المعاش هو مرحلة من مراحل الحياة الوظيفية، وهي محطة
قد يرهبها البعض لكن هناك ايضاً من يتطلع لها خصوصاً من الموظفين الذين يرغبون في التحلل
من عبء المسؤوليات الوظيفية التي اصبحت ترتبط بكثير من التحديات مع تقلب الانظمة
والنظم وقلة الحوافز، فضلاً عن رغبة البعض في التفرغ لمهامهم الخاصة في ظل تراكم المسؤوليات المتعددة في حياتنا العصرية. يذهب المئات
بل الآلاف الى المعاش كل عام، لكن هناك البعض الذين تترك مغادرتهم للمشهد المهني
فراغاً يجده الآخرين من زملائهم، والمراجعين او حتي المهتمين باعمالهم. تلقيت ببعض
الضيق خبر إحالة الاستاذ عبد الرحمن محجوب كركر الضابط الاداري القدير الى المعاش،
فالرجل من افذاذ الإداريين بولاية البحر الاحمر، وقد عمل تقريباً في كل مجالس
ومحليات البحر الاحمر لفترة تجاوزت الثلاث عقود، خبر اهلها ومشكلاتهم من شمالها في
حلايب الى طوكر في جنوبها وسنكات والقنب في غربها بالاضافة الى مدينتي بورتسودان
وسواكن. لقد تشرفت بالعمل تحت ادارته، كما سعدت كثيراً بالتواصل معه بحكم نشاطي في
العمل العام. كنت اتلمس في الرجل هدوءاً
وصبراً ووقاراً نادراً، وذكاء
اجتماعياً يمكنه من تفادي المواقف الحرجة، والتعامل مع الكل بغض النظر عن مستويات
معارفهم او طبيعة امزجتهم بالقدر الذي يستحقونه من الاهتمام والتفاعل. اشهد له
بالحصافة، والأدب الرفيع، وتحاشي الاضواء، والقدرة غير العادية للحفاظ على حياد
ومهنية رجل الخدمة العامة، وهي مهمة ليست سهلة بل امتحان يفشل فيه الكثيرون الذين
تلتقطهم جواذب النفوذ السياسي. كما أشهد له بالحرص على النزاهة والبعد عن الشبهات
و الامتثال الكامل باخلاقيات المهنة وقواعد السلوك الوظيفي، وهو معيار آخر يتساقط حياله
الكثيرين، فللسلطة مغرياتها وتحقق من المكاسب ما يأتى مباشرة و ما يأتي بطرق غير
مباشرة. ذكر لي أحد الاصدقاء أن السيد كركر في حالات اضطراره للذهاب الى المطاعم
العامة لتناول الطعام يقوم بنزع الشارات المهنية التي يلبسها الضباط الاداريين
ويخفيها في جيوبه قبل الدخول حتي لا يقوم اصحاب تلك المطاعم بتقديم خدمات خاصة له
بشكل يفوق حجم تلك التي يقدمونها للآخرين من الزبائن. وفي ذلك درس عظيم في الحرص
على النزاهة يستفيد منه ناشئة الاداريين وغيرهم من المسؤولين الذين يتخطي بعضهم
رقاب الناس في مواقع الخدمات مدفوعين بنزعات الأنانية ومحاولة التمتع بمكاسب على
اساس مناصبهم ومواقعهم الوظيفية وكثير منهم يتباهون بالازياء الرسمية في مواقع
وأزمنة لا تستدعي الظهور بها. كنت
الاحظ احترام الناس له. بالطبع لا يرجع ذلك فقط الى الاصل الكريم المعروف للرجل
وانحداره من مجموعة تحظى بتوقير الناس لاسباب دينية واخرى تاريخية بمنطقة البحر
الاحمر وشرق السودان لا يسع المجال لذكرها، ولكن ايضاً لصفات الرجل الذي يفرض
احترامه على الآخرين من خلال وقاره واحترامه لنفسه والتحكم في تعبيراته وعواطفه.
فعلاقة الناس برجال السلطة هي من أعقد العلاقات وتحكمها قيود ومحددات كثيرة لكن
أجد أن المحدد المتعلق بالاحساس بالأمان هو الأكثر تأثيراً، فالناس بطبعهم يخشون
من رجال السلطة بحكم ما في ايدي هؤلاء من أدوات القهر وعندما يطمئون لصاحب السلطة
من ناحية تخلقه باخلاق الصبر والحكمة وضبط العواطف والتعبير ولجم ميوله للعنف
والتعسف والفساد يزدادون احتراماً له، وهذا الاحترام مبعثة الثقة والاطمئنان من ابتعاد
ذلك الشخص عن اساءة استعمال السلطة.
كنت اراه وهو يطوف مناطق شمال البحر الاحمر الواسعة
والشاسعة الممتدة من السهل الساحلي والجبال بالاضافة الى منطقة المربع الصحرواي
العريض الواقعة بشمال غرب ولاية البحر الاحمر بين المنحدرات الغربية للجبال الى
النيل الكبير المعروفة بالعتمور، وهي من اكثر المناطق اهمالاً في السودان رغم انها
اصبحت في الاعوام الاخيرة مساهماً في دعم الاقتصاد الوطني بسبب انتاجها من المعدن
الاصفر. وقد سمعت منه قصص عن تلك الرحلات التي كانت تتوه فيها السيارات في الدروب
المتحركة بين رمال الصحراء و الدروب الوعرة بين الجبال، و قد كان مرتادي تلك
الاصقاع في تلك الفترة عرضة لمخاطر الضياع.
لكل مهنة تحدياتها وثقافتها المؤسسية وقيمها التي
تزرعها في ممارسيها. فمهمة الضباط الاداريين لها تعقيداتها، فمطلوب منهم التعامل
مع المجتمعات وممثليهم بكل ما يرتبط بذلك من ضغوط تأخذ الوضع الخشن المدفوع بآمال
وطموحات غير واقعية لا تتسق مع المتوفر من الامكانات والموارد، وتتصل احياناً
بدوافع شخصية او تعبيراً عن نزاعات مجتمعية، كما يتطلب من هؤلاء الاداريين التعامل
مع المسؤوليين السياسيين ولهؤلاء ايضاً اشكالاتهم منها التسرع في الوصول الى
الانجازات، والاستجابة للضغوط المجتمعية، وبعض هؤلاء الساسة تحملهم الروافع السياسية
والاجتماعية الى المواقع السامية دون المرور بالدورة الطبيعية للاعداد لممارسة
الحكم والادارة، فيذهبون الى الاخطاء المؤسسية معصوبي العينيين، اضف الى ذلك مرؤوسين
ذوي امكانات ضعفية يفتقدون المؤهلات التي تمكنهم من أداء مهامهم بالطريقة
المطلوبة. في هذه البيئة وتحدياتها، يؤدي الضباط الاداريون واجباتهم في حراسة
القوانين والميزانيات والاطر المؤسسية من جهة في ذات الوقت الذي يعملون فيه من أجل
الاستجابة لقضايا المجتمعات في الخدمات والتنمية وقضايا تنظيم الاسواق واستغلال
الموارد الطبيعية، وادارة الانتخابات ووو غيرها من المهام المتعددة، اضف الى ذلك
المطلوبات التي يفرضها النظام السياسي الحاكم الذي يصنع السياسات ويتبناها. اذا
كان الاداريون في الفترة الاستعمارية وضعوا الاسس الاولى للحكم في فيافي واصقاع
السودان فهناك ايضاً من الاداريين الوطنيين الذين بذلوا طاقاتهم في ترسيخ حكم
القانون والنظام وهم يجوبون الاصقاع ويجلسون لأهل الارياف ويسعون الى تنظيمهم
وتطويرهم والاستجابة لقضاياهم والاستماع لشكاويهم وبل نزع فتيل الازمات المحلية في
حالات كثيرة وتنظيم الانتخابات واللجان والممارسة الديمقراطية وفارسنا من هؤلاء
الذين منح شبابه وجهده لاهل تلك الاصقاع. انني موقن أن خدمة الرجل الطويلة في
مناطق الشدة تؤهله لنيل أرفع الأوسمة والانواط التي يقدمها السودان لابناءه النجباء
والذين خدموا اهله.
في الختام كل تمنياتنا بالتوفيق للاستاذ عبد الرحمن
محجوب كركر في حياته المقبلة بكل فصولها مع خالص التمنيات له بوافر الصحة
والعافية. ونثق انه سيواصل عطائه للسودان واهله سواء بنقل الخبرات او حتي تحمل
مسؤوليات اخرى. أرجو ان يعذرني اخي الاستاذ عبد الرحمن كركر لانني اعرف عنه الزهد الكامل
عن الاضواء ولكن فضلت الكتابة لاسباب منها التمثل بفضيلة الوفاء وتسليط الاضواء
للتجارب الجديرة بالاحتفاء في الادارة والحكم والتضحيات التي قدمها اشخاص كرام من خلال
عملهم في مناطق الشدة ووسط البسطاء.
عمر شريف
8 فبراير 2025