانية للفت إنتباه الأسماك وتطريبها. ومن المشاهد الملفتة للإنتباه مشهد إنقاذ لوتي بعد أن تاهت وعلقت وسط ركام إحدي السفن الغارقة، لا أدري إن كانت أمبريا الإيطالية ام سفينة أخرى لانه لم يتم ذكر إسمها لكن ربما كانت سفينة أخرى لأن أمبريا ظلت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية محظورة على هواة وممارسي الغوص لأغراض السلامة لإحتوائها على متفجرات ومواد عسكرية.
يأتي التساؤل الذي يفرض نفسه هنا، لماذا وصفنا عمل هذا الثنائي المتميز بالمعجزات. يرجع ذلك لعدة إعتبارات أولها، الدور الريادي للسيد هانس في مجاله وما قدمه للإنسانية من إرث في العلوم والتوثيق الطبيعي في مجال البيئة البحرية، وفي تطوير معدات الغوص والتصوير تحت الماء. وكانت لوتي التي جمعها معه إعجابها بنشاطه ثم علاقة الحب التي رسمت حياتهما معاً خير معين لزوجها. لقد حققا معاً نجاحات مقدرة طوال مدة حياتهما المهنية والعائلية المشتركة التي تجاوزت الستين عاماً. الأمر الثاني إنتماء الثنائي المذكور إلى بلد غير ساحلية، وهي النمسا التي تقع في جبال الألب، ولكنها حققا إنجازات لم يسبقهما إليها الرواد الآخرين من المناطق الساحلية. إرتبطت حياة هانس هاس بالبحار، بعد لقائه بغواص أمريكي في الريفيرا الفرنسية وقد قاده ذلك إلى تحويل مساره الأكاديمي من القانون والحقوق الي دراسة علم الحيوان، منتقلاً من فيينا الي برلين الألمانية للدراسة. لقد منحت رحلة البحر الأحمر للثنائي النمساوي السمعة والإنتشار وهي أول رحلة تجمعهما معا وقادتهما لتوثيق الحياة البحرية في مناطق اخري من العالم مثل البحر الكاريبي والبحر المتوسط والادرياتيكي والمحيطين الهندي والهاديء. لقد إكتسبت شخصية السيد هانس وزوجته لوتي بعداً عالمياً، فكل العالم لا سيما في قطاعات الأبحاث البحرية والإعلام البيئي والسياحة البيئية يحتفي بهما، وحسناً فعلت جمعية الغواصين التاريخية بإفراد جائزة عالمية بإسم هانس هاس ، وأرجو هنا لفت إنتباه حكومة السودان والمجتمع المدني بالبحر الأحمر في النظر في إمكانية تكريم الثنائي هاس.
في خاتمة المقال، بإمكاننا القول إن الحب لا يبني البيوت والأسر فقط ويخلق السلام بين الدول والشعوب ولكنه ايضاً يقود الي تحقيق المنجزات والمعجزات.