عند زياراتي المتقطعة لبورتسودان، أحاول تركيز انتباهي على التغيرات والملامح الجديدة في المدينة في محاولة لتلمس التغييرات الإيجابية والسلبية على حد سواء، فالمنطق وطبيعة الاشياء تقتضي تسليط الاضواء على الجميل وغير الجميل سواء بالاحتفاء والتعبير عن الفرح او الانتقاد و التعبير عن الأسى. وكعاشق لهذه المدينة المتفردة، وكإبن من ابناءها الذين اقتضت ظروف عملهم الابتعاد عنها ، وهو ابتعاد حسي ووقتي وعارض، أجد نفسي متابعا لصيقا لاحداثها وتطورها من علي البعد.
الملاحظة التي أثارت ذهني هذه المرة وكانت تثير اهتمامي ايضاً في المرات السابقات، التراجع في مستوي الصيانة والمتابعة لمشروعات البنية التحتية بالمدينة لاسيما الطرق الداخلية . قد يرجع ذلك للظروف المالية ومنعطف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وهي حقيقة لا تخفي علي أحد وتلقي بظلالها علي مجمل فصول الحياة، وقد يرجع ايضاً لضخامة المطلوب المقابل للصيانة والإدارة، فالبنية التحتية للمدينة شهدت توسعاً دراماتيكياً متسارعاً خلال عشرية حكم ايلا لولاية البحر الاحمر ( 2005-2015 ) بشكل لم يشهدها تاريخها منذ تأسيسها علي عهد القنصل كرومر والحاكم العام ونجت باشا في بدايات القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب أعباء ادارية ومالية قد لا تتوافر للسلطات المحلية بالشكل المطلوب.
الأمر الآخر الذي يثير إنتباهي منذ فترة هو التوسع في ظاهرة إستغلال المؤسسات الخدمية في تمجيد الرموز المجتمعية. لا غرو في قيام الدول والمجتمعات بتكريم الأشخاص الذين قدموا مساهمات كبيرة وتضحيات إستثنائية لصالح البلاد وسكانها فذلك عرف إنساني تجده في كل الدول. في أمريكا تجد إسم الرئيس جون كيندي يزين إسم المطار الأشهر بالبلاد ، كما يزين إسم جورج واشنطن إحدي أهم قطع الأسطول الامريكي. في باريس يستقبلك إسم الرئيس شارل ديغول ممثلاً في إسم المطار الأكبر بالبلاد . وفي كل الدول لا سيما الاوروبية منها تطالعك تماثيل الشخصيات العامة ومنهم كبار الساسة الذين قادوا التحولات الناجحة او الأدباء الذين ساهموا في زيادة الإنتاج الفني وإثراء الوجدان تزين الساحات والشوارع. في القاهرة تقف جملة من التماثيل منها تمثال أبو الاقتصاد المصري طلعت حرب في الميدان الذي يحمل إسمه بوسط القاهرة، وهكذا نجد في وسط الاسكندرية تمثالي الزعيمين الكبيرين محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة في مصر وسعد زغلول زعيم حزب الوفد التاريخي في مركز المدينة. لكن بشكل عام تخضع هذه العملية لقدر كبير من التمحيص والدقة، بمعني أن التكريم بتخصيص مكان عام او موقع في مكان عام يجب أن لا يقدم لاي شخص قدم مساهمات، فالمساهمات التي تستحق التكريم العام يجب ان تكون غير عادية واستثنائية سواء كانت في شكل انتاج او اختراع علمي او القيام بموقف تاريخي او التضحية بالروح او الحياة او العمر او المساهمة الفعلية في حل قضية معقدة او قيادة تحول تاريخي ناجح وهكذا .
وانا أمر بطريق الثورات إستوقفني مسمى صيدلية عامة تقع بالقرب من مستشفي الموانيء أعيد تسميتها لتحمل إسم المرحوم الدكتور سيد خليل بيومي، وهو أحد رموز الثغر المهمين، فالرجل كان مساهماً في كل شيء في البحر الاحمر، بدء من التعليم مروراً بالرياضة والفن والثقافة والصحافة والتنمية وإنتهاء بالطب والصيدلة وكان يحمل مؤهلين في كليهما، وكان الرجل قائدا ومعلما في سلوكه وفي مبادراته . لقد التقيت به طالباً في المعهد الفرنسي وكنت أشد المعجبين برجل في عمره يجلس على كرسي الطلب ضمن شباب صغار لتعلم لغة جديدة ليضيفها لقائمة اللغات التي يجيدها ومنها الانجليزية والألمانية، تأثرت برحيله كما تأثر كل ابناء البحر الاحمر. لكن التساؤل الذي دار بذهني هل تكريم رجل بهذه القامة والعطاء يكون بإعادة تسمية مبني حكومي كان اصلاً قائماً. أعتقد ان الخطوة غير موفقة. كان يمكن أن يكون الإحتفاء بتسمية ميدان او شارع او معلم محسوس بإسمه او بناء صرح جديد بإسمه ولا غرو أن يكون في المجال الصحي. كما لاحظت في ذات الشارع إعادة تسمية مدرسة محمد عبدر ربة للبنات بإضافة إسم الموانيء لإسم مؤسس المدرسة رجل البر والإحسان المرحوم محمد عبد ربه لتكون مدرسة عبدربه الموانيء الثانوية للبنات. فكرت في الأمر ، لماذا هذه الجوطة في التسميات. هل هذه الإضافة الجديدة في الإسم تعبر عن متغير جديد بمعني تقديم هيئة الموانيء الثرية دعماً مالياً لهذه المؤسسة إقتصى إضافة اسمها من قبل القائمين على أمر التعليم. هل سيستمر هذا المنوال من السلوك المجاملاتي في تسمية المؤسسات التربوية بإضافة أسماء المتبرعين الجدد على إسم المؤسسات القائمة اصلاً.
هذا الاتجاه ظل للاسف يجد التوسع غير المبرر وهو إعادة تسمية المؤسسات الخدمية الحكومية بأسماء شخصيات مجتمعية مثل المدارس والصيدليات وخلافه. ولا ادري راي أهل التربية في ذلك فيما يخص المدارس ، لا سيما لو نظرنا الي الأمر من جانب إن الأطفال الذين يدرسون في مدرسة تحمل إسم شخص محدد يتسرب لخيالهم بأن الشخص المذكور هو الذي بني هذه المدرسة فيما الأمر ليس كذلك. فمعظم هذه المؤسسات إما بنيت من الخزينة العامة وأموال دافع الضرايب السوداني او بنيت بعض أجزائها بمساهمات مجتمعية ومنها مبادرات العون الذاتي على عهد الفترة المايوية حين بنيت كثير من هذه المؤسسات عبر الحشد الشعبي وتنازل المواطنين في الأحياء الشعبية عن بعض حصص التموين لهذا الغرض او ذاك.
لا تخفي مساهمات القطاع الخاص المحلي في بناء المؤسسات الإجتماعية بالمدينة. ففي الفترة التي سبقت قيام الإنقاذ في العام 1989 لم يكن بالمدينة سوى ثلاث مدارس ثانوية للبنين ومثلها للبنات وهي مدراس بنيت على نفقة بعض القادة المجتمعيين حيث نجد أسماء مثل سعيد باورارث وسعدابي ومحمد عبد ربه والعشي والشيخ مصطفى الأمين اما مدرسة البحر الاحمر الثانوية فهي الأخرى فقد بنيت بمساهمات المجتمع المحلي وان لم تكن تحمل شخص بعينه، حسب علمي أن المساهمة الرئيسية كانت من الشيخ مسعود باني مسجد مسعود الواقع قبالة المدرسة وقد سمعت أن الأرض نفسها كانت مملوكة له ( سمعت ان ذات الشخص بني هذه المدرسة لتكون معهد للتعليم الديني الاهلي وحول غرضها فيما بعد لتكون مدرسة ثانونية وأخرى متوسطة). لعل الإستثناء هو مدرسة بورتسودان الحكومية والتي تحولت حالياً لجامعة البحر الاحمر وهي كانت في الأصل ثكنات للجيش المصري فآلت ملكيتها لقوة دفاع السودان ( نواة الجيش السوداني) التي تكرمت بتخصيصها لتكون مدرسة ثانوية لأبناء الريف حسب قناعة الفريق أحمد باشا محمد حمد أول قائد للجيش السوداني وهو أحد ابناء البحر الاحمر وفق إفادة الراحل المقيم ابونا محمد بدري ابوهدية. كما لاحظنا في مدينة بورتسودان إعادة تسمية المدرسة الأهلية المتوسطة بإسم مدرسة البربري وسرت في المدينة تلك الأيام أن أسرة البربري طالبت بإسم المدرسة التي بنيت على نفقة الراحل رجل البر والإحسان محمد السيد البربري لصالح التعليم الاهلي فى فترة الاستعمار البريطاني، وقبلت الاسرة مسمي المدرسة الأهلية ولكنها لن تقبل تحويل إسم ذات المبني كمقر لمدرسة أخرى وأعتقد ان لهم الحق في ذلك، فللواقف حق في إشتراط ما يراه ( الجدير بالذكر ان عدد من المؤسسات بنيت على نفقة السيد محمد السيد البربري في مدينة بورتسودان ومنها الجامع الكبير). تجدر الإشارة إلى أن التعليم الأهلي نشأ في السودان بمبادرات مجتمعية خلال فترة العهد الإستعماري البريطاني ليعمل بموازاة مع التعليم النظامي المحدود وهكذا نشأت العديد من المدارس الاهلية في مدن السودان المختلفة ومنها بورتسودان. كما نجد في بورتسودان وبعض المدن مسمي المدارس الأميرية وان إختفت التسمية مؤخراً بتحويل أسماء هذه المدارس. وأول المدراس الأميرية هي مدرسة سواكن الأميرية التي بنيت في العهد التركي وتعتبر من اعرق المدارس في السودان، في بورتسودان حملت مدرستين هذا المسمي احداهما للبنين وتقع قبالة مدرسة البربري الثانوية والتي تستخدم حالياً كمقر اداري لوزارة التربية والتعليم، والثانية للبنات وتمت إضافتها لمباني كلية التربية لجامعة البحر الاحمر. ترتبط التسمية بالحكومة المصرية وفيها إشارة للأسرة العلوية التي حكمت مصر واعتقد ان المقصود بالمدارس الاميرية هي المدارس الأكاديمية التي تتبني التعليم الحديث وقد ظهرت هذه المدارس في مصر في فترة محمد على الكبير وحكام اسرته.
كانت توجد بعض المدراس التي تحمل شخصيات عظيمة وكبيرة في قيمتها ومساهماتها التاريخية، فكنا نجد مدرسة عثمان دقنة المتوسطة ولا خلاف علي دور أمير دار صباح في تاريخ السودان والبحر الاحمر، او شخصيات وطنية في مقام السيد مبارك زروق أول وزير للخارجية للسودان، وهو شخصية وطنية من الطراز الأول، او مدرسة أساس بسنكات سميت باسم الشريفة مريم الميرغنية وهي ايضاً شخصية ساطعة في تاريخ الشرق والسودان ولا خلاف أنها تستحق التكريم والإحتفاء وهي بالفعل تجد التكريم من أهل الشرق الذين يتوافدون سنوياً لمدينة سنكات للإحتفاء بذكراها، وينطوى لقبها البجاوي (باقدبسيت) على قدر كبير من التقدير والإشارة لحسن الخلق وكريم الأخلاق والبذل والعطاء والترفع عن الصغائر والبشاشة في التعامل، فمعني الكلمة في السياق البجاوي يعني الإنسان الذي يجبر الخواطر ولا يتسبب في خلق موقف سلبي ضده من الآخرين المتعاملين معه. بنيت هذه المدرسة وفق إفادة الراحل محمد ابوهدية على نفقة الحكومة المصرية وبإشراف مباشر من الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو المصرية ومسؤول ملف السودان في الحكومة المصرية آنذاك حيث كان يري في الأمر تكريماً للسيدة المجتمعية ووفاءه الشخصي للمدينة التي شهدت ميلاده حيث كان والده يعمل موظفاً ادارياً بمركز سنكات. كما توجد مدرسة بسواكن سميت بإسم النائب البرلماني محمد كرار كجر وهو من أوائل البرلمانيين من شرق السودان الذين شاركوا في برلمان الحكم الذاتي والبرلمانات اللاحقة، ولعب ادوراً كبيرة في نشر التعليم والوعي وهو صاحب فكرة مؤتمر البجا المطلبي التي إقترحها في نهاية اربعينيات القرن الماضي وفق إفادة صديقه الراحل ابو محمد منيناي. ومن التسميات التي تحتفظ بدلالات مستحقة، تسمية أحد المدارس بإسم السيد عبد الله العبيد وهو برلماني محلي ومن الرموز البارزة لمجتمع أبناء الشمال بالبحر الاحمر وليس هناك من ينكر أدوار أفراد هذه المجموعة في نشر التعليم في ربوع البحر الاحمر ومنهم معلمون ومعلمات حملوا على أكتافهم مهمة إستمرار مدارس كثيرة في أرياف البحر الاحمر وقد يكون من الواجب إطلاق مسمي مدرسة على واحد من رموزهم. الجدير بالذكر ان المدارس التي تحمل إسم مجمع السيد العبيد كانت تسمي مدارس حي الشريف الإبتدائية وأعيدت تسميتها لتحمل إسم السيد العبيد ).
هناك مدرسة ريفية عريقة تلقي عدد كبير من طلاب الريف التعليم فيها، وهي مدرسة بنيت على نفقة الدولة ولكنها في لحظة ما تغير إسمها الي إسم أحد رجال الأعمال. من المؤكد وجود مساهمات مقدرة من ذلك الرجل المشهور بالعطاء الإجتماعي ولكن لا يبرر ذلك نسف الإسم التاريخي للمدرسة العريقة لصالح إسم شخص مهما كان عطاؤه. هذه المدرسة هي مدرسة اربعات الشرقية الأساسية الواقعة بقرية ايشنك بدلتا اربعات.
ومن النماذج الملفتة للإنتباه والمثيرة للتساؤل إطلاق إسم الإداري السوداني الفذ الراحل حامد على شاش على صالة مناسبات داخل كورنيش ايتانينا. وهو نوع من التكريم الذي إختير في غير محله حيث كان يمكن من الأفضل إختيار اسم إحد الفنانيين والموسيقيين لتكريمه بتسمية الصالة عليه وليس بالطبع السيد شاش بكل تاريخه وخبرته التي إمتدت من الإدارة البريطانية الي ثمانينات القرن الماضي حيث تبوأ منصب حاكم الإقليم الشرقي في الثمانينيات وقبلها حاكم جوبا ( المديرية الاستوائية) في ستينيات القرن الماضي.
هناك أسئلة تفرض نفسها وهي ما هو الأفضل من الناحية التربوية مثلاً فيما يخص المدارس. هل الأسلم في أن تحمل هذه المؤسسات العامة لا سيما مدارس الأساس أسماء الأحياء والمناطق كما كان الحال في فترة قبل الانقاذ، ام أسماء الشخصيات المجتمعية او التاريخية او الدينية مثل الصحابة رضوان الله عليهم وهي سنة سعودية شهدت إستخداماً واسعاً تزامن مع إعلان الشريعة الاسلامية كأساس للنظام القانوني في ظل سني الإنقاذ الاولى ؟ في مدارس القري والأحياء أعتقد وقد اكون مخطئاً ان استخدام إسم القرية او الحي هو الأصوب بدلاً من وضع أسماء لا تستخدم إلا في الأوراق الرسمية فيما يتحاشي الناس إستخدامها.
هل يمكن تطوير سياسة او لائحة في هذا الصدد بحيث يتم تحديد معايير صارمة ودقيقة في إطلاق التسميات؟ والنظر في أن لا يتوقف التكريم على إعادة تسمية المؤسسات التربوية والإستعاضة عن ذلك بان تذهب تسميات التكريم الى الشوارع والميادين التي لا تحمل أغلبها أسماء او إطلاق التسميات على مؤسسات جديدة تبني لغرض تكريم شخص محدد او في حالة قيام هذا الشخص ببناء المؤسسة من حر ماله وهي حالة يستحق فيها أن يكتب إسمه عليها ولو بماء الذهب ولا غرو في ذلك فالصدقة في الإسلام ليست كلها سرية ومنها الصدقة العلنية ولها نصيبها من الأجر والثواب، ولكن أن تتم إعادة تسمية مؤسسة قائمة وتحمل اسماً وتاريخاً وسمعةً بإسم جديد فقط بغرض تكريم شخص محدد فهذا أمر لا يقبله المنطق وبل تتضمن تعدياً على الحقوق العامة للمواطنين.