لا خلاف على جرمية الفساد. فإذا نظرنا الى
تبعات الفساد نجد ما يكفى من الحجج التي تقتضي التعامل معه بهذا التوصيف بل وإيقاع
أشد انواع العقاب ضد مرتكبيه. لكن السؤال الأهم هو كيفية تحديد ممارسات الفساد
بدقة وتحديد أنواعه، وتوعية المعرضين للفساد والجمهور للوقاية منه. هناك بعض
الممارسات التي يمارسها البعض دون إحساس في كثير من الأحيان أنهم يمارسون جريمة
الفساد. ومن هذه الممارسات ما هو متعلق بالتساهل في تطبيق القوانين والنظم
الادارية او التسيب في تنفيذها ، ومنها المحاباة والتطفيف في الميزان العدلى والإداري
بإعطاء حق لمن لا يستحق والإنقاص من حق المستحق، ومنها المحسوبية وتبادل المنافع
بين الموظفين وأصحاب النفوذ فيما بينهم ، بحجة أنها خدمة وتسهيلات متبادلة، ومن
ممارسات الفساد تقريب الأقارب والمعارف وتسهيل حصولهم على المنافع من اجهزة الدولة
وخدماتها بشكل لا يتوفر لمن لا يمتلكون الحصول على ذات الإمتيازات بحكم بعدهم عن دوائر النفوذ والقرار والمعلومات
المتصلة بهم. سنحاول في هذا المقال تقديم تعريف عن الفساد ، وتعريف انواعه
وممارساته والإشارة الي أسبابه وآثاره.
تشير
كلمة الفساد الي جملة من الممارسات والأفعال التي لا تتسق مع الذوق السليم والنية
الحسنة والأخلاق الكريمة. وهي ممارسات ضارة بسلامة المجتمعات، ونزاهة السلطات
القائمة علي الأمر العام. ونسبة لتعدد إستخدامات الكلمة، وتعدد المنطلقات المعرفية
لدي الكتاب والباحثين الذين تناولوها، فقد أصبح من الصعوبة التوصل الى تعريف محدد
لكلمة الفساد، فحتي إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهي الصك الأممي الوحيد
المعني بمكافحة الفساد خلت من تعريف لكلمة الفساد حيث ركزت علي الأفعال والممارسات
الفاسدة مثل الرشوة، والإختلاس، وتبييض الأموال المتأتية من الأنشطة الإجرامية دون
تقديم تعريف محدد للظاهرة ككل، وتركت ذلك لتقديرات الدول في تشريعاتها
الوطنية.
بالذهاب الي المدخل اللغوي في تعريف
الفساد، فإن الكلمة تستخدم بشكل عام للإشارة إلى كل ما هو ضد الصلاح والوضع
الطبيعي او المثالي، فيقال فسد الشيء اي بطل و أصبح غير صالحاً للإستخدام فيقال
فسد الطعام اي تلف، وفسد العقد اي بطل. .
هناك عدد من التعريفات للفساد في الدراسات
الحديثة لاسيما الإدارية والسياسية والقانونية، وهي بشكل عام تتفق على وجود إساءة
لإستغلال السلطة لتحقيق مكاسب ومنافع بطرق ملتوية وغير سوية. يقول التعريف الشائع المستخدم من منظمة
الشفافية الدولية للفساد بأن الفساد هو إساءة إستغلال السلطة لتحقيق مكاسب خاصة.
هذا التعريف المختصر الجامع يشير لأركان عملية الفساد مع إبراز علاقة ممارسة الفساد
بالسلطة والنفوذ بغض النظر عن نوع السلطة او مكان وجودها، فهي قد تكون في مؤسسات
الدولة او في المؤسسات الخاصة. فالفساد
ليس حكراً على مؤسسات الدولة، فيمكن ممارسته في القطاع الخاص عبر القائمين على أمر
هذه المؤسسات الخاصة عبر التلاعب في النظم الإدارية والمالية للمؤسسة، او
المحسوبية في التوظيف والإستخدام، او إرساء الخدمات والمعاملات لعملاء محددين دون
غيرهم، او المساهمة في إفساد المؤسسات الحكومية بتقديم الرشاوي، او التورط في غسل
الأموال وتوظيف الأموال المشبوهة والأموال ذات المصادر الإجرامية.
من حيث الحجم والانتشار، يمكن تقسيم الفساد
الى لقسمين هما: الفساد الكبير او الأكبر ويظهر دوماً في الأنظمة التي تغيب فيها
معايير الشفافية. خطورة هذا النوع من الفساد هو تأثيره على الحياة العامة بشكل عام،
وفي توزيع الثروة على أسس خاطئة، وفي تقييد القوانين او التلاعب بها، وتكليفه
للدولة مبالغ ضخمة. معاملات الفساد هنا تكون في المشتريات العمومية، وفي نظم إرساء
العقود والمناقصات، وكذلك في المبيعات العامة بما فيها الموارد الطبيعية المختلفة. ويمارسه مسؤولون من الدرجات والمسؤوليات
الكبيرة. اما النوع الثاني فهو الفساد
الصغير و يظهر عند المستويات الدنيا من الموظفين، وهو لا يتعدى الحصول على منافع
مالية بسيطة او هدايا نظير تقديم خدمات حكومية عادية او إستخدام العلاقات الشخصية
في تحقيق مكاسب مالية وغير مالية. وهو رغم أنه أقل خطورة من النوع الأول إلا أنه
يتضمن مخاطر كبيرة علي ثقافة النزاهة والإنضباط المطلوبين لدي موظفي الدولة، وهو
مدخل للفساد الكبير بحكم أنه يساهم في إستسهال الإستفادة الملتوية من الأموال
العامة وخلق مناخ إجتماعي وثقافي يتعايش مع الممارسات الفاسدة، والتلاعب بالقوانين والتسيب في
تنفيذها.
للفساد صور عدة ومظاهر شتى، ومنها الفساد السياسي، ويقصد به الفساد الذي يؤثر على
النظام السياسي والعمليات المتعلقة بالحكم وإدارة الدولة، وهو نوع خطير من الفساد
بحكم كونه يقود لتبعات سالبة على إستقامة النظام السياسي وسمعته ونزاهته. من مظاهر
الفساد السياسي مخالفة القواعد والأحكام التي تنظم إدارة الدولة والنظام السياسي
والتحايل علي النظم والقوانين وإستخدام الأساليب الملتوية في الانتخابات منها
التزوير بما يقود لتمثيل غير حقيقي في المؤسسات النيابية وتشويه الممارسة
الديمقراطية عبر عمليات شراء الاصوات والولاءات بصور غير مشروعة، وتحكم الحكام والمسؤولين في الموارد العامة
وتوجيهها بطرق خاطئة، وتقويض ثقافة المساءلة والشفافية . ويكون هذا النوع أكثر
وضوحاً في النظم الشمولية التي يتحكم فيها شخص او مجموعة في القرار، كما يمكن أنه
ينتشر في النظم الديمقراطية لا سيما عبر التلاعب بنتائج الانتخابات. وهناك الفساد الإقتصادي والمالي وهو الإنحراف في
تطبيق القواعد والنظم المالية، والتلاعب في المستندات المالية، وفئات الموازنة
العامة، وفي التقارير المالية بتضمينها معلومات متحيزة وغير سليمة بما يساهم في
تغطية الفساد وإخفاء البيانات المتعلقة به. وتوجد صورة اخرى من الفساد وهو الإداري وهو وثيق الصلة بالفساد السياسي والفساد
المالي، ويتمثل في عدم التقيد بالنظم الرقابية والمحاسبية وإنتهاكها والتلاعب بها.
خطورة هذا النوع من الفساد في تأثيره السالب علي مهنية وإنضباط الأجهزة الادارية
في الدولة. واخيراً يوجد الفساد الإجتماعي والإخلاقي وهو إنتهاج ممارسات لا يقبلها
الذوق السليم والأخلاق والأعراف السليمة.
هناك انواع عديدة من اساليب الفساد يمكن
تحديد اشهرها في الرشوة، وهي أبرز أنواع الفساد وأكثرها ممارسة، وغالباً ما تكون
في صيغة تقديم مقابل مالي لموظف او مسؤول نظير السماح بإنتهاك القانون او السكوت
عن مخالفة. وفي مجملها، إتفاق بين طرفين لإنتهاك القانون وأحياناً يكون بينهما
وسيط. وتعطى الرشوة لإبطال حق او لإحقاق باطل. كما تعرف ايضاً بأنها إتجار الموظف
العام في أعمال وظيفته بتقاضيه او قبوله او طلبه مقابلاً نظير قيامه بعمل من أعمال
وظيفته او إمتناعه عنه. وهناك ممارسة الإختلاس،
وهي ايضا ترتبط بالسلطة والنفوذ عبر قيام موظف او مسؤول بإستغلال صلاحياته في تحويل ملكية أموال او
أصول غير مالية لمصلحته الخاصة دون وجه حق، اي بمعني الإستيلاء عليها. ومن ممارسات
الفساد، الإبتزاز ويعني إستخدام الصلاحيات التي توفرها السلطة لإجبار شخص لفعل شيء
في مصلحة الشخص صاحب السلطة، اي القيام بالتهديد بكشف معلومات معينة عن شخص، او
التهديد بإلحاق الاذى المعنوى او المادي بالشخص الخاضع التهديد إن لم يقم
بالإستجابة الى بعض او كل طلبات الشخص المبتز، فالابتزاز ايضا يترتبط بالنفوذ
واستغلاله في الحصول على الرشاوي والمكاسب. ومن ممارسات الفساد، الغش والإحتيال والمقصود
بالغش هو الخداع الذي يتسبب في حرمان شخص او مجموعة من حقوقهم او المنفعة بطرق
احتيالية، واستفادة المحتال او الغشاش من عملية الغش بمعني التلاعب في الأوراق
الرسمية او الماركات التجارية او إخفاء الخلل في البضاعة او المنتج بغرض خداع
المستهلك او استلام البضائع او الحصول على الخدمات وتقديم شيك مالي على حساب لا
رصيد فيه نظير ذلك. هناك صورة اخرى من الفساد المرتبط بالسلطة وكذلك بالثقافة وهو
فساد المحاباة والمحسوبية والمقصود بهما
إستغلال السلطة في تقديم خدمات تفضيلية للاقرباء والاصدقاء وتسهيل حصولهم على
الخدمات او الوظائف او غيره من المنافع استناداً على قربهم من المسؤول متجاوزين الآخرين
الذين لا يحظون بهذه العلاقة. كما تعني المحسوبية تبادل الخدمات مقابل الدعم
السياسي بين اعضاء المجموعة المتنفذه سواء في السلطة او قطاعات الاعمال او الجهات
المؤثرة مثل الاعلام والاحزاب. ومن ممارسات الفساد التلاعب في المستندات ويحدث
التلاعب في المستندات غالباً بغرض إخفاء عمليات السرقة او التجاوزات والمخالفات المالية
او الادارية، كما يمكن ان يحدث لتغطية جرائم الإختلاس والسرقة عبر التلاعب في
المستندات المالية حتي يصعب علي المراجع المالي والاداري اكتشافها. و تعتبر جريمة تبييض
الأموال من أخطر ممارسات الفساد في عصرنا
الحالي، فالمقصود بغسل وتبييض الأموال هو إعادة إستخدام الاموال ذات المصادر المشبوهة
والمحرمة في أنشطة مشروعة بغرض اضفاء شرعية عليها، ويتم هنا استغلال شركات ومؤسسات
مالية قائمة او انشاء أعمال تجارية لاستيعاب هذه الاموال او نقلها لدول اخرى بغرض
التبييض وابعادها من مناطق مصادرها الاصلية.
بما ان الفساد ظاهرة تتداخل فيها جملة من
العوامل، يتطلب تحليله وتشخيصه قدر كبير من المرونة التي تسمح باستخدام عدد من
المقاربات بما فيها الابعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية
والاقتصادية. وبالطبع هناك عدد من الاسباب التي تسمح بظهور هذه الظاهرة وتناميها
وتطورها ويمكن تلخيصها في بعض الأسباب المتعلقة بالنظام السياسي ونظم الإدارة
العامة وأسباب أخرى متعلقة بغياب التوعية وضعف ثقافة النزاهة . من اهم الاسباب
والدواعى هشاشة النظام السياسي، وضعف مؤسسات ونظم الرقابة السياسية والادارية
والمالية ، وغياب المساءلة بكل صورها او بعض صورها، ووجود ثقافة متساهلة في التعامل
مع القوانين والنظم والاموال العامة، والمركزية المطلقة في ادارة المؤسسات العامة
وتكدس السلطات والصلاحيات عند شخص محدد ومستوي محدد بما يسمح له باساءة الاستغلال،
وقصور تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ( القضائية، التنفيذية، التشريعية)
الذي يسمح بمراقبة السلطات لبعضها البعض، وإنعدام
الشفافية في القطاعين العام والخاص والعمل بنظام سرية المعلومات وحرمان الجمهور من
الاطلاع عليها، وضعف وسائل الاعلام والمجتمع المدني، وضعف التشريعات واللوائح التي تنظم العمل
الاداري والمالي، وضعف الكفاءة المهنية والإلتزام باخلاقيات المهنية لدي المسؤولين
والموظفين وصناع القرار الامر الذي يجعلهم عرضة للفساد، وغياب القدوة المهنية لدي
قيادات الخدمة العامة والمسؤولين في الدولة المتمثلة في الانضباط والالتزام
باللوائح والحرص علي النزاهة والبعد عن الشبهات والمحاباة الأمر الذي يساهم في
تشجيع صغار الموظفين في الخدمة العامة في استسهال ممارسات الفساد. ومن الأسباب
المؤذية للفساد ضعف الرواتب لموظفي القطاع العام مما يساهم في جعلهم عرضة للرشي، واختلال
موازين توزيع الثروة بين افراد المجتمع وغلبة الشعور بالغبن لدي افراد المجتمع مما
يدفع بعضهم الي ابتداع وسائل التربح غير المشروع والارتشاء واختلاس الاموال العامة
كمحاولة فردية او منظمة غير مشروعة لاعادة التوازن، وضعف الوعي بخطورة ممارسات الفساد واضرارها لدي
الموظفين وصناع القرار والمواطنين الامر الذي يساهم في تورط بعض الموظفين في
ممارسات الفساد دون وعي وادراك بمخاطرها او علم انها بالفعل رشوة ( جريمة) تترتب
عليها مسؤوليات امام القضاء مثل المحسوبية والاتجار بالنفوذ وتمرير التسهيلات
واستلام الهدايا العينية والمبالغ البسيطة.
وتقود كل هذه الممارسات الفاسدة الى إنعدام
او إهتزاز الثقة في النظام السياسي والاجهزة العدلية والنيابية بما يقود الي تصاعد
السخط الذي يقود للتمرد والعصيان والخروج علي الدولة والنظام، وتؤثر سلباً على
عملية البناء الوطني. كما تؤثر هذه الممارسات علي تماسك نسيج المجتمع وتقود الى سلوكيات
غير صحية مثل انتشار الانانية وضعف الانتماء الجماعي والاحساس بالمسؤولية العامة
وانتشار روح الاحباط مما يؤثر سلباً على الانتاج والمبادرات. ويقود إستمرار
ممارسات الفساد الى تفشي ثقافة متساهلة مع عدم الانضباط والإلتزام بأخلاقيات العمل والقيم السمحة وشيوع حالة ذهنية
تبرر الفساد. ولايقف أثر الفساد السياسي والاداري على إفساد مؤسسات الدولة فقط بل تنسحب أمراضه لتغطي
قطاعات أخرى حيث يساهم في إفساد وسائل الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات
الدينية عبر تكوين شبكات علاقات مصلحية بين المسؤولين والسياسيين ورجال الاعمال
الفاسدين وقادة وكوادر هذه المؤسسات واستغلالهم في تغبيش وعي المجتمعات وتبييض أعمال
المسؤولين ورجال الأعمال الفاسدين وتقديمهم في ثوب رجال صالحين للمجتمعات.
في نهاية المقال نخلص الي أن عملية التصدي
للفساد تتطلب نهجاً متكاملاً يتناسب مع المشكلة نفسها في أبعادها المؤسسية
والثقافية وان لا يتم التعامل مع الأمر باعتباره سلوكاً مصحوباً فقط بالدولة
والحكم ، فالقضية ترتبط بالثقافة السلوكية المجتمعية في المقام الأول ، كما أن
الفساد يظل احدى القضايا التي تواجه كل العالم والمجتمعات بغض النظر عن نموها
وتطورها ويأخذ اشكالاً مختلفة في كل بيئة، فهو في جوهره نابع من غرائز الانسان في الإنانية،
وحب التملك، والخوف.