كتب الدكتور النور حمد ، وهو من أميز
الكتاب السودانيين ومن أكثرهم غزارة في الإنتاج المعرفي، مقالاً متميزاً بعنوان
تشريح العقل الرعوي، أرجع فيه الكثير من الأخطاء والسلبيات في السياسة والمجتمع
السوداني الي الطبيعة الرعوية. وجد المقال إحتفاء الذين رأوا فيه تفسيراً لكثير من
الإشكالات التي واجهت الدولة والمجتمع في السودان فيما رأى فيه البعض محاولة تفسير
غير موفقة ويعتبر شخصي الضعيف من الفئة الأخيرة.
كان الأولون أكثر سعادة بحكم كونهم إكتشفوا تبريراً منطقياً ومعقولاً وعدواً
مخًفياً تسبب في كثير من إشكالات الفشل الإداري والتخبط السياسي وغياب البصيرة وعجز القادرين عن التمام
في سلوك النخبة السودانية وأثر ذلك على عملية التحديث، وبناء الدولة، والدمقرطة،
والنمو الاقتصادي والمعرفي ،والإندماج القومي بالبلاد. ومن حق هؤلاء الفرح وهم
يكتشفون الداء والعدو الذي أقعد بالبلاد وتسبب في مرارات أهلها وفق ما أشار
الدكتور حمد.
إتهم الدكتور في سياق كتابته المجتمع
الرعوي بعدم النظام، والجنوح نحو الفوضى، وعدم الإلتزام بالنظم والقوانين، والقسوة
ضد الخصوم، ومناصرة القريب على الغريب، والإنكفاء الذاتي ورفض الآخر. وحاول إرجاع الكثير
من السلوكيات المتصلة بالسياسة والحكم الى تأثيرات العقل الرعوي ومنها ممارسة
السياسة بأساليب المؤامرات، والقهر، والصراعات مشيراً الى الطبيعة الرعوية في تكوين
المجتمع السوداني الذي تكون نتيجة هجرة مجموعات عربية إختلطت مع المجموعات الرعوية
والبدائية المحلية. لدعم وجهة نظره، إستدعى الدكتور الكثير من الأدلة بما في ذلك القران
الكريم الذي إقتبس بعض آياته التي توصف الأعراب بالكفر والنفاق. لا أدرى إن كان الإستدلال
القراني في هذه الحالات مصيباً لان آيات القران تحتاج لمعرفة السياق الذي نزلت فيه
وأسباب نزول تلك الآيات.
يبدو ان الدكتور ظلم بطريقة مقصودة او غير
مقصودة فئة مهمة من قطاعات المجتمع، وهي فئة الرعاة حين وصفهم بالفوضى وعدم
النظام. لست هنا بصدد الدفاع عن البدو او تمجيد البداوة رغم أننى حفيد أبالة وأنتمي
لمجتمع رعوي في المقام الأول وهو مجتمع شرق السودان او بالاحرى قبائل البجا، لكن أرجو
إبراز بعض الملاحظات:
اولاً: المجتمع البدوي ليس مجتمعا فوضوياً
كما حاول إظهاره السيد الدكتور، ففي حياة البداوة قدر كبير من النظم التي لا تقل
صرامة عن تلك التي في حياة المدن. ففي مجتمع البجا على سبيل المثال، يتضمن القانون
العرفي قدراً كبيراً من التفاصيل التنظيمية المهمة للعلاقات الإجتماعية و إدارة
الموارد الطبيعية. رغم تخلف هذه النظم الا أنها بحكم كونها مبادرات مجتمعية إيجابية
ساهمت في المحافظة علي بقاء مجتمع البجا وإستمرار الحياة الإجتماعية في بيئهم
وهكذا دواليك في المجتمعات الاخرى في السودان.
فقد ظللنا نسمع عن نجاح الجودية والأعراف المحلية في إحتواء صراعات
المزارعين والرعاة بدارفور لعقود مضت دون تطور التنافس الطبيعي بين مجتمعات الرعاة
والمزارعين الي صراع دموي كما جرى الحال فيما بعد عقب تراجع دور زعماء الجودية
وحكماء القبائل وتصدر الافندية والتجار والشباب للمشهد السياسي والاجتماعي
والاقتصادي.
ثانياً : عانت المجتمعات البدوية على مر
التاريخ من ظلم وإستغلال المجتمعات الحضرية عبر توجيه آليات السلطة وإستغلالها لإخضاعهم.
لقد ظلت نخبة المدن تنظر للرعاة كمجموعات خارج النظام وخارج سيطرة الأجهزة الرسمية
تقتضي الحضارة والحداثة إخضاعهم للسيطرة وتصفية نمطهم المعيشي وهنا تدخل سياسات أحياناً
تبدو تنموية في ظاهرها لكن تهدف في جوهرها ومدى تأثيرها لزيادة سيطرة قوى الحضر
على المجتمعات البدوية. وكان تأثير البدو على مر التاريخ في تكوين السلطة
وممارستها ضعيفاً حيث كانت السلطة حكراً لسكان الحضر دون غيرهم، وبذلك فقد ظل
البدو بعيدين عن دائرة صناعة السياسة وإتخاذ القرار. فمن الطبيعي أن يجد البدو
أنفسهم في ظل هذه الظروف في وضع يقلل درجة ثقتهم في قرارات السلطة لا سيما لو كان
لهذه القرارات مردوداً سلبياً على نمط حياتهم او سبل كسب العيش في بيئاتهم.
ثالثاً عانت مجتمعات البدو والريف من تبعات
التعالي النفسي والإنطباعات السالبة المصنوعة من قبل الحضريين. هذه الإنطباعات
تتحول الي مواقف ساخرة من البدو في أشياء كثيرة مثل طريقة الحديث او اللبس
وخلافه. هذه الإنطباعات ومواقف السخرية لا تتوقف عند التعليقات العابرة بل تساهم في
تشكيل مواقف اكثر تشدداً ضد كل ما هو بدوي او ريفي لدرجة تؤدي الي إستحلال ظلم
البدوي والتعدى عليه.
رابعاً: لم تخلو العلاقة بين المجتمعين
الحضري والبدوي من إستغلال اقتصادي ممنهج يميل لصالح المجتمعات الحضرية عبر
استغلال موارد الريف لصالح الحضر وتسخير الانسان الريفي نفسه لخدمة إحتياجات
المجتمعات الحضرية مثل توفير المنتجات الزراعية او الحيوانية التي تذهب بشكل مباشر
لصالح الحضريين ورفاهيتهم.وهنا نجد أنفسنا أمام حالة تجسيدية لجدلية المركز
والهامش في تجلياتها الكونية والمحلية بكل ما تمثله من ظلم وإخضاع الأضعف لخدمة
الاقوى. في المستوي الكوني تذهب المنتجات الاولية للبلدان الفقيرة الي دول العالم
المتقدم ليعاد تصنيعها وترجع لتباع مرة اخرى للدول الفقيرة بقيمة اكبر وذات
العلاقة تمارس في مستوى البلد الواحد عبر نقل المنتجات الاولية من المناطق الريفية
للمراكز الحضرية لضمان استمرار الصناعة في تلك المراكز وتعاد مرة اخرى. وتنطوى
علاقة الانتاج بين قوي الحضر وسكان الريف من خلل وظلم من حيث العائد ومن حيث
المجهود المبذول. من النماذج الحية لهذه العلاقة المختلة للانتاج في السودان
المقارنة بين مساهمات قطاع الثروة الحيوانية في الميزان التجاري والاقتصاد الوطني وحجم
المردود الفعلي العائد لرعاة ومنتجي هذه الحيوانات في مراعيها الطبيعية في كردفان
ودارفور والبطانة وغيرها من سهول السودان. فالعائد من العملة الصعبة لصادر هذا
الانتاج يذهب للوسطاء وكبار التجار ولا يذهب لفئات الرعاة الذين تقع عليهم ايضاً
مسؤولية تغذية المدن باحتياجاتها من الانتاج الحيواني.
ونعود مرة أخرى الى مسألة المؤامرات
والقسوة في الحياة السياسية وربطها بالتراث الرعوي كما تفضل الدكتور. فهذه الأخيرة
بشكل عام ترجع الي أمراض النفس الإنسانية في المقام الاول وقد ترجع الي جذور
تربوية وهي لا ترتبط بمجتمع دون آخر. فلو نظرنا الى بعض الأمراض النفسية مثل
النفاق والكذب نجدها أكثر حضوراً في سلوكيات المجتمع الحضري وتظهر بصورة أقل في
المجتمعات البدوية التي يتسم أفرادها بالوضوح والصفاء النفسي والتحرر من الخوف
وتبعاته.
ولو عدنا لمسألة الإنكفاء الذاتي، فان إنكفاء
اهل البادية يقابله إنكفاء آخر في المجتمعات الحضرية. فأهل البادية غير مرغوبين في
المجتمعات الحضرية. فالبدوي في المنظور السائد في الحضر، هو إنسان غير حصيف في
الكلام، ويعوزه الإنضباط السلوكي السليم، ويفتقد الأناقة في الملبس والإلتزام بالشروط
الصحية في المسكن، والقدرة على الوفاء بالتقيد المطلوب في المجاملات الإجتماعية،
وضوابط تناول الطعام ، كما هو إنسان عدواني ووقح، وهي إنطباعات سيئة لا يمكن
تعميمها على كل البدو.
إن الحديث عن سوء البداوة وتخلف البدو
وجلافتهم يمنعنا من تلمس الجوانب الايجابية في تلك المجتمعات. بالطبع لا تخلو مجتمعات
البدو من سلبيات ولكن هكذا الحال ايضاً في مجتمعات الحضر المليئة هي الاخرى بصور غير
محببة. الإنسان البدوي حريص على حريته ، وهي قيمة جيدة ، كما يتمتع بمستوي معقول
من النباهة والذكاء الفطرى الذي تغذيه طبيعة البداوة ومخاطرها. وفي جانب البيان،
فاهل البادية أكثر قدرة على التعبير عن ذواتهم عبر الشعر والسرد القصصي مقارنة
باهل الحضر.
الأمر الآخر الاكثر أهمية والذي يشكك في صحة
فرضية الدكتور النور حمد هو نجاح كثير من المجتمعات ذات الجذور الرعوية في تحقيق النجاح
التنموي والسياسي، وتمكنها من بناء دول
يشار عليها بالبنان. من هذه النماذج نموذج راعي البقر الأمريكي المساهم الكبير في إقتصاد
البلاد وفي الثقافة الامريكية، والنموذج
الهولندي الذي تمكن من تطوير دولة صغيرة الي مزرعة عالمية تنافس كبريات الدول في إنتاج
الألبان والأجبان واللحوم. وهكذا البوير الهولنديين الذين ذهبوا بأبقارهم الى جنوب
افريقيا ونجحوا في خلق كيان متقدم اقتصادياً، بغض النظر عن المظالم التاريخية التي
أوقعوها بالسكان الاصليين، فلازالت هذه الفئة تفضل السكن في مناطق المراعي الريفية
في العمق الجنوب الافريقي، وتتحكم من مضاربها الرعوية في توجيه إقتصاد البلاد.
ودعنا لا نذهب بعيداً، ونركز على أشقائنا العرب الخليجيين الذين يشاركونا ذات الجذور
الثقافية الرعوية، ولكنهم رغم حداثة تجربتهم تمكنوا من بناء نظم مستقرة وإقتصاديات
تنحو بثبات نحو التطور، وفوق ذلك قدرتهم على بناء علاقات إستراتيجية مع دول محورية في النظام
الكوني، والمهارة الكبيرة في إستغلال القدرات البشرية للدول الأخرى في تطوير إقتصاديات
بلدانهم، وهي مهمة ليست هينة تحتاج الى قدر كبير من المرونة النفسية لتقبل الآخر
المختلف ثقافياً وعرقياً. فأهل الكويت نجحوا في إرساء نموذج متطور في ادارة الدولة
في السياسة والاقتصاد، وهكذا أهل الأمارات الذي يستعدون لغزو الفضاء بعد أن تمكنوا
من بناء نموذج دولة عصرية، ومدن تجارية مثل دبي إستوعبت بكثير من المرونة كل
تناقضات البشر، وهكذا أهل قطر بكل
مهاراتهم في الحياة بين التناقضات والتجاذبات الاقليمية والدولية وفرض انفسهم
كلاعب، وأهل عمان الذي نجحوا في إستمرار نموذج حكم إمتد لمئات السنين مع قدر كبير
من الحكمة والتوازن، وأهل السعودية الذين
نجحوا في المحافظة على وحدة بلاد واسعة لا يجمعها تاريخ سياسي مشترك
وقدرتهم غير العادية في الموازنة بين مطلوبات المرجعية الدينية والثقافية لبلادهم ومقتضيات
الدولة العصرية والحاجة الملحة لمواكبة التطور العالمي والتفاعل مع العالم الخارجي.
وبالتالي يمكن القول بعدم دقة فرضية تناقض الجذور الثقافية الرعوية مع حسن ادارة
الدولة كما ذهب الدكتور.