لتاكسي القاهرة نكهة خاصة قد لا تجدها عند
التاكسي في الانحاء الاخري من العالم. ليست النكهة المقصودة هنا جودة الخدمة او
نوعية السيارات لكن ترجع الي سائقي سيارات التاكسي من الاشقاء المصريين الذين
يتسمون بقدر كبير من الفكاهة والدعابة والقدرات العالية في الحكي وسرد القصص و
التعليقات العابرة التي لا تخلو في كثير من الاحيان من السخرية اللطيفة. هذه
المزايا لا تجدها عند سائقى التاكسي في الدول الاخري خصوصاً في اوروبا، حيث تغلب عليهم صفات الصرامة والميل الي السكوت.
لو كنت محظوظا وانت في القاهرة، ستجد نفسك في معية سائق تاكسي من فئة الكبار في
السن وبالطبع سيشغل وقتك معه وسيمتع اذنيك باستماع عدد من قصص حياته وتعليقاته
الساخرة واحاديثة التي تتناول موضوعات عدة تبدأ بالحكاوي والتجارب مروراً بتعليقات
عن المشاهير والافلام انتهاء بالسياسة التي يتكلمون عنها بشكل يخلط بين الحذر
والسخرية الحريصة اي غير المسترسلة حيث يحاولون عدم الخوض فيها بتفاصيلها . ربما
يقصد سائقي التاكسي القاهريين كسر رتابة المشاوير في مدينتهم المزدحمة ، او يعملون
ذلك بهدف كسب الزبون علي أمل إستمرار صلة المصالح.
في كل مرة ازور فيها القاهرة ، اخرج بكم
هائل من القصص التي اسمعها منهم واحيانا من طريقة تعاملهم مع الاخرين . تجربتي
الاولي كانت في العام 2006 وهي المرة الاولي التي ازور فيها المحروسة، واذكر انني استغليت
تاكسياً في الجيزة الي حيث الاهرامات . عندما علم السائق جنسيتي السودانية، سالني
مبادرا هل تعرف احسن رئيس مر علي السودان قلت له من هو قال لي الرئيس جعفر النميري
فقلت له انني اختلف معك تماما فليس هو احسن رؤساء السودان وعددت له بعض الاخطاء
التي اراها من جانبي ، ووجدت الرجل غير مكترث بتفاصيل حديثي فعندما لاحظت الحيرة
عليه واستغرابة لردي الجاد على تعليقه قلت يا اخي انا معجب بسياسة الرئيس مبارك وهدوئه
واتزانه وقدرته علي موازنة الامور في بلاده ودورها الخارجي واهتمامه بمعاش الناس
وامنهم وتقبل النقد والمعارضة . وعندما لاحظت عدم استحسانه لحديثي وبعد فترة صمت
لبرهة، قلت له مداعباً لو قدمتم لنا
كاشقاء لكم خدمة سنشكركم عليها قال لي ما هي هذه الخدمة قلت له ان تقوموا بتسليفنا
الرئيس مبارك لمدة سنتين، فما كان منه الا وقال رافعاً يديه ( ياعم مش سنتين ،
خدوه معاكم على طول) فانفجرت ضاحكاً لرده الانفعالي اللطيف.
في زياتي الاخيرة للقاهرة في الشهر الماضي
، ربطتي صلة مع احد سائقي التاكسي الذي اتفقت معه بصورة غير رسمية علي كل مشاويري
طيلة الايام التي ساقضيها في المدينة وكان على قدر المسؤولية ولم ار منه الا
الجدية والصبر والاستعداد التام على الخدمة . اسمه جميل وبالفعل كان جميل الخصال
هدوءا وصبرا وكنت اناديه بعم جميل، كما توحي ملامحه فهو في الستينيات من عمره يضع
نظارة طبية على عينيه ، فذكر لي انه موظف سابق احيل الي المعاش واتخذ من مهنة
التاكسي طريقا لكسب معيشته . تختزن ذاكرته قدر كبير من القصص والحكاوي التي يزيدها
لطفا بتعليقاته الطريفة وقدرته على الحكي والسرد . من اساليبه في السرد البدء بسؤال
استفساري لشد انتباهك فمثلاً يقول تعرف ايه عن اثار مصر الاسلامية او هرم خوفو ؟ وعادة
ارد عليه بعدم المعرفة الدقيقة ويبدأ في الاستعدال قائلا : طب كويس انا حاكلمك
ويبدأ في القصة. أخذني في مشاوير انا واسرتي الي مواقع كثيرة في القاهرة شملت
الاهرامات ووسط البلد وجامعة القاهرة وبانوراما اكتوبر والزمالك وخان الخليلي
والحسين والسيدة زينب والفسطاط. من
الاشياء الرائعة انه كان يحتفظ بحل لكل مشكلة فضلا عن استعداده الدائم للمساهمة في
حلها. يحتفظ في هاتفه بقائمة مطولة من الارقام التي تربطه بالفنادق والمواقع
السياحية واصحاب الخدمة . هناك مواقف
كثيرة اتذكرها لها في طريقة ردوده وكلامه مع الاخرين. كنت بصحبته ومررنا بتقاطع
ساحة عبد المنعم رياض بوسط البلد وهي منطقة مزدحمة تمر بها عدد من الطرق استوقفنا
رجل شرطة طالبا منه ابراز رخصة القيادة وقام بابرازها له قائلا (مين يحاسبني على
الزمن الوقفتني ليه ) فاعاد له الشرطي الرخصة مع ابتسامة ، ربما احترم ظرافته او
جديته او شجاعته او عمره . اذكر ايضا كنا في الجيزة وسالته ان كان يعرف احد
المطاعم القريبة من المكان الذي كنا نقف فيه ، فاذا بشاب يتابع حوارنا يتدخل مشيرا
الي وجود مطعم قريب فرد عليه العم جميل قائلاً : يابني امسك عليك ودانك ) الطريف
ان الشاب انفجر ضاحكاً من الرد ولم يشعر باي احراج، وضحكنا كلنا سوياً فسالته ان كانت
بينهم سابق معرفة فنفي ذلك قائلاً : اشوفو اول مرة . هناك عدد من المواقف التي
اتذكرها له والتي كنت ادونها في ذاكرتي، لكن الملاحظ ان الذين يقوم بالتعامل معهم العم
جميل بطريقته يتقبلون تعليقاته بصدر رحب دون اي انفعال او غضب . ربما يرجع ذلك لطريقته
المحببة في التعبير الساخر غير المدعم بلغة جسد عنيفة او لصفات جميلة عند اشقائنا
المصريين تتمثل في احترام الشباب للرجال الكبار في العمر بالاضافة لاستعدادهم النفسي
للتعامل مع التعليقات الساخرة وتقبلها والتعاطي معها بسخرية مضادة .
شخصية سائق التاكسي واحدة من الشخصيات التي
تمثل حضورا كبيرا لا سيما في الافلام والروايات المصرية والعالمية لعده اسباب منها
ان طبيعة مهنة التاكسي التي تجعلها في كثير من الاحيان في موقع الاحداث وهي مهنة
مهمة وخطيرة في ذات الوقت. فبامكان سائق التاكسي الاطلاع علي معلومات واخبار قد لا
يجد الاخرين لها سبيلا كما تمنحه مهنتة فرصة التعرف علي جغرافية المدن بصورة دقيقة
بما فيها معرفة المنازل والاسر. استحضر هنا قصة حدثت لي شخصياً حيث كانت ذاهب الي
منزل أحد الاصدقاء في احدي المدن السودانية واخذت تاكسياً للوصول الي المنزل فوجدت
ان سائق التاكسي تعرف المنزل الذي قادني اليه مباشرة وقال لي بعدها ضاحكاً انه
يعرف كل أركان المدينة ومنازلها وهي خبرة قيادة التاكسي لعشرون عاماً. في الجانب
الاخر فانها مهنة خطيرة علي صاحبها ليس فقط كون انه يتحصل علي معلومات تشكل خطراً
عليه لكن فبامكانه الذهاب الي مناطق غير آمنة والعمل في اوقات صعبة متأخرة في
الليل او في الصباح الباكر وقد يعرضه ذلك الي مواقف منها السرقة او الاعتراض او
غيره مثل الإكراه علي التستر علي جريمة ام المشاركة في تسهيل الجريمة تحت وطاة
التخويف . ذكر لي سائق تاكسي انه يعاني اشد المعاناة عند الاضطرار للقيادة لشخص
مخمور او تحت وطاة تناول المدمنات التي تذهب العقل.
في الختام اود تسجيل تحياتي للعم جميل مع
تمنياتي له بدوام الصحة والعافية والعمر المديد.