الاثنين، 28 مايو 2018

إحتفال الذكري 160 لسلاطين باشا بفيينا: تاريخ درامي لمغامر أوروبي ساهم في توثيق وتشكيل تاريخ السودان


بدعوة كريمة من السيد باول سلاطين رئيس جمعية الصداقة النمساوية السودانية، تشرفت في منتصف مارس الماضي بالمشاركة في الحفل الذي أقيم بمناسبة الذكرى ال 160 للسيد كارل رودلف سلاطين (السيد سلاطين باشا كما هو شهرته في السودان)  في فيينا في  الحي الثالث عشر الذي شهد ولادته وطفولته ثم ضم رفاته بعد وفاته. كان الحضور كبيراً من قبل المهتمين بالتاريخ النمساوي ومن بعض أساتذة التاريخ بجامعة فيينا وكذلك من ممثلي المجتمع السوداني في النمسا. تخلل الإحتفال تقديم محاضرتين عن سيرة السيد سلاطين باشا لا سيما تجربته في السودان، وكذلك عن مفهوم الدولة الاسلامية في الماضي والحاضر تولي تقديمهما المحاضرين في جامعة فيينا السيد الدكتور روبرت فيشر والدكتورة قولدرون هار  . كما تم عرض بعض مقتنيات السيد سلاطين وهي سيفه وجبة دراويش المهدية التي كان يلبسها وكذلك البزة العسكرية  
صورة سلاطين بالزي العسكري وسيرته الشخصية
ينحدر سلاطين من أسرة ذات جذور يهودية تحول أسلافها الي المسيحية وعمل جده في بلاط الأسرة الملكية (هابسبورج ) التي حكمت الإمبراطورية النمساوية المجرية . ويبدو ان سلاطين كان عميق الإلتزام بالديانة المسيحية وقد عكس ذلك في اكثر من نقطة في كتابه المشهور الذي سنتطرق الي بعض فقراته في هذا المقال . من الامور التي تشير الي عمق عقيدته عودته للكنيسة وأداء مراسم التعميد في ايطاليا بغرض التحلل من عقيدة الاسلام الذي اعتنقها تحت ظروف قاهرة .
إرتبطت حياة سلاطين بالسودان الذي قضي فيه أجمل سنوات عمره اي شبابه . كانت رحلته الاولى لمصر و السودان في 1874 في بواكير صباه وهم لم يتجاوز بعد ال 17 ربيعاً حيث قضي عامين وصل فيهما الي وسط السودان في جنوب كردفان حيث مركز البعثة التبشيرية النمساوية، وهي بالمناسبة أول بعثة تبشيرية مسيحية اوروبية تدخل السودان وسبقت بعشرات السنوات دخول الكنائس البريطانية والامريكية التي نجحت فيما بعد في نشر المسيحية في جنوب السودان تحت رعاية الحكم الثنائي الذي كان سلاطين أحد بناته وعرابيه. الرحلة الثانية لسلاطين بدأت قي ديسمبر 1878 بعد تعيينه في الإدارة المصرية في السودان، وهي وظيفة سعى لها عبر صديقه أمين باشا ( ادوارد اشنيتسر) حاكم الاستوائية، الألماني الاصل والذي يتشارك مع سلاطين في الأصول اليهودية، وكانت هذه الرحلة هي الأطول لانه ما أن وصل السودان وإنخرط في أعمال الادارة بسنوات الا وقد قامت الثورة المهدية التي قضى اكثر من عقد من السنوات في اسرها،  وامتدت هذه الرحلة في مجملها الي ال 17 عاما وانتهت بقصة هروبه الدرامية الي مصر. اما العودة الثالثة والأخيرة للسودان بدأت مع الجيش البريطاني المصري الذي غزا السودان في 1899 وهو غزو ساهم فيه سلاطين عبر حملة التشجيع لغزو السودان التي قادها في اوروبا والقاهرة، وعمل في الادارة المدنية التي حكمت السودان وكان الساعد الايمن والمستشار الاول للحكام البريطانيين للسودان  حتي 1914 حيث إضطر لتقديم إستقالته لحساسية وضعه كمواطن نمساوي بعد إندلاع الحرب العالمية الاولي التي وقفت فيها النمسا وبريطانيا التي يعمل في إدارتها على طرفي نقيض فآثر الانسحاب من الادارة البريطانية ومغادرة السودان والعودة للنمسا ليقضي فيها بقية حياته. يمكن القول انه لولا الحرب العالمية الاولى وما فرضته من ظروف، فقد كان يمكن لسلاطين باشا الاستمرار في مواصلة حياته في السودان وقد كان من الممكن ان يكون أحد الحكام العامين الذين حكموا السودان في تلك الفترة. 
جبة الانصار التي كان يلبسها سلاطين في ام درمان
 
سيف سلاطين
 ذكر سلاطين انه عمل في فترة تعيينه الاولى كمشرف لتحسين نظام الضرائب، وقام بجولة في منطقة النيل الازرق وقد وصف سلوك الاداريين في الإدارة التركية المصرية بالفساد والظلم واعتقد انه كان مصيبا في هذه النقطة فبقراءة جذور الثورة المهدية لا يمكن وصفها سوي انها هبة شعبية ضد ممارسات ظالمة كانت تقوم بها تلك السلطة . قامت الثورة في اكثر من موقع في السودان وبشكل متزامن في وقت لم يكن مفهوم الوطنية راسخاً كما ان اواصر الراوبط بين الاقاليم السودانية لم تكن قوية كما هو الحال الا انهم كانوا متفقين في ثورتهم ضد سلطة استعمارية مركزية قاهرة . وذكر سلاطين انه كما اورد استقال عن هذه المهمة لاحقا  بعد تقريره لغردون باشا الذي كلفه بمهمة حكم دارفور وهي المهمة التي اوقعته في يد المهدية. من المؤكد ان  سلاطين تصرف بذكاء وحيلة نجح عبرها على الاقل في المحافظة على حياته حيث لم يكن امامه في ظل تمرد قبائل رئيسية في دارفور ضد حكمه تحت راية المهدية والذي تزامن مع انقطاع خطوط اتصاله بالخرطوم والقاهرة بعد سقوط الابيض في يد المهدي حيث اثر الاستسلام دون مخاطرة حيث اعلن اسلامه وتبعيته للمهدية لكن قواد المهدية لاحظوا تحركاته المشبوهة في ام درمان ومحاولته الهروب وقيدوا الخناق عليه .
 بغض النظر عن إختلاف وجهات النظر حوله، يعتبر سلاطين شخصية مهمة في تاريخ السودان المعاصر لعبت ادوراً مؤثرة في مراحل مفصلية في تاريخ السودان. كان سلاطين شاهداً على إنهيار الدولة التركية المصرية في السودان، وشاهداً على صعود وهبوط الدولة الوطنية المهدية ومساهماً رئيسياً في عملية إعادة الاستعمار البريطاني المصري بعد العام 1899 والذي استمر في خدمته حتي العام 1914. ساهم سلاطين في تشكيل هذه التحولات الدراماتيكية في تاريخنا كما يعتبر كتابه من أهم الكتاب الذي وثقت لنا تاريخ دولة المهدية عبر الاحداث التي عايشها وعبر عنها على الأقل من وجه نظره فالملاحظات الواردة في كتبه السيف والنار في السودان تعكس بعضاً من حقائق الواقع آنذاك ان لم تعكس كلها وان إنطوت على إنطباعات شخصية ومبالغة في وصف الأمور وتحامل واضح . وصف سلاطين الحالة العامة في سودان المهدية وطريقة ادارة الحكم بل حتي انه وصف الملامح الطبيعية والشكلية  لقادة المهدية بالتفصيل بحكم انهم عاشرهم ومن المؤكد ان تلك الاوصاف استخدمها الذين حاولوا رسم صور تقريبية عن شخصيات مثل المهدي والخليفة عبد الله وحمدان ابوعنجة ويعقوب جراب الرأي وغيرهم من قادة ذلك العهد .
ينتقد الكثير من السودانيين كتاب سلاطين عن السودان الذي اصدره عاكساً فيه تجربته لا سيما في النقاط التي أبرز فيها سخريته وإمتعاضه عن الحياة وسلوك الناس وهو لا يتردد في كثير من كتاباته إظهار الفرق بين الحضارة في الغرب والتخلف في مجتمعات الشرق والنظرة بصورة فيها إستعلاء تجاه حياة الناس وممارساتهم . لكن هناك بعض الإعتبارات يجب ان يقدرها  المنتقدين ومنها الظروف التي عاشها سلاطين الذي انحدر به الحال من حاكم لواحدة من اقاليم السودان الكبيرة والثرية حينها ( دارفور) الي أسير  او إنسان اكثر من عادي او شخص مشكوك في انتماءه في ظل نظام سياسي تشكل نتيجة ثورة وعنف ويواجه خصوم يحاولوا القضاء عليه، كما أن الكتاب نفسه ليس بحث اكاديمي يخضع لقواعد ونظم البحوث العلمية فهو مذكرات شخصية لشخص عرض فيه تجربة حياته ولا ننسي ان سلاطين نفسه ذهب للسودان بطوع نفسه كشاب مغامر ضعيف الخبرة المهنية والمعرفة العلمية  ، فحتي دارسته الاكاديمية في مدرسة التجارة بفيينا لم يكملها كما تقول المصادر  ، كما انه لم يكن عسكريا تلقي التدريب المطلوب في القتال والعلوم العسكرية،  فحتي مشاركته في حرب البوسنة لإلحاقها بالامبراطورية النمساوية المجرية في العام 1877 لم تكن الا في اطار مهمته لاداء الخدمة العسكرية وبالتالي يمكن القول انه لم يكن جنديا محترفا في القتال او صاحب درجة قيادية في العلوم العسكرية . من الملاحظات التي توضح تحامله والمبالغة في وصف الامور القصة التي اوردها بشان النسوة اللائي شاهدن في ام درمان وهن ياكلن جحش صغير حديت الولادة مباشرة دون حتي طبخه في اطار وصفه لحالة المجاعة ولا يمكن تصور هذا المشهد بالصورة التي كتبها سلاطين . من الممكن بالطبع اكل لحم الجحش لكن بعد الطهي .
طبعت النسخة الاصلية  من كتاب سلاطين باللغة الالمانية ثم ترجمت الي اللغات الاخري مثل الانجليزية والعربية ، وحقق الكتاب نسبة مبيعات عالية في بداية القرن العشرين في اوروبا ، كما نجح في تعبئة الراي العام البريطاني ضد الدولة المهدية في السودان مما دفع البريطانيين في التفكير الجاد في إستعمار السودان  وقد انخرط سلاطين بعد نجاته من اسر المهدية في حملات مستمرة لاقناع بريطانيا والراي العام الاوروبي باعادة استعمار السودان وانهاء حكم الخليفة وقد نجح في ذلك بل ذهب مشاركا في حملة فتح السودان بقيادة كتشنر باشا وقاد بحكم معرفته للغة العربية والمجتمع السوداني مفاوضات مع زعماء القبائل المحلية لقبول الحكم الجديد وعدم الاعتراض عليه . 
النسخة الالمانية لكتاب السيف والنار في السودان التي ترجمت منها النسخات المطبوعة باللغات الاخرى
من الملاحظات التي يمكن استخلاصها من بين سطور كتابات سلاطين هو انه لا يفرق كثيراً بين السودانيين حيث يتعامل معهم ككل واحد ولم يكلف نفسه للبحث كثيرا عن اصول القبائل ومناطقتها ونفوذها بالطريقة التي تضمنتها كتب الاداريين البريطانيين الذين كتبوا فيما بعد . كما أبرز لنا الكتاب المزاجية الصعبة للخليفة عبد الله التعايشي الذي حكم السودان في تلك الفترة وهي مزاجية تجمع بين الذكاء والإصرار والشك والقسوة تجاه الخصوم  ، وهي صفات قد ساهم سلاطين في ترسيخها لدي المثقفين السودانيين الا انها سائدة ايضا الي حد ما في التاريخ الشفاهي والانطباع العامة. عبد الله التعايشي هو القائد الفعلي للدولة المهدية ويعتقد البعض بانه هو الذي أدخل فكرة المهدية في عقل محمد احمد المهدي نفسه كما انه هو الذي تبني مهمة حشد وتعبئة القبائل لاسيما في غرب السودان لدعم المهدية وتبني افكارها . وكانت العلاقة بين الخليفة وسلاطين قائمة على الحذر والشكوك ، كان سلاطين يخشي من عنف الخليفة فيما لا يطمئن الخليفة من جانب سلاطين الذي كان يلقبه بشويطين . ربما كان الخليفة محقاً في شكوكه حول الرجل ، فقد أثبتت التجربة انه كان بالفعل انساناً خطيراً حاول استغلال كل شيء للمحافظة على حياته ومنها طريقته في إعتناق الاسلام وقبول حكم المهدية وبل ملازمة الخليفة والمسجد اكثر من عشرة اعوام ومن ثم الهروب بطريقة اكثر درامية والعودة في كنف جيش غازي ساهم في تشكيله  للانتقام من خصومه الذين صبر عليهم لسنوات.
ابدى سلاطين اعجابه ببعض الشخصيات السودانية التي عاصرها او التقي بها ومنها بالطبع الأخوين ابوكدوك الذين صاحباه في دارفور وام درمان ، وكذلك الشابين من قبيلة الكبابيش الذي نجحا في تهريبه من ام درمان .  الشخصية الاخرى والاكثر اهمية له كانت حامد جرهوش وهو الشخص الذي تكفل بترحيله من نواحي بربر الي اسوان ، وهو كما يوضح ينتمي لعرب العامراب وهم احدي فروع قبيلة البشاريين ( احدي كبريات قبائل البجا ) وقد وصفه سلاطين بانه من أقوي الاشخاص شكيمة من الذين التقي بهم في السودان ونقل الحوار الذي دار بينهما وكان لغة التفاوض البراغماتي واضحة بينهما حيث ذكر له جرهوش لسلاطين منذ البداية انه يقوم بالمهمة من اجل مصلحته ووعده سلاطين بالمبلغ المحدد ووافق جرهوش مشيراً الي ثقته في وعد الرجل الابيض ( الاوروبي ) الذي لا يكذب وهو انطباع موجود لدي غالبية السودانيين عن الاوروبييين .
عملية هروب سلاطين قصة طويلة ومتسلسلة ساهم فيها عدد كبير من السودانيين لا سيما تجار وزعماء قبائل وتحديدا من قبائل الجعليين والانقرياب والعبابدة والكبابيش الذين كانوا من المناوئين لحكم الخليفة حيث نجح هؤلاء في خلق حلقة الوصل بين سلاطين والقنصل النمساوي بالقاهرة واسرة سلاطين بفيينا عبر نقل المراسلات ودفع الاموال للعمال والرجال الذين نفذوا بالشكل الميداني عملية التهريب من ام درمان الي مصر . كان ونجت باشا حاكم سواكن ورئيس  المخابرات البريطانية دورً كبيراً في ذلك ( إمتدت الصداقة بين سلاطين وونجت فيما بعد حين صار ونجت باشا حاكما ً عاماً للسودان خلال الفترة 1899 – 1916 وعمل سلاطين بمثابة المساعد الاول له ) . وكما تشير سطور الكتاب رغم انه لم يقل ذلك صراحة ان سلاطين آثر عدم الاستمرار في الزواج في السودان فحتي زوجاته تخلص منهن بسرعة ومن المؤكد انه كان يخطط للهروب كما انه كان يتعامل مع اشخاص يخاف عليهم من إفتضاح أمرهم وبالتالي كان يفضل حياة العزوبية حيث استغني عن أول زوجة قدمها له الخليفة ثم إستغني عن الزوجة الاخري المسماة فاطمة البيضاء نسبة لكثرة الزوار الذين يترددون عليها من اهلها .ولم يثبت ان سلاطين خلف ذرية في السودان رغم زواجه والفترة الطويلة التي قضاها هناك ولم يشير لاسرته ان ابناء له بالسودان كما جاء على لسان حفيده باول سلاطين  فذريته الان تتكون من ابناء ابنته الوحيدة التي ولدت بعد عودة سلاطين الي النمسا وزواجه هناك.
ستظل قصة سلاطين احدى أهم قصص تاريخنا الوطني المعاصر وهي بالفعل تصلح مجالاً للبحث والدراسة كما يمكن ان تشكل رصيداً لعمل درامي من وجهة النظر السودانية بدلاً من وجهات النظر الاخرى التي تتعامل مع القصة بخلفيات مختلفة . هناك الكثير من الدروس المستفادة من القصة منها النتيجة التي قد يحققها الإصرار على تحقيق الهدف والصبر على المكاره كما انها تشير الي أهمية الحرص والذكاء الاجتماعي في حفظ العلاقات وتطويرها وإتقاء شرور الاخرين لا سيما الاقوياء منهم وانت في لحظات ضعف .
البزة العسكرية لسلاطين باشا

ميدالية الصليب الاحمر المقدمة لسلاطين تقديرا لعمله ضمن انشطة الصليب الاحمر في النمسا بعد عودته النهائية من السودان